الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقال الملك: ائتوني به أستخلصه لنفسي.. فلما كلمه قال: إنك اليوم لدينا مكين أمين. قال: اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم.. وكذلك مكنا ليوسف في الأرض، يتبوأ منها حيث يشاء، نصيب برحمتنا من نشاء، ولا نضيع أجر المحسنين. ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ..

                                                                                                                                                                                                                                      لقد تبينت للملك براءة يوسف ، وتبين له معها علمه في تفسير الرؤيا، وحكمته في طلب تمحيص أمر النسوة، كذلك تبينت له كرامته وإباؤه، وهو لا يتهافت على الخروج من السجن، ولا يتهافت على لقاء الملك. وأي ملك؟ ملك مصر ! ولكن يقف وقفة الرجل الكريم المتهم في سمعته، المسجون ظلما، يطلب رفع الاتهام عن سمعته قبل أن يطلب رفع السجن عن بدنه ويطلب الكرامة لشخصه ولدينه الذي يمثله قبل أن يطلب الحظوة عند الملك..

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2005 ] كل أولئك أوقع في نفس الملك احترام هذا الرجل وحبه فقال:

                                                                                                                                                                                                                                      ائتوني به أستخلصه لنفسي ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهو لا يأتي به من السجن ليطلق سراحه; ولا ليرى هذا الذي يفسر الرؤى; ولا ليسمعه كلمة الرضاء الملكي السامي فيطير بها فرحا.. كلا! إنما يطلبه ليستخلصه لنفسه، ويجعله بمكان المستشار والنجي والصديق..

                                                                                                                                                                                                                                      فيا ليت رجالا يمرغون كرامتهم على أقدام الحكام - وهم أبرياء مطلقوا السراح - فيضعوا النير في أعناقهم بأيديهم; ويتهافتوا على نظرة رضى وكلمة ثناء، وعلى حظوة الأتباع لا مكانة الأصفياء.. يا ليت رجالا من هؤلاء يقرأون هذا القرآن، ويقرأون قصة يوسف ، ليعرفوا أن الكرامة والإباء والاعتزاز تدر من الربح - حتى المادي - أضعاف ما يدره التمرغ والتزلف والانحناء!

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الملك: ائتوني به أستخلصه لنفسي ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويحذف السياق جزئية تنفيذ الأمر لنجد يوسف مع الملك..

                                                                                                                                                                                                                                      فلما كلمه قال: إنك اليوم لدينا مكين أمين ..

                                                                                                                                                                                                                                      فلما كلمه تحقق له صدق ما توسمه. فإذا هو يطمئنه على أنه عند الملك ذو مكانة وفي أمان. فليس هو الفتى العبراني الموسوم بالعبودية. إنما هو مكين. وليس هو المتهم المهدد بالسجن. إنما هو أمين. وتلك المكانة وهذا الأمان لدى الملك وفي حماه. فماذا قال يوسف؟

                                                                                                                                                                                                                                      إنه لم يسجد شكرا كما يسجد رجال الحاشية المتملقون للطواغيت. ولم يقل له: عشت يا مولاي وأنا عبدك الخاضع أو خادمك الأمين، كما يقول المتملقون للطواغيت! كلا إنما طالب بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من الأعباء في الأزمة القادمة التي أول بها رؤيا الملك، خيرا مما ينهض بها أحد في البلاد; وبما يعتقد أنه سيصون به أرواحا من الموت وبلادا من الخراب، ومجتمعا من الفتنة - فتنة الجوع - فكان قويا في إدراكه لحاجة الموقف إلى خبرته وكفايته وأمانته، قوته في الاحتفاظ بكرامته وإبائه:

                                                                                                                                                                                                                                      قال: اجعلني على خزائن الأرض. إني حفيظ عليم ..

                                                                                                                                                                                                                                      والأزمة القادمة وسنو الرخاء التي تسبقها في حاجة إلى الحفظ والصيانة والقدرة على إدارة الأمور بالدقة وضبط الزراعة والمحاصيل وصيانتها. وفي حاجة إلى الخبرة وحسن التصرف والعلم بكافة فروعه الضرورية لتلك المهمة في سنوات الخصب وفي سني الجدب على السواء. ومن ثم ذكر يوسف من صفاته ما تحتاج إليه المهمة التي يرى أنه أقدر عليها، وأن وراءها خيرا كبيرا لشعب مصر وللشعوب المجاورة:

                                                                                                                                                                                                                                      إني حفيظ عليم ..

                                                                                                                                                                                                                                      ولم يكن يوسف يطلب لشخصه وهو يرى إقبال الملك عليه فيطلب أن يجعله على خزائن الأرض.. إنما كان حصيفا في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة في أشد أوقات الأزمة; وليكون مسؤولا عن إطعام شعب كامل وشعوب كذلك تجاوره طوال سبع سنوات لا زرع فيها ولا ضرع. فليس هذا غنما يطلبه يوسف لنفسه. فإن التكفل بإطعام شعب جائع سبع سنوات متوالية لا يقول أحد أنه غنيمة. إنما هي تبعة يهرب منها الرجال، لأنها قد تكلفهم رؤوسهم، والجوع كافر، وقد تمزق الجماهير الجائعة أجسادهم في لحظات الكفر والجنون.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2006 ] وهنا تعرض شبهة.. أليس في قول يوسف - عليه السلام - : اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم .. أمران محظوران في النظام الإسلامي:

                                                                                                                                                                                                                                      أولهما: طلب التولية، وهو محظور بنص قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله (أو حرص عليه) " ... (متفق عليه) .

                                                                                                                                                                                                                                      وثانيهما: تزكية النفس، وهي محظورة بقوله تعالى: فلا تزكوا أنفسكم ؟

                                                                                                                                                                                                                                      ولا نريد أن نجيب بأن هذه القواعد إنما تقررت في النظام الإسلامي الذي تقرر على عهد محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنها لم تكن مقررة على أيام يوسف - عليه السلام - والمسائل التنظيمية في هذا الدين ليست موحدة كأصول العقيدة الثابتة في كل رسالة وعلى يد كل رسول..

                                                                                                                                                                                                                                      لا نريد أن نجيب بهذا، وإن كان له وجه، لأننا نرى أن الأمر في هذه المسألة أبعد أعماقا، وأوسع آفاقا من أن يرتكن إلى هذا الوجه; وأنه إنما يرتكن إلى اعتبارات أخرى لا بد من إدراكها، لإدراك منهج الاستدلال من الأصول والنصوص، ولإعطاء أصول الفقه وأحكامه تلك الطبيعة الحركية الأصيلة في كيانها، والتي خمدت وجمدت في عقول الفقهاء وفي عقلية الفقه كلها في قرون الخمود والركود!

                                                                                                                                                                                                                                      إن الفقه الإسلامي لم ينشأ في فراغ ، كما أنه لا يعيش ولا يفهم في فراغ! .. لقد نشأ الفقه الإسلامي في مجتمع مسلم، ونشأ من خلال حركة هذا المجتمع في مواجهة حاجات الحياة الإسلامية الواقعية. كذلك لم يكن الفقه الإسلامي هو الذي أنشأ المجتمع المسلم; إنما كان المجتمع المسلم بحركته الواقعية لمواجهة حاجات الحياة الإسلامية هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي..

                                                                                                                                                                                                                                      وهاتان الحقيقتان التاريخيتان الواقعيتان عظيمتا الدلالة ; كما أنهما ضروريتان لفهم طبيعة الفقه الإسلامي; وإدراك الطبيعة الحركية للأحكام الفقهية الإسلامية.

                                                                                                                                                                                                                                      والذين يأخذون اليوم تلك النصوص والأحكام المدونة دون إدراك لهاتين الحقيقتين; ودون مراجعة للظروف والملابسات التي نزلت فيها تلك النصوص ونشأت فيها تلك الأحكام، ودون استحضار لطبيعة الجو والبيئة والحالة التي كانت تلك النصوص تلبيها وتوجهها; وكانت تلك الأحكام تصاغ فيها وتحكمها وتعيش فيها.. الذين يفعلون ذلك; ويحاولون تطبيق هذه الأحكام كأنها نشأت في فراغ; وكأنها اليوم يمكن أن تعيش في فراغ.. هؤلاء ليسوا "فقهاء"! وليس لهم "فقه" بطبيعة الفقه! وبطبيعة هذا الدين أصلا!

                                                                                                                                                                                                                                      إن "فقه الحركة" يختلف اختلافا أساسيا عن "فقه الأوراق" مع استمداده أصلا وقيامه على النصوص التي يقوم عليها ويستمد منها "فقه الأوراق"!

                                                                                                                                                                                                                                      إن فقه الحركة يأخذ في اعتباره "الواقع" الذي نزلت فيه النصوص ، وصيغت فيه الأحكام. ويرى أن ذلك الواقع يؤلف مع النصوص والأحكام مركبا لا تنفصل عناصره. فإذا انفصلت عناصر هذا المركب فقد طبيعته، واختل تركيبه!

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم فليس هنالك حكم فقهي واحد مستقل بذاته، يعيش في فراغ، لا تتمثل فيه عناصر الموقف والجو والبيئة والملابسات التي نشأ نشأته الأولى فيها.. إنه لم ينشأ في فراغ ومن ثم لا يستطيع أن يعيش في فراغ!

                                                                                                                                                                                                                                      ونأخذ مثالا لهذا التقرير العام هذا الحكم الفقهي الإسلامي بعدم تزكية النفس وعدم ترشيحها للمناصب، [ ص: 2007 ] وهو المأخوذ من قوله تعالى: فلا تزكوا أنفسكم ومن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله" ..

                                                                                                                                                                                                                                      لقد نشأ هذا الحكم - كما نزلت تلك النصوص - في مجتمع مسلم; ليطبق في هذا المجتمع; وليعيش في هذا الوسط; وليلبي حاجة ذلك المجتمع وفق نشأته التاريخية ، ووفق تركيبه العضوي، ووفق واقعه الذاتي. فهو من ثم حكم إسلامي جاء ليطبق في مجتمع إسلامي.. وقد نشأ في وسط واقعي ولم ينشأ في فراغ مثالي. وهو من ثم لا يطبق ولا يصلح ولا ينشئ آثاره الصحيحة إلا إذا طبق في مجتمع إسلامي.. إسلامي في نشأته، وفي تركيبه العضوي، وفي التزامه بشريعة الإسلام كاملة.. وكل مجتمع لا تتوافر فيه هذه المقومات كلها يعتبر "فراغا" بالقياس إلى ذلك الحكم، لا يملك أن يعيش فيه، ولا يصلح له، ولا يصلحه كذلك!

                                                                                                                                                                                                                                      .. ومثل هذا الحكم كل أحكام النظام الإسلامي. وإن كنا في هذا المقام لا نفصل إلا هذا الحكم بمناسبة ذلك السياق القرآني..

                                                                                                                                                                                                                                      ونريد أن نفهم لماذا لا يزكي الناس أنفسهم في المجتمع المسلم، ولا يرشحون أنفسهم للوظائف، ولا يقومون لأشخاصهم بدعاية ما كي يختاروا لمجلس الشورى أو للإمامة أو للإمارة ...

                                                                                                                                                                                                                                      إن الناس في المجتمع المسلم لا يحتاجون لشيء من هذا لإبراز أفضليتهم وأحقيتهم. كما أن المناصب والوظائف في هذا المجتمع تكليف ثقيل لا يغري أحدا بالتزاحم عليه - اللهم إلا ابتغاء الأجر بالنهوض بالواجب وللخدمة الشاقة ابتغاء رضوان الله تعالى - ومن ثم لا يسأل المناصب والوظائف إلا المتهافتون عليها لحاجة في نفوسهم. وهؤلاء يجب أن يمنعوها!

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن هذه الحقيقة لا تفهم إلا بمراجعة النشأة الطبيعية للمجتمع المسلم، وإدراك طبيعة تكوينه العضوي أيضا..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية