الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ذلك البيان مع هذا التوكيد يلقي في النفس أن سنة الله ماضية على استقامتها في خلقه وفي دينه وفي وعده وفي وعيده. وإذن فليستقم المؤمنون بدين الله والداعون له على طريقتهم - كما أمروا - لا يغلون في الدين ولا يزيدون فيه، ولا يركنون إلى الظالمين مهما تكن قوتهم، ولا يدينون لغير الله مهما طال عليهم الطريق. ثم يتزودون بزاد الطريق، ويصبرون حتى تتحقق سنة الله عند ما يريد.

                                                                                                                                                                                                                                      فاستقم كما أمرت - ومن تاب معك - ولا تطغوا. إنه بما تعملون بصير. ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار، وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون. وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل، إن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين، واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ..

                                                                                                                                                                                                                                      هذا الأمر للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن تاب معه:

                                                                                                                                                                                                                                      فاستقم كما أمرت .. أحس - عليه الصلاة والسلام - برهبته وقوته حتى روي عنه أنه قال مشيرا إليه:

                                                                                                                                                                                                                                      شيبتني هود ... . فالاستقامة: الاعتدال والمضي على النهج دون انحراف. وهو في حاجة إلى اليقظة الدائمة، والتدبر الدائم، والتحري الدائم لحدود الطريق، وضبط الانفعالات البشرية التي تميل الاتجاه قليلا أو كثيرا.. ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة.

                                                                                                                                                                                                                                      وإنه لما يستحق الانتباه هنا أن النهي الذي أعقب الأمر بالاستقامة، لم يكن نهيا عن القصور والتقصير، إنما كان نهيا عن الطغيان والمجاوزة.. وذلك أن الأمر بالاستقامة وما يتبعه في الضمير من يقظة وتحرج قد ينتهي إلى الغلو والمبالغة التي تحول هذا الدين من يسر إلى عسر. والله يريد دينه كما أنزله، ويريد الاستقامة على ما أمر دون إفراط ولا غلو، فالإفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته كالتفريط والتقصير. وهي التفاتة ذات قيمة كبيرة، لإمساك النفوس على الصراط، بلا انحراف إلى الغلو أو الإهمال على السواء..

                                                                                                                                                                                                                                      إنه بما تعملون بصير ..

                                                                                                                                                                                                                                      والبصر - من البصيرة - مناسب في هذا الموضع، الذي تتحكم فيه البصيرة وحسن الإدراك والتقدير..

                                                                                                                                                                                                                                      فاستقم - أيها الرسول - كما أمرت. ومن تاب معك ...

                                                                                                                                                                                                                                      ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ..

                                                                                                                                                                                                                                      لا تستندوا ولا تطمئنوا إلى الذين ظلموا. إلى الجبارين الطغاة الظالمين، أصحاب القوة في الأرض، الذين يقهرون العباد بقوتهم ويعبدونهم لغير الله من العبيد.. لا تركنوا إليهم فإن ركونكم إليهم يعني إقرارهم على [ ص: 1932 ] هذا المنكر الأكبر الذي يزاولونه. ومشاركتهم إثم ذلك المنكر الكبير.

                                                                                                                                                                                                                                      فتمسكم النار ..

                                                                                                                                                                                                                                      جزاء هذا الانحراف.

                                                                                                                                                                                                                                      وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      والاستقامة على الطريق في مثل هذه الفترة أمر شاق عسير يحتاج إلى زاد يعين..

                                                                                                                                                                                                                                      والله - سبحانه - يرشد رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من القلة المؤمنة إلى زاد الطريق:

                                                                                                                                                                                                                                      وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ..

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد علم الله أن هذا هو الزاد الذي يبقى حين يفنى كل زاد، والذي يقيم البنية الروحية، ويمسك القلوب على الحق الشاق التكاليف. ذلك أنه يصل هذه القلوب بربها الرحيم الودود، القريب المجيب، وينسم عليها نسمة الأنس في وحشتها وعزلتها في تلك الجاهلية النكدة الكنود!

                                                                                                                                                                                                                                      والآية هنا تذكر طرفي النهار - وهما أوله وآخره، وزلفا من الليل أي قريبا من الليل. وهذه تشمل أوقات الصلاة المفروضة دون تحديد عددها. والعدد محدد بالسنة ومواقيته كذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      والنص يعقب على الأمر بإقامة الصلاة - أي أدائها كاملة مستوفاة - بأن الحسنات يذهبن السيئات. وهو نص عام يشمل كل حسنة، والصلاة من أعظم الحسنات، فهي داخلة فيه بالأولوية. لا أن الصلاة هي الحسنة التي تذهب السيئة بهذا التحديد - كما ذهب بعض المفسرين - :

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك ذكرى للذاكرين ..

                                                                                                                                                                                                                                      فالصلاة ذكر في أساسها ومن ثم ناسبها هذا التعقيب..

                                                                                                                                                                                                                                      والاستقامة في حاجة إلى الصبر. كما أن انتظار الأجل لتحقيق سنة الله في المكذبين يحتاج إلى الصبر..

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم كان التعقيب على الأمر بالاستقامة وعلى ما سبقه في السياق هو:

                                                                                                                                                                                                                                      واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ..

                                                                                                                                                                                                                                      والاستقامة إحسان. وإقامة الصلاة في أوقاتها إحسان. والصبر على كيد التكذيب إحسان ... والله لا يضيع أجر المحسنين ...

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يعود السياق إلى تكملة التعليق والتعقيب على مصارع القرى والقرون. فيشير من طرف خفي إلى أنه لو كان في هذه القرون أولو بقية يستبقون لأنفسهم الخير عند الله، فينهون عن الفساد في الأرض، ويصدون الظالمين عن الظلم، ما أخذ تلك القرى بعذاب الاستئصال الذي حل بهم، فإن الله لا يأخذ القرى بالظلم إذا كان أهلها مصلحين، أي إذا كان للمصلحين من أهلها قدرة يصدون بها الظلم والفساد، إنما كان في هذه القرى قلة من المؤمنين لا نفوذ لهم ولا قوة، فأنجاهم الله. وكان فيها كثرة من المترفين وأتباعهم والخانعين لهم، فأهلك القرى بأهلها الظالمين:

                                                                                                                                                                                                                                      فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض! إلا قليلا ممن أنجينا منهم، واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين. وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ..

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1933 ] وهذه الإشارة تكشف عن سنة من سنن الله في الأمم. فالأمة التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير الله، في صورة من صوره، فيجد من ينهض لدفعه هي أمم ناجية، لا يأخذها الله بالعذاب والتدمير. فأما الأمم التي يظلم فيها الظالمون، ويفسد فيها المفسدون، فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد، أو يكون فيها من يستنكر، ولكنه لا يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد، فإن سنة الله تحق عليها، إما بهلاك الاستئصال. وإما بهلاك الانحلال.. والاختلال!

                                                                                                                                                                                                                                      فأصحاب الدعوة إلى ربوبية الله وحده، وتطهير الأرض من الفساد الذي يصيبها بالدينونة لغيره، هم صمام الأمان للأمم والشعوب.. وهذا يبرز قيمة كفاح المكافحين لإقرار ربوبية الله وحده، الواقفين للظلم والفساد بكل صوره.. إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب، إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب الله، واستحقاق النكال والضياع..

                                                                                                                                                                                                                                      والتعقيب الأخير عن اختلاف البشر إلى الهدى وإلى الضلال، وسنة الله المستقيمة في اتجاهات خلقه إلى هذا أو ذاك:

                                                                                                                                                                                                                                      ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة. ولا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك - ولذلك خلقهم. وتمت كلمة ربك: لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ..

                                                                                                                                                                                                                                      لو شاء الله لخلق الناس كلهم على نسق واحد، وباستعداد واحد.. نسخا مكرورة لا تفاوت بينها ولا تنويع فيها. وهذه ليست طبيعة هذه الحياة المقدرة على هذه الأرض. وليست طبيعة هذا المخلوق البشري الذي استخلفه الله في الأرض.

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد شاء الله أن تتنوع استعدادات هذا المخلوق واتجاهاته. وأن يوهب القدرة على حرية الاتجاه. وأن يختار هو طريقه، ويحمل تبعة الاختيار. ويجازى على اختياره للهدى أو للضلال.. هكذا اقتضت سنة الله وجرت مشيئته. فالذي يختار الهدى كالذي يختار الضلال سواء في أنه تصرف حسب سنة الله في خلقه، ووفق مشيئته في أن يكون لهذا المخلوق أن يختار، وأن يلقى جزاء منهجه الذي اختار.

                                                                                                                                                                                                                                      شاء الله ألا يكون الناس أمة واحدة. فكان من مقتضى هذا أن يكونوا مختلفين. وأن يبلغ هذا الاختلاف أن يكون في أصول العقيدة - إلا الذين أدركتهم رحمة الله - الذين اهتدوا إلى الحق - والحق لا يتعدد - فاتفقوا عليه. وهذا لا ينفي أنهم مختلفون مع أهل الضلال.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن المقابل الذي ذكره النص:

                                                                                                                                                                                                                                      وتمت كلمة ربك: لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ..

                                                                                                                                                                                                                                      يفهم أن الذين التقوا على الحق وأدركتهم رحمة الله لهم مصير آخر هو الجنة تمتلئ بهم كما تمتلئ جهنم بالضالين المختلفين مع أهل الحق، والمختلفين فيما بينهم على صنوف الباطل ومناهجه الكثيرة!

                                                                                                                                                                                                                                      والخاتمة الأخيرة خطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - عن حكمة سوق القصص إليه في خاصة نفسه للمؤمنين. فأما الذين لا يؤمنون فليلق إليهم كلمته الأخيرة، وليفاصلهم مفاصلة حاسمة، وليخل بينهم وبين ما ينتظرهم في غيب الله. ثم ليعبد الله ويتوكل عليه، ويدع القوم لما يعملون.. [ ص: 1934 ] وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك، وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين. وقل للذين لا يؤمنون: اعملوا على مكانتكم إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون. ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله، فاعبده وتوكل عليه، وما ربك بغافل عما تعملون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويا لله للرسول - صلى الله عليه وسلم - لقد كان يجد من قومه، ومن انحرافات النفوس، ومن أعباء الدعوة، ما يحتاج معه إلى التسلية والتسرية والتثبيت من ربه - وهو الصابر الثابت المطمئن إلى ربه - :

                                                                                                                                                                                                                                      وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ..

                                                                                                                                                                                                                                      وجاءك في هذه الحق ..

                                                                                                                                                                                                                                      أي في هذه السورة.. الحق من أمر الدعوة، ومن قصص الرسل، ومن سنن الله، ومن تصديق البشرى والوعيد.

                                                                                                                                                                                                                                      وموعظة وذكرى للمؤمنين ..

                                                                                                                                                                                                                                      تعظهم بما سلف في القرون وتذكرهم بسنن الله وأوامره ونواهيه.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما الذين لا يؤمنون بعد ذلك فلا موعظة لهم ولا ذكرى. وإنما الكلمة الفاصلة، والمفاصلة الحاسمة:

                                                                                                                                                                                                                                      وقل للذين لا يؤمنون: اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      كما قال أخ لك ممن سبق قصصهم في هذه السورة لقومه ثم تركهم لمصيرهم يلاقونه.. وما ينتظرونه غيب من غيب الله:

                                                                                                                                                                                                                                      ولله غيب السماوات والأرض ..

                                                                                                                                                                                                                                      والأمر كله إليه. أمرك وأمر المؤمنين، وأمر الذين لا يؤمنون، وأمر هذا الخلق كله ما كان في غيبه وما سيكون.

                                                                                                                                                                                                                                      فاعبده ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهو الجدير وحده بالعبادة والدينونة.

                                                                                                                                                                                                                                      وتوكل عليه ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهو الولي وحده والنصير. وهو العليم بما تعملون من خير وشر، ولن يضيع جزاء أحد:

                                                                                                                                                                                                                                      وما ربك بغافل عما تعملون ..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية