[ ص: 2118 ] [ ص: 2119 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورتا
الحجر والنحل
الجزء الرابع عشر
[ ص: 2120 ] [ ص: 2121 ] (15)
nindex.php?page=treesubj&link=28889سورة الحجر مكية
وآياتها تسع وتسعون
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه السورة مكية بجملتها، نزلت بعد سورة يوسف، في الفترة الحرجة، ما بين "عام الحزن" وعام الهجرة.. تلك الفترة التي تحدثنا عن طبيعتها وملابساتها ومعالمها من قبل في تقديم سورة
يونس وفي تقديم سورة
هود وفي تقديم سورة
يوسف بما فيه الكفاية..
وهذه السورة عليها طابع هذه الفترة، وحاجاتها ومقتضياتها الحركية.. إنها تواجه واقع تلك الفترة مواجهة حركية وتوجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - والجماعة المسلمة معه، توجيها واقعيا مباشرا وتجاهد المكذبين جهادا كبيرا. كما هي طبيعة هذا القرآن ووظيفته.
ولما كانت حركة الدعوة في تلك الفترة تكاد تكون قد تجمدت، بسبب موقف
قريش العنيد منها ومن النبي - صلى الله عليه وسلم - والعصبة المؤمنة معه; حيث اجترأت
قريش على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما لم تكن تجترئ عليه في حياة أبي طالب. واشتد استهزاؤها بدعوته; كما اشتد إيذاؤها لصحابته.. فقد جاء القرآن الكريم في هذه الفترة يهدد المشركين المكذبين ويتوعدهم; ويعرض عليهم مصارع المكذبين الغابرين ومصائرهم; ويكشف للرسول - صلى الله عليه وسلم - عن علة تكذيبهم وعنادهم; وهي لا تتعلق به ولا بالحق الذي معه، لكنها ترجع إلى العناد الذي لا تجدي معه الآيات البينات. ومن ثم يسلي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويواسيه; ويوجهه إلى الإصرار على الحق الذي معه; والصدع به بقوة في مواجهة الشرك وأهله; والصبر بعد ذلك على بطء الاستجابة ووحشة العزلة، وطول الطريق!
ومن هنا تلتقي هذه السورة في وجهتها وفي موضوعها وفي ملامحها مع بقية السور التي نزلت في تلك الفترة; وتواجه مثلها مقتضيات تلك الفترة وحاجاتها الحركية. أي الحاجات والمقتضيات الناشئة من حركة الجماعة المسلمة بعقيدتها الإسلامية في مواجهة الجاهلية العربية في تلك الفترة من الزمان بكل ملابساتها الواقعية. ومن ثم تواجه حاجات الحركة الإسلامية ومقتضياتها كلما تكررت هذه الفترة، وذلك كالذي تواجهه الحركة الإسلامية الآن في هذا الزمان.
ونحن نؤكد على هذه السمة في هذا القرآن.. سمة الواقعية الحركية.. لأنها في نظرنا مفتاح التعامل مع هذا الكتاب وفهمه وفقهه وإدراك مراميه وأهدافه..
إنه لا بد من استصحاب الأحوال والملابسات والظروف والحاجات والمقتضيات الواقعية العملية التي صاحبت
[ ص: 2122 ] نزول النص القرآني.. لا بد من هذا لإدراك وجهة النص وأبعاد مدلولاته; ولرؤية حيويته وهو يعمل في وسط حي; ويواجه حالة واقعة; كما يواجه أحياء يتحركون معه أو ضده. وهذه الرؤية ضرورية لفقه أحكامه وتذوقها; كما هي ضرورية للانتفاع بتوجيهاته كلما تكررت تلك الظروف والملابسات في فترة تاريخية تالية، وعلى الأخص فيما يواجهنا اليوم ونحن نستأنف الدعوة الإسلامية.
نقول هذه المقالة ونحن على يقين أنه لن يرى هذه الرؤية اليوم إلا الذين يتحركون فعلا بهذا الدين في مواجهة الجاهلية الحاضرة; ومن ثم يواجهون أحوالا وملابسات وظروفا وأحداثا كالتي كان يواجهها صاحب الدعوة الأولى - صلوات الله وسلامه عليه - والعصبة المسلمة معه.. من الإعراض والتولي عن هذا الدين في حقيقته الكبيرة الشاملة; التي لا تتحقق إلا بالدينونة الكاملة لله وحده في كل شأن من شؤون الحياة الاعتقادية والأخلاقية والتعبدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وما يلقونه كذلك من الإيذاء والمطاردة والتعذيب والتقتيل كالذي كانت تلك العصبة المختارة الأولى تبتلى - في سبيل الله - به..
إن هؤلاء الذين يتحركون بهذا الدين في مواجهة الجاهلية; ويواجهون به ما كانت تواجهه الجماعة المسلمة الأولى.. هم وحدهم الذين يرون تلك الرؤية.. وهم وحدهم الذين يفقهون هذا القرآن; ويدركون الأبعاد الحقيقية لمدلولات نصوصه. على النحو الذي أسلفنا.. وهم وحدهم الذين يملكون استنباط فقه الحركة الذي لا يغني عنه فقه الأوراق، في مواجهة الحياة المتحركة التي لا تكف عن الحركة!
وبمناسبة هذه الإشارة إلى فقه الحركة نحب أن نقرر أن الفقه المطلوب استنباطه في هذه الفترة الحاضرة هو الفقه اللازم لحركة ناشئة في مواجهة الجاهلية الشاملة. حركة تهدف إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجاهلية إلى الإسلام ومن الدينونة للعباد إلى الدينونة لرب العباد; كما كانت الحركة الأولى - على عهد
محمد صلى الله عليه وسلم - تواجه جاهلية
العرب بمثل هذه المحاولة; قبل أن تقوم الدولة في المدينة; وقبل أن يكون للإسلام سلطان على أرض وعلى أمة من الناس.
نحن اليوم في شبه هذا الموقف لا في مثله، وذلك لاختلاف بعض الظروف والملابسات الخارجية.. نحن نستهدف دعوة إلى الإسلام ناشئة في مواجهة جاهلية شاملة.. ولكن مع اختلاف في الملابسات والظروف والحاجات والمقتضيات الواقعية للحركة.. وهذا الاختلاف هو الذي يقتضي " اجتهادا "جديدا" في "فقه الحركة" يوائم بين السوابق التاريخية للحركة الإسلامية الأولى وبين طبيعة الفترة الحاضرة ومقتضياتها المتغيرة قليلا أو كثيرا..
هذا النوع من الفقه هو الذي تحتاج إليه الحركة الإسلامية الوليدة.. أما الفقه الخاص بأنظمة الدولة، وشرائع المجتمع المنظم المستقر، فهذا ليس أوانه ... إنه ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة ولا مجتمع مسلم، قاعدة التعامل فيه هي شريعة الله والفقه الإسلامي! .. هذا النوع من الفقه يأتي في حينه; وتفصل أحكامه على قد المجتمع المسلم حين يوجد; ويواجه الظروف الواقعية التي تكون محيطة بذلك المجتمع يومذاك!
إن الفقه الإسلامي لا ينشأ في فراغ ولا تستنبت بذوره في الهواء!
ونعود إلى استكمال الحديث عن موضوعات السورة:
محور هذه السورة الأول: هو إبراز طبيعة المكذبين بهذا الدين ودوافعهم الأصيلة للتكذيب، وتصوير المصير المخوف الذي ينتظر الكافرين المكذبين.. وحول هذا المحور يدور السياق في عدة جولات، متنوعة
[ ص: 2123 ] الموضوع والمجال، ترجع كلها إلى ذلك المحور الأصيل. سواء في ذلك القصة، ومشاهد الكون، ومشاهد القيامة، والتوجيهات والتعقيبات التي تسبق القصص وتتخلله وتعقب عليه.
وإذا كان جو سورة الرعد يذكر بجو سورة الأنعام. فإن جو هذه السورة - الحجر - يذكر بجو سورة الأعراف. - وابتداؤها كان بالإنذار، وسياقها كله جاء مصداقا للإنذار - فهنا كذلك في سورة الحجر يتشابه البدء والسياق، مع اختلاف في الطعم والمذاق!
إن الإنذار في مطلع سورة الأعراف صريح:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=2كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه، لتنذر به وذكرى للمؤمنين. nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=3اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء، قليلا ما تذكرون. nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=4وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون. nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=5فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا: إنا كنا ظالمين..
ثم ترد فيها قصة آدم وإبليس ويتابعها السياق حتى تنتهي الحياة الدنيا، ويعود الجميع إلى ربهم، فيجدوا مصداق النذير.. ويلي القصة عرض لبعض مشاهد الكون: السماوات والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، والنجوم مسخرات بأمره، والرياح والسحاب والماء والثمرات.. ويلي ذلك قصص قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى: وكلها تصدق النذير..
وهنا في سورة الحجر يجيء الإنذار كذلك في مطلعها، ولكن ملفعا بظل من التهويل والغموض يزيد جوها رهبة وتوقعا للمصير:
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=2ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=3ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=4وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=5ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ..
ثم يعرض السياق بعض مشاهد الكون: السماء وما فيها من بروج، والأرض الممدودة والرواسي الراسخة، والنبت الموزون، والرياح اللواقح، والماء والسقيا، والحياة والموت والحشر للجميع.. يلي ذلك قصة
آدم وإبليس، منتهية بمصير أتباعه ومصير المؤمنين.. ومن ثم لمحات من قصص إبراهيم ولوط وشعيب وصالح منظورا فيها إلى مصائر المكذبين، وملحوظا فيها أن مشركي
العرب يعرفون الآثار الدارسة لهذه الأقوام، وهم يمرون عليها في طريقهم إلى الشام.
فالمحور في السورتين واحد، ولكن شخصية كل منهما متميزة; وإيقاعهما يتشابه ولا يتماثل، على عادة القرآن الكريم في تناوله لموضوعاته الموحدة، بطرق شتى، تختلف وتتشابه، ولكنها لا تتكرر أبدا ولا تتماثل!
ويمكن تقسيم سياق السورة هنا إلى خمس جولات، أو خمسة مقاطع، يتضمن كل منها موضوعا أو مجالا:
تتضمن الجولة الأولى بيان سنة الله التي لا تتخلف في الرسالة والإيمان بها والتكذيب. مبدوءة بذلك الإنذار الضمني الملفع بالتهويل:
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=2ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=3ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون ..
ومنتهية بأن المكذبين إنما يكذبون عن عناد لا عن نقص في دلائل الإيمان:
[ ص: 2124 ] nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=14ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=15لقالوا: إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون! ..
وأنهم جميعا من طراز واحد:
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=10ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=11وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كذلك نسلكه في قلوب المجرمين. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=13لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين ..
وتعرض الجولة الثانية بعض آيات الله في الكون: في السماء وفي الأرض وما بينهما. وقد قدرت بحكمة، وأنزلت بقدر:
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=16ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=17وحفظناها من كل شيطان رجيم. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=18إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=19والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=20وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=21وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=22وأرسلنا الرياح لواقح، فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين ..
وإلى الله مرجع كل شيء وكل أحد في الوقت المقدر المعلوم:
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=23وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=24ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=25وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم ..
أما الجولة الثالثة فتعرض قصة البشرية وأصل الهدى والغواية في تركيبها وأسبابها الأصيلة، ومصير الغاوين في النهاية والمهتدين. وذلك في خلق آدم من صلصال من حمإ مسنون والنفخ من روح الله في هذا الطين. ثم في غرور إبليس واستكباره وتوليه الغاوين دون المخلصين.
والجولة الرابعة في مصارع الغابرين من قوم لوط وشعيب وصالح، مبدوءة بقول الله:
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=49نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=50وأن عذابي هو العذاب الأليم ثم يتتابع القصص، يجلو رحمة الله مع
إبراهيم ولوط ، وعذابه لأقوام
لوط وشعيب وصالح .. ملحوظا في هذا القصص أنه يعرض على
قريش مصارع أقوام يمرون على أرضهم في طريقهم إلى الشام ويرون آثارهم:
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=75إن في ذلك لآيات للمتوسمين. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=76وإنها لبسبيل مقيم ..
أما الجولة الخامسة والأخيرة فتكشف عن الحق الكامن في خلق السماوات والأرض المتلبس بالساعة وما بعدها من ثواب وعقاب، المتصل بدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو الحق الأكبر الشامل للكون كله، وللبدء والمصير:
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق، وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=86إن ربك هو الخلاق العليم. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=87ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم.. إلى آخر السورة..
[ ص: 2118 ] [ ص: 2119 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَتَا
الْحِجْرُ وَالنَّحْلُ
الْجُزْءُ الرَّابِعَ عَشَرَ
[ ص: 2120 ] [ ص: 2121 ] (15)
nindex.php?page=treesubj&link=28889سُورَةُ الْحِجْرِ مَكِّيَّةٌ
وَآيَاتُهَا تِسْعٌ وَتِسْعُونَ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ بِجُمْلَتِهَا، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ يُوسُفَ، فِي الْفَتْرَةِ الْحَرِجَةِ، مَا بَيْنَ "عَامِ الْحُزْنِ" وَعَامِ الْهِجْرَةِ.. تِلْكَ الْفَتْرَةُ الَّتِي تَحَدَّثْنَا عَنْ طَبِيعَتِهَا وَمُلَابَسَاتِهَا وَمَعَالِمِهَا مِنْ قَبْلُ فِي تَقْدِيمِ سُورَةِ
يُونُسَ وَفِي تَقْدِيمِ سُورَةِ
هُودٍ وَفِي تَقْدِيمِ سُورَةِ
يُوسُفَ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ..
وَهَذِهِ السُّورَةُ عَلَيْهَا طَابِعُ هَذِهِ الْفَتْرَةِ، وَحَاجَاتُهَا وَمُقْتَضَيَاتُهَا الْحَرَكِيَّةُ.. إِنَّهَا تُوَاجِهُ وَاقِعَ تِلْكَ الْفَتْرَةِ مُوَاجَهَةً حَرَكِيَّةً وَتُوَجِّهُ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْجَمَاعَةَ الْمُسْلِمَةَ مَعَهُ، تَوْجِيهًا وَاقِعِيًّا مُبَاشِرًا وَتُجَاهِدُ الْمُكَذِّبِينَ جِهَادًا كَبِيرًا. كَمَا هِيَ طَبِيعَةُ هَذَا الْقُرْآنِ وَوَظِيفَتِهِ.
وَلَمَّا كَانَتْ حَرَكَةُ الدَّعْوَةِ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ تَكَادُ تَكُونُ قَدْ تَجَمَّدَتْ، بِسَبَبِ مَوْقِفِ
قُرَيْشٍ الْعَنِيدِ مِنْهَا وَمِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْعُصْبَةِ الْمُؤْمِنَةِ مَعَهُ; حَيْثُ اجْتَرَأَتْ
قُرَيْشٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا لَمْ تَكُنْ تَجْتَرِئُ عَلَيْهِ فِي حَيَاةِ أَبِي طَالِبٍ. وَاشْتَدَّ اسْتِهْزَاؤُهَا بِدَعْوَتِهِ; كَمَا اشْتَدَّ إِيذَاؤُهَا لِصَحَابَتِهِ.. فَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ يُهَدِّدُ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ وَيَتَوَعَّدُهُمْ; وَيَعْرِضُ عَلَيْهِمْ مُصَارِعَ الْمُكَذِّبِينَ الْغَابِرِينَ وَمَصَائِرَهُمْ; وَيَكْشِفُ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عِلَّةِ تَكْذِيبِهِمْ وَعِنَادِهِمْ; وَهِيَ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ وَلَا بِالْحَقِّ الَّذِي مَعَهُ، لَكِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْعِنَادِ الَّذِي لَا تُجْدِي مَعَهُ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ. وَمِنْ ثَمَّ يُسَلِّي الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُوَاسِيهِ; وَيُوَجِّهُهُ إِلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي مَعَهُ; وَالصَّدْعِ بِهِ بِقُوَّةٍ فِي مُوَاجَهَةِ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ; وَالصَّبْرِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى بُطْءِ الِاسْتِجَابَةِ وَوَحْشَةِ الْعُزْلَةِ، وَطُولِ الطَّرِيقِ!
وَمِنْ هُنَا تَلْتَقِي هَذِهِ السُّورَةُ فِي وِجْهَتِهَا وَفِي مَوْضُوعِهَا وَفِي مَلَامِحِهَا مَعَ بَقِيَّةِ السُّوَرِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ; وَتُوَاجِهُ مِثْلَهَا مُقْتَضَيَاتِ تِلْكَ الْفَتْرَةِ وَحَاجَاتِهَا الْحَرَكِيَّةِ. أَيِ الْحَاجَاتِ وَالْمُقْتَضَيَاتِ النَّاشِئَةِ مِنْ حَرَكَةِ الْجَمَاعَةِ الْمُسْلِمَةِ بِعَقِيدَتِهَا الْإِسْلَامِيَّةِ فِي مُوَاجَهَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ مِنَ الزَّمَانِ بِكُلِّ مُلَابَسَاتِهَا الْوَاقِعِيَّةِ. وَمِنْ ثَمَّ تُوَاجِهُ حَاجَاتِ الْحَرَكَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَمُقْتَضَيَاتِهَا كُلَّمَا تَكَرَّرَتْ هَذِهِ الْفَتْرَةُ، وَذَلِكَ كَالَّذِي تُوَاجِهُهُ الْحَرَكَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ الْآنَ فِي هَذَا الزَّمَانِ.
وَنَحْنُ نُؤَكِّدُ عَلَى هَذِهِ السِّمَةِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ.. سِمَةِ الْوَاقِعِيَّةِ الْحَرَكِيَّةِ.. لِأَنَّهَا فِي نَظَرِنَا مِفْتَاحُ التَّعَامُلِ مَعَ هَذَا الْكِتَابِ وَفَهْمِهِ وَفِقْهِهِ وَإِدْرَاكِ مَرَامِيهِ وَأَهْدَافِهِ..
إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ اسْتِصْحَابِ الْأَحْوَالِ وَالْمُلَابَسَاتِ وَالظُّرُوفِ وَالْحَاجَاتِ وَالْمُقْتَضَيَاتِ الْوَاقِعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي صَاحَبَتْ
[ ص: 2122 ] نُزُولَ النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ.. لَا بُدَّ مِنْ هَذَا لِإِدْرَاكِ وِجِهَةِ النَّصِّ وَأَبْعَادِ مَدْلُولَاتِهِ; وَلِرُؤْيَةِ حَيَوِيَّتِهِ وَهُوَ يَعْمَلُ فِي وَسَطِ حَيٍّ; وَيُوَاجِهُ حَالَةً وَاقِعَةً; كَمَا يُوَاجِهُ أَحْيَاءً يَتَحَرَّكُونَ مَعَهُ أَوْ ضِدَّهُ. وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ ضَرُورِيَّةٌ لِفِقْهِ أَحْكَامِهِ وَتَذَوُّقِهَا; كَمَا هِيَ ضَرُورِيَّةٌ لِلِانْتِفَاعِ بِتَوْجِيهَاتِهِ كُلَّمَا تَكَرَّرَتْ تِلْكَ الظُّرُوفُ وَالْمُلَابَسَاتُ فِي فَتْرَةٍ تَارِيخِيَّةٍ تَالِيَةٍ، وَعَلَى الْأَخَصِّ فِيمَا يُوَاجِهُنَا الْيَوْمَ وَنَحْنُ نَسْتَأْنِفُ الدَّعْوَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ.
نَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ أَنَّهُ لَنْ يَرَى هَذِهِ الرُّؤْيَةَ الْيَوْمَ إِلَّا الَّذِينَ يَتَحَرَّكُونَ فِعْلًا بِهَذَا الدِّينِ فِي مُوَاجَهَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الْحَاضِرَةِ; وَمِنْ ثَمَّ يُوَاجِهُونَ أَحْوَالًا وَمُلَابَسَاتٍ وَظُرُوفًا وَأَحْدَاثًا كَالَّتِي كَانَ يُوَاجِهُهَا صَاحِبُ الدَّعْوَةِ الْأُولَى - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - وَالْعُصْبَةُ الْمُسَلَّمَةُ مَعَهُ.. مِنَ الْإِعْرَاضِ وَالتَّوَلِّي عَنْ هَذَا الدِّينِ فِي حَقِيقَتِهِ الْكَبِيرَةِ الشَّامِلَةِ; الَّتِي لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالدَّيْنُونَةِ الْكَامِلَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ فِي كُلِّ شَأْنٍ مِنْ شُؤُونِ الْحَيَاةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِيَّةِ وَالتَّعَبُّدِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالِاقْتِصَادِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ.. وَمَا يَلْقَوْنَهُ كَذَلِكَ مِنَ الْإِيذَاءِ وَالْمُطَارَدَةِ وَالتَّعْذِيبِ وَالتَّقْتِيلِ كَالَّذِي كَانَتْ تِلْكَ الْعُصْبَةُ الْمُخْتَارَةُ الْأَوْلَى تُبْتَلَى - فِي سَبِيلِ اللَّهِ - بِهِ..
إِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَحَرَّكُونَ بِهَذَا الدِّينِ فِي مُوَاجَهَةِ الْجَاهِلِيَّةِ; وَيُوَاجِهُونَ بِهِ مَا كَانَتْ تُوَاجِهُهُ الْجَمَاعَةُ الْمُسْلِمَةُ الْأُولَى.. هُمْ وَحْدَهُمُ الَّذِينَ يَرَوْنَ تِلْكَ الرُّؤْيَةَ.. وَهُمْ وَحْدَهُمُ الَّذِينَ يَفْقَهُونَ هَذَا الْقُرْآنَ; وَيُدْرِكُونَ الْأَبْعَادَ الْحَقِيقِيَّةَ لِمَدْلُولَاتِ نُصُوصِهِ. عَلَى النَّحْوِ الَّذِي أَسْلَفْنَا.. وَهُمْ وَحْدَهُمُ الَّذِينَ يَمْلِكُونَ اسْتِنْبَاطَ فِقْهِ الْحَرَكَةِ الَّذِي لَا يُغْنِي عَنْهُ فِقْهُ الْأَوْرَاقِ، فِي مُوَاجَهَةِ الْحَيَاةِ الْمُتَحَرِّكَةِ الَّتِي لَا تَكُفُّ عَنِ الْحَرَكَةِ!
وَبِمُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ إِلَى فِقْهِ الْحَرَكَةِ نُحِبُّ أَنْ نُقَرِّرَ أَنَّ الْفِقْهَ الْمَطْلُوبَ اسْتِنْبَاطَهُ فِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ الْحَاضِرَةِ هُوَ الْفِقْهُ اللَّازِمُ لِحَرَكَةٍ نَاشِئَةٍ فِي مُوَاجَهَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الشَّامِلَةِ. حَرَكَةٌ تَهْدِفُ إِلَى إِخْرَاجِ النَّاسِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَمِنَ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ لِلْعِبَادِ إِلَى الدَّيْنُونَةِ لِرَبِّ الْعِبَادِ; كَمَا كَانَتِ الْحَرَكَةُ الْأَوْلَى - عَلَى عَهْدِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوَاجِهُ جَاهِلِيَّةَ
الْعَرَبِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُحَاوَلَةِ; قَبْلَ أَنْ تَقُومَ الدَّوْلَةُ فِي الْمَدِينَةِ; وَقَبْلَ أَنْ يَكُونَ لِلْإِسْلَامِ سُلْطَانٌ عَلَى أَرْضٍ وَعَلَى أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ.
نَحْنُ الْيَوْمَ فِي شَبَهِ هَذَا الْمَوْقِفِ لَا فِي مِثْلِهِ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ بَعْضِ الظُّرُوفِ وَالْمُلَابَسَاتِ الْخَارِجِيَّةِ.. نَحْنُ نَسْتَهْدِفُ دَعْوَةً إِلَى الْإِسْلَامِ نَاشِئَةً فِي مُوَاجَهَةِ جَاهِلِيَّةٍ شَامِلَةٍ.. وَلَكِنْ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْمُلَابَسَاتِ وَالظُّرُوفِ وَالْحَاجَاتِ وَالْمُقْتَضَيَاتِ الْوَاقِعِيَّةِ لِلْحَرَكَةِ.. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِي " اجْتِهَادًا "جَدِيدًا" فِي "فِقْهِ الْحَرَكَةِ" يُوَائِمُ بَيْنَ السَّوَابِقِ التَّارِيخِيَّةِ لِلْحَرَكَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْأُولَى وَبَيْنَ طَبِيعَةِ الْفَتْرَةِ الْحَاضِرَةِ وَمُقْتَضَيَاتِهَا الْمُتَغَيِّرَةِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا..
هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْفِقْهِ هُوَ الَّذِي تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْحَرَكَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ الْوَلِيدَةُ.. أَمَّا الْفِقْهُ الْخَاصُّ بِأَنْظِمَةِ الدَّوْلَةِ، وَشَرَائِعِ الْمُجْتَمَعِ الْمُنَظَّمِ الْمُسْتَقِرِّ، فَهَذَا لَيْسَ أَوَانَهُ ... إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ دَوْلَةٌ مُسْلِمَةٌ وَلَا مُجْتَمَعٍ مُسْلِمٍ، قَاعِدَةُ التَّعَامُلِ فِيهِ هِيَ شَرِيعَةُ اللَّهِ وَالْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ! .. هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْفِقْهِ يَأْتِي فِي حِينِهِ; وَتُفَصَّلُ أَحْكَامُهُ عَلَى قَدِّ الْمُجْتَمَعَ الْمُسْلِمَ حِينَ يُوجَدُ; وَيُوَاجِهُ الظُّرُوفَ الْوَاقِعِيَّةَ الَّتِي تَكُونُ مُحِيطَةً بِذَلِكَ الْمُجْتَمَعِ يَوْمَذَاكَ!
إِنَّ الْفِقْهَ الْإِسْلَامِيَّ لَا يَنْشَأُ فِي فَرَاغٍ وَلَا تَسْتَنْبِتُ بُذُورُهُ فِي الْهَوَاءِ!
وَنَعُودُ إِلَى اسْتِكْمَالِ الْحَدِيثِ عَنْ مَوْضُوعَاتِ السُّورَةِ:
مِحْوَرُ هَذِهِ السُّورَةِ الْأَوَّلُ: هُوَ إِبْرَازُ طَبِيعَةِ الْمُكَذِّبِينَ بِهَذَا الدِّينِ وَدَوَافِعِهِمُ الْأَصِيلَةِ لِلتَّكْذِيبِ، وَتَصْوِيرُ الْمَصِيرِ الْمَخُوفِ الَّذِي يَنْتَظِرُ الْكَافِرِينَ الْمُكَذِّبِينَ.. وَحَوْلَ هَذَا الْمِحْوَرِ يَدُورُ السِّيَاقُ فِي عِدَّةِ جَوْلَاتٍ، مُتَنَوِّعَةِ
[ ص: 2123 ] الْمَوْضُوعِ وَالْمَجَالِ، تَرْجِعُ كُلُّهَا إِلَى ذَلِكَ الْمِحْوَرِ الْأَصِيلِ. سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْقِصَّةُ، وَمَشَاهِدُ الْكَوْنِ، وَمَشَاهِدُ الْقِيَامَةِ، وَالتَّوْجِيهَاتُ وَالتَّعْقِيبَاتُ الَّتِي تَسْبِقُ الْقِصَصَ وَتَتَخَلَّلُهُ وَتُعَقِّبُ عَلَيْهِ.
وَإِذَا كَانَ جَوُّ سُورَةِ الرَّعْدِ يُذَكِّرُ بِجَوِّ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. فَإِنَّ جَوَّ هَذِهِ السُّورَةِ - الْحِجْرِ - يُذَكِّرُ بِجَوِّ سُورَةِ الْأَعْرَافِ. - وَابْتِدَاؤُهَا كَانَ بِالْإِنْذَارِ، وَسِيَاقُهَا كُلُّهُ جَاءَ مِصْدَاقًا لِلْإِنْذَارِ - فَهُنَا كَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ يَتَشَابَهُ الْبَدْءُ وَالسِّيَاقِ، مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الطَّعْمِ وَالْمَذَاقِ!
إِنَّ الْإِنْذَارَ فِي مَطْلَعِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ صَرِيحٍ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=2كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=3اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ، قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=4وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=5فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا: إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ..
ثُمَّ تَرِدُ فِيهَا قِصَّةُ آدَمَ وَإِبْلِيسَ وَيُتَابِعُهَا السِّيَاقُ حَتَّى تَنْتَهِيَ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، وَيَعُودَ الْجَمِيعُ إِلَى رَبِّهِمْ، فَيَجِدُوا مِصْدَاقَ النَّذِيرِ.. وَيَلِي الْقِصَّةَ عَرْضٌ لِبَعْضِ مَشَاهِدِ الْكَوْنِ: السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ، وَالرِّيَاحُ وَالسَّحَابُ وَالْمَاءُ وَالثَّمَرَاتُ.. وَيَلِي ذَلِكَ قِصَصُ قَوْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ وَمُوسَى: وَكُلُّهَا تُصَدِّقُ النَّذِيرَ..
وَهُنَا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ يَجِيءُ الْإِنْذَارُ كَذَلِكَ فِي مَطْلَعِهَا، وَلَكِنْ مُلَفَّعًا بِظِلٍّ مِنَ التَّهْوِيلِ وَالْغُمُوضِ يَزِيدُ جَوَّهَا رَهْبَةً وَتَوَقُّعًا لِلْمَصِيرِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=2رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=3ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=4وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=5مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ..
ثُمَّ يَعْرِضُ السِّيَاقُ بَعْضَ مَشَاهِدِ الْكَوْنِ: السَّمَاءُ وَمَا فِيهَا مِنْ بُرُوجٍ، وَالْأَرْضُ الْمَمْدُودَةُ وَالرَّوَاسِي الرَّاسِخَةُ، وَالنَّبْتُ الْمَوْزُونُ، وَالرِّيَاحُ اللَّوَاقِحُ، وَالْمَاءُ وَالسُّقْيَا، وَالْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ وَالْحَشْرُ لِلْجَمِيعِ.. يَلِي ذَلِكَ قِصَّةُ
آدَمَ وَإِبْلِيسَ، مُنْتَهِيَةً بِمَصِيرِ أَتْبَاعِهِ وَمَصِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.. وَمِنْ ثَمَّ لَمَحَاتٌ مِنْ قِصَصِ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ وَصَالِحٍ مَنْظُورًا فِيهَا إِلَى مَصَائِرِ الْمُكَذِّبِينَ، وَمَلْحُوظًا فِيهَا أَنَّ مُشْرِكِي
الْعَرَبِ يَعْرِفُونَ الْآثَارَ الدَّارِسَةَ لِهَذِهِ الْأَقْوَامِ، وَهُمْ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى الشَّامِ.
فَالْمِحْوَرُ فِي السُّورَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّ شَخْصِيَّةَ كُلٍّ مِنْهُمَا مُتَمَيِّزَةٌ; وَإِيقَاعَهُمَا يَتَشَابَهُ وَلَا يَتَمَاثَلُ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي تَنَاوُلِهِ لِمَوْضُوعَاتِهِ الْمُوَحَّدَةِ، بِطُرُقٍ شَتَّى، تَخْتَلِفُ وَتَتَشَابَهُ، وَلَكِنَّهَا لَا تَتَكَرَّرُ أَبَدًا وَلَا تَتَمَاثَلُ!
وَيُمْكِنُ تَقْسِيمُ سِيَاقِ السُّورَةِ هُنَا إِلَى خَمْسِ جَوْلَاتٍ، أَوْ خَمْسَةِ مَقَاطِعَ، يَتَضَمَّنُ كُلٌّ مِنْهَا مَوْضُوعًا أَوْ مَجَالًا:
تَتَضَمَّنُ الْجَوْلَةُ الْأُولَى بَيَانَ سُنَّةِ اللَّهِ الَّتِي لَا تَتَخَلَّفُ فِي الرِّسَالَةِ وَالْإِيمَانِ بِهَا وَالتَّكْذِيبِ. مَبْدُوءَةً بِذَلِكَ الْإِنْذَارِ الضِّمْنِيِّ الْمُلَفَّعِ بِالتَّهْوِيلِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=2رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=3ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ..
وَمُنْتَهِيَةً بِأَنَّ الْمُكَذِّبِينَ إِنَّمَا يَكْذِبُونَ عَنْ عِنَادٍ لَا عَنْ نَقْصٍ فِي دَلَائِلِ الْإِيمَانِ:
[ ص: 2124 ] nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=14وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=15لَقَالُوا: إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ! ..
وَأَنَّهُمْ جَمِيعًا مِنْ طِرَازٍ وَاحِدٍ:
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=10وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=11وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=13لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ ..
وَتَعْرِضُ الْجَوْلَةُ الثَّانِيَةُ بَعْضَ آيَاتِ اللَّهِ فِي الْكَوْنِ: فِي السَّمَاءِ وَفِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا. وَقَدْ قُدِّرَتْ بِحِكْمَةٍ، وَأُنْزِلَتْ بِقَدْرٍ:
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=16وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=17وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=18إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=19وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=20وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=21وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=22وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ، فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ..
وَإِلَى اللَّهِ مَرْجِعُ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلِّ أَحَدٍ فِي الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ الْمَعْلُومِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=23وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=24وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=25وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ..
أَمَّا الْجَوْلَةُ الثَّالِثَةُ فَتَعْرِضُ قِصَّةَ الْبَشَرِيَّةَ وَأَصْلَ الْهُدَى وَالْغَوَايَةِ فِي تَرْكِيبِهَا وَأَسْبَابِهَا الْأَصِيلَةِ، وَمَصِيرَ الْغَاوِينَ فِي النِّهَايَةِ وَالْمُهْتَدِينَ. وَذَلِكَ فِي خَلْقِ آدَمَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حمإ مَسْنُونٍ وَالنَّفْخِ مِنْ رُوحِ اللَّهِ فِي هَذَا الطِّينِ. ثُمَّ فِي غُرُورِ إِبْلِيسَ وَاسْتِكْبَارِهِ وَتَوَلِّيهِ الْغَاوِينَ دُونَ الْمُخْلِصِينَ.
وَالْجَوْلَةُ الرَّابِعَةُ فِي مُصَارِعِ الْغَابِرِينَ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ وَشُعَيْبٍ وَصَالِحٍ، مَبْدُوءَةً بِقَوْلِ اللَّهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=49نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=50وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ ثُمَّ يَتَتَابَعُ الْقَصَصُ، يَجْلُو رَحْمَةَ اللَّهِ مَعَ
إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ ، وَعَذَابَهُ لِأَقْوَامِ
لُوطٍ وَشُعَيْبٍ وَصَالِحٍ .. مَلْحُوظًا فِي هَذَا الْقَصَصِ أَنَّهُ يَعْرِضُ عَلَى
قُرَيْشٍ مُصَارِعَ أَقْوَامٍ يَمُرُّونَ عَلَى أَرْضِهِمْ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى الشَّامِ وَيَرَوْنَ آثَارَهُمْ:
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=75إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=76وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ..
أَمَّا الْجَوْلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَخِيرَةُ فَتَكْشِفُ عَنِ الْحَقِّ الْكَامِنِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمُتَلَبِّسِ بِالسَّاعَةِ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ، الْمُتَّصِلِ بِدَعْوَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ الْحَقُّ الْأَكْبَرُ الشَّامِلُ لِلْكَوْنِ كُلِّهِ، وَلِلْبَدْءِ وَالْمَصِيرِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ، وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=86إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ. nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=87وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ.. إِلَى آخَرَ السُّورَةِ..