nindex.php?page=treesubj&link=28988_30451_30452_30525_31749nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=58وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا. كان ذلك في الكتاب مسطورا ..
فقد قدر الله أن يجيء يوم القيامة ووجه هذه الأرض خال من الحياة، فالهلاك ينتظر كل حي قبل ذلك اليوم الموعود. كذلك قدر العذاب لبعض هذه القرى بما ترتكب من ذنوب. ذلك ما ركز في علم الله. والله يعلم ما سيكون علمه بما هو كائن. فالذي كان والذي سيكون كله بالقياس إلى علم الله سواء.
وقد كانت الخوارق تصاحب الرسالات لتصديق الرسل وتخويف الناس من عاقبة التكذيب وهي الهلاك بالعذاب. ولكن لم يؤمن بهذه الخوارق إلا المستعدة قلوبهم للإيمان; أما الجاحدون فقد كذبوا بها في زمانهم. ومن هنا جاءت الرسالة الأخيرة غير مصحوبة بهذه الخوارق:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=59وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون. وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها. وما نرسل بالآيات إلا تخويفا .
إن
nindex.php?page=treesubj&link=25029_18626_28741معجزة الإسلام هي القرآن. وهو كتاب يرسم منهجا كاملا للحياة. ويخاطب الفكر والقلب، ويلبي الفطرة القويمة. ويبقى مفتوحا للأجيال المتتابعة تقرؤه وتؤمن به إلى يوم القيامة. أما الخارقة المادية فهي تخاطب جيلا واحدا من الناس، وتقتصر على من يشاهدها من هذا الجيل.
على أن كثرة من كانوا يشاهدون الآيات لم يؤمنوا بها. وقد ضرب السياق المثل بثمود، الذين جاءتهم الناقة وفق ما طلبوا واقترحوا آية واضحة. فظلموا بها أنفسهم وأوردوها موارد الهلكة تصديقا لوعد الله بإهلاك المكذبين بالآية الخارقة. وما كانت الآيات إلا إنذارا وتخويفا بحتمية الهلاك بعد مجيء الآيات.
هذه التجارب البشرية اقتضت أن تجيء الرسالة الأخيرة غير مصحوبة بالخوارق. لأنها رسالة الأجيال المقبلة جميعها لا رسالة جيل واحد يراها. ولأنها رسالة الرشد البشري تخاطب مدارك الإنسان جيلا بعد جيل، وتحترم إدراكه الذي تتميز به بشريته والذي من أجله كرمه الله على كثير من خلقه.
أما الخوارق التي وقعت للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأولها خارقة الإسراء والمعراج فلم تتخذ معجزة مصدقة للرسالة. إنما جعلت فتنة للناس وابتلاء.
nindex.php?page=treesubj&link=28988_30442_30549_30631_31786_32024_32109_33679_34091_34513nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=60وإذ قلنا لك: إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس، والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا .
ولقد ارتد بعض من كان آمن بالرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد حادثة الإسراء، كما ثبت بعضهم وازداد يقينا. ومن ثم كانت الرؤيا التي أراها الله لعبده في تلك الليلة
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=60فتنة للناس وابتلاء لإيمانهم. أما إحاطة الله بالناس فقد كانت وعدا من الله لرسوله بالنصر، وعصمة له من أن تمتد أيديهم إليه.
[ ص: 2238 ] ولقد أخبرهم بوعد الله له وبما أطلعه الله عليه في رؤياه الكاشفة الصادقة. ومنه شجرة الزقوم التي يخوف الله بها المكذبين. فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل متهكما: هاتوا لنا تمرا وزبدا، وجعل يأكل من هذا بهذا ويقول: تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا!
فماذا كانت الخوارق صانعة مع القوم لو كانت هي آية رسالته كما كانت علامة الرسالات قبله ومعجزة المرسلين؟ وما زادتهم خارقة الإسراء ولا زادهم التخويف بشجرة الزقوم إلا طغيانا كبيرا؟
إن الله لم يقدر إهلاكهم بعذاب من عنده. ومن ثم لم يرسل إليهم بخارقة. فقد اقتضت إرادته أن يهلك المكذبين بالخوارق. أما قريش فقد أمهلت ولم تؤخذ بالإبادة كقوم
نوح وهود وصالح ولوط وشعيب .. و من المكذبين من آمن بعد ذلك وكان من جند الإسلام الصادقين. ومنهم من أنجب المؤمنين الصادقين. وظل القرآن - معجزة الإسلام - كتابا مفتوحا لجيل
محمد - صلى الله عليه وسلم - وللأجيال بعده، فآمن به من لم يشهد الرسول وعصره وصحابته. إنما قرأ القرآن أو صاحب من قرأه. وسيبقى القرآن كتابا مفتوحا للأجيال، يهتدي به من هم بعد في ضمير الغيب، وقد يكون منهم من هو أشد إيمانا وأصلح عملا، وأنفع للإسلام من كثير سبقوه..
وفي ظل الرؤيا التي رآها الرسول - صلى الله عليه وسلم - واطلع فيها على ما اطلع من عوالم، والشجرة الملعونة التي يطعم منها أتباع الشياطين.. يجيء مشهد إبليس الملعون، يهدد ويتوعد بإغواء الضالين:
nindex.php?page=treesubj&link=28988_31770_31771_32405nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=61وإذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم. فسجدوا إلا إبليس. قال: أأسجد لمن خلقت طينا؟ nindex.php?page=treesubj&link=28988_31771_31772_34264_34275nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=62قال: أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا. nindex.php?page=treesubj&link=28988_30428_30437_31769nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=63قال: اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا. nindex.php?page=treesubj&link=28988_18877_31772_32944_33363_34106_34264nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=64واستفزز من استطعت منهم بصوتك، وأجلب عليهم بخيلك ورجلك، وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم. وما يعدهم الشيطان إلا غرورا. nindex.php?page=treesubj&link=28988_28723_29676_30469_34513nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=65إن عبادي ليس لك عليهم سلطان. وكفى بربك وكيلا ..
إن السياق يكشف عن الأسباب الأصيلة لضلال الضالين، فيعرض هذا المشهد هنا، ليحذر الناس وهم يطلعون على أسباب الغواية، ويرون إبليس عدوهم وعدو أبيهم يتهددهم بها، عن إصرار سابق قديم!
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=61وإذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال: أأسجد لمن خلقت طينا؟
إنه حسد إبليس
لآدم يجعله يذكر الطين ويغفل نفخة الله في هذا الطين!
ويعرض إبليس بضعف هذا المخلوق واستعداده للغواية، فيقول في تبجح:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=62أرأيتك هذا الذي كرمت علي؟ أترى هذا المخلوق الذي جعلته أكرم مني عندك؟
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=62لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا .. فلأستولين عليهم وأحتويهم وأملك زمامهم وأجعلهم في قبضة يدي أصرف أمرهم.
ويغفل إبليس عن استعداد الإنسان للخير والهداية استعداده للشر والغواية. عن حالته التي يكون فيها متصلا بالله فيرتفع ويسمو ويعتصم من الشر والغواية، ويغفل عن أن هذه هي مزية هذا المخلوق التي ترفعه على ذوي الطبيعة المفردة التي لا تعرف إلا طريقا واحدا تسلكه بلا إرادة. فالإرادة هي سر هذا المخلوق العجيب.
وتشاء إرادة الله أن يطلق لرسول الشر والغواية الزمام، يحاول محاولته مع بني الإنسان:
[ ص: 2239 ] nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=63قال: اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ..
اذهب فحاول محاولتك. اذهب مأذونا في إغوائهم. فهم مزودون بالعقل والإرادة، يملكون أن يتبعوك أو يعرضوا عنك
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=63فمن تبعك منهم مغلبا جانب الغواية في نفسه على جانب الهداية، معرضا عن نداء الرحمن إلى نداء الشيطان، غافلا عن آيات الله في الكون، وآيات الله المصاحبة للرسالات،
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=63فإن جهنم جزاؤكم أنت وتابعوك
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=63جزاء موفورا .
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=64واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك .
وهو تجسيم لوسائل الغواية والإحاطة، والاستيلاء على القلوب والمشاعر والعقول. فهي المعركة الصاخبة، تستخدم فيها الأصوات والخيل والرجل على طريقة المعارك والمبارزات. يرسل فيها الصوت فيزعج الخصوم ويخرجهم من مراكزهم الحصينة، أو يستدرجهم للفخ المنصوب والمكيدة المدبرة. فإذا استدرجوا إلى العراء أخذتهم الخيل، وأحاطت بهم الرجال!
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=64وشاركهم في الأموال والأولاد ..
وهذه الشركة تتمثل في أوهام الوثنية الجاهلية، إذ كانوا يجعلون في أموالهم نصيبا للآلهة المدعاة - فهي للشيطان - وفي أولادهم نذورا للآلهة أو عبيدا لها - فهي للشيطان - كعبد اللات وعبد مناة. وأحيانا كانوا يجعلونها للشيطان رأسا كعبد الحارث!
كما تتمثل في كل مال يجبى من حرام، أو يتصرف فيه بغير حق، أو ينفق في إثم. وفي كل ولد يجيء من حرام. ففيه شركة للشيطان.
والتعبير يصور في عمومه شركة تقوم بين إبليس وأتباعه تشمل الأموال والأولاد وهما قوام الحياة!
وإبليس مأذون في أن يستخدم وسائله كلها، ومنها الوعود المغرية الخادعة:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=64وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا كالوعد بالإفلات من العقوبة والقصاص. والوعد بالغنى من الأسباب الحرام. والوعد بالغلبة والفوز بالوسائل القذرة والأساليب الخسيسة ...
ولعل أشد الوعود إغراء الوعد بالعفو والمغفرة بعد الذنب والخطيئة; وهي الثغرة التي يدخل منها الشيطان على كثير من القلوب التي يعز عليه غزوها من ناحية المجاهرة بالمعصية والمكابرة. فيتلطف حينئذ إلى تلك النفوس المتحرجة، ويزين لها الخطيئة وهو يلوح لها بسعة الرحمة الإلهية وشمول العفو والمغفرة!
اذهب مأذونا في إغواء من يجنحون إليك. ولكن هنالك من لا سلطان لك عليهم، لأنهم مزودون بحصانة تمنعهم منك ومن خيلك ورجلك!
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=65إن عبادي ليس لك عليهم سلطان. وكفى بربك وكيلا ..
فمتى اتصل القلب بالله، واتجه إليه بالعبادة. متى ارتبط بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها. متى أيقظ في روحه النفخة العلوية فأشرقت وأنارت.. فلا سلطان حينئذ للشيطان على ذلك القلب الموصول بالله، وهذا الروح المشرق بنور الإيمان..
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=65وكفى بربك وكيلا يعصم وينصر ويبطل كيد الشيطان.
وانطلق الشيطان ينفذ وعيده، ويستذل عبيده، ولكنه لا يجرؤ على عباد الرحمن، فما له عليهم من سلطان.
ذلك ما يبيته الشيطان للناس من شر وأذى ثم يوجد في الناس من يتبعون هذا الشيطان، ويستمعون إليه،
[ ص: 2240 ] ويعرضون عن نداء الله لهم وهدايته. والله رحيم بهم يعينهم ويهديهم وييسر لهم المعاش، وينجيهم من الضر والكرب، ويستجيب لهم في موقف الشدة والضيق.. ثم إذا هم يعرضون ويكفرون:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=66ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله، إنه كان بكم رحيما. nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=67وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم، وكان الإنسان كفورا ..
والسياق يعرض هذا المشهد، مشهد الفلك في البحر، نموذجا للحظات الشدة والحرج. لأن الشعور بيد الله في الخضم أقوى وأشد حساسية، ونقطة من الخشب أو المعدن تائهة في الخضم، تتقاذفها الأمواج والتيارات والناس متشبثون بهذه النقطة على كف الرحمن.
إنه مشهد يحس به من كابده، ويحس بالقلوب الخافقة الواجفة المتعلقة بكل هزة وكل رجفة في الفلك صغيرا كان أو كبيرا حتى عابرات المحيط الجبارة التي تبدو في بعض اللحظات كالريشة في مهب الرياح على ثبج الموج الجبار!
والتعبير يلمس القلوب لمسة قوية وهو يشعر الناس أن يد الله تزجي لهم الفلك في البحر وتدفعه ليبتغوا من فضله
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=66إنه كان بكم رحيما فالرحمة هي أظهر ما تستشعره القلوب في هذا الأوان.
ثم ينتقل بهم من الإزجاء الرخي للاضطراب العتي. حين ينسى الركب في الفلك المتناوح بين الأمواج كل قوة وكل سند وكل مجير إلا الله، فيتجهون إليه وحده في لحظة الخطر لا يدعون أحدا سواه:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=67ضل من تدعون إلا إياه ..
ولكن الإنسان هو الإنسان، فما أن تنجلي الغمرة، وتحس قدماه ثبات الأرض من تحته حتى ينسى لحظة الشدة، فينسى الله، وتتقاذفه الأهواء وتجرفه الشهوات، وتغطي على فطرته التي جلاها الخطر:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=67فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا إلا من اتصل قلبه بالله فأشرق واستنار.
وهنا يستجيش السياق وجدان المخاطبين بتصوير الخطر الذي تركوه في البحر وهو يلاحقهم في البر أو وهم يعودون إليه في البحر، ليشعروا أن الأمن والقرار لا يكونان إلا في جوار الله وحماه، لا في البحر ولا في البر; لا في الموجة الرخية والريح المواتية ولا في الملجإ الحصين والمنزل المريح:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=68أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا، ثم لا تجدوا لكم وكيلا؟ nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=69أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى، فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم، ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا؟ .
إن البشر في قبضة الله في كل لحظة وفي كل بقعة. إنهم في قبضته في البر كما هم في قبضته في البحر. فكيف يأمنون؟ كيف يأمنون أن يخسف بهم جانب البر بزلزال أو بركان، أو بغيرهما من الأسباب المسخرة لقدرة الله؟ أو يرسل عليهم عاصفة بركانية تقذفهم بالحمم والماء والطين والأحجار، فتهلكهم دون أن يجدوا لهم من دون الله وكيلا يحميهم ويدفع عنهم؟
أم كيف يأمنون أن يردهم الله إلى البحر فيرسل عليهم ريحا قاصفة، تقصف الصواري وتحطم السفين، فيغرقهم بسبب كفرهم وإعراضهم، فلا يجدون من يطالب بعدهم بتبعة إغراقهم؟
ألا إنها الغفلة أن يعرض الناس عن ربهم ويكفروا. ثم يأمنوا أخذه وكيده. وهم يتوجهون إليه وحده في الشدة ثم ينسونه بعد النجاة. كأنها آخر شدة يمكن أن يأخذهم بها الله!
nindex.php?page=treesubj&link=28988_30451_30452_30525_31749nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=58وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا. كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ..
فَقَدْ قَدَّرَ اللَّهُ أَنْ يَجِيءَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُ هَذِهِ الْأَرْضِ خَالٍ مِنَ الْحَيَاةِ، فَالْهَلَاكُ يَنْتَظِرُ كُلَّ حَيٍّ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ. كَذَلِكَ قَدَّرَ الْعَذَابَ لِبَعْضِ هَذِهِ الْقُرَى بِمَا تَرْتَكِبُ مِنْ ذُنُوبٍ. ذَلِكَ مَا رَكَزَ فِي عِلْمِ اللَّهِ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ عِلْمُهُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ. فَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي سَيَكُونُ كُلُّهُ بِالْقِيَاسِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ سَوَاءٌ.
وَقَدْ كَانَتِ الْخَوَارِقُ تُصَاحِبُ الرِّسَالَاتِ لِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَتَخْوِيفِ النَّاسِ مِنْ عَاقِبَةِ التَّكْذِيبِ وَهِيَ الْهَلَاكُ بِالْعَذَابِ. وَلَكِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَذِهِ الْخَوَارِقِ إِلَّا الْمُسْتَعِدَّةُ قُلُوبُهُمْ لِلْإِيمَانِ; أَمَّا الْجَاحِدُونَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِهَا فِي زَمَانِهِمْ. وَمِنْ هُنَا جَاءَتِ الرِّسَالَةُ الْأَخِيرَةُ غَيْرَ مَصْحُوبَةٍ بِهَذِهِ الْخَوَارِقِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=59وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ. وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا. وَمَا نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا .
إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=25029_18626_28741مُعْجِزَةَ الْإِسْلَامِ هِيَ الْقُرْآنُ. وَهُوَ كِتَابٌ يَرْسُمُ مَنْهَجًا كَامِلًا لِلْحَيَاةِ. وَيُخَاطِبُ الْفِكْرَ وَالْقَلْبَ، وَيُلَبِّي الْفِطْرَةَ الْقَوِيمَةَ. وَيَبْقَى مَفْتُوحًا لِلْأَجْيَالِ الْمُتَتَابِعَةِ تَقْرَؤُهُ وَتُؤْمِنُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. أَمَّا الْخَارِقَةُ الْمَادِّيَّةُ فَهِيَ تُخَاطِبُ جِيلًا وَاحِدًا مِنَ النَّاسِ، وَتَقْتَصِرُ عَلَى مَنْ يُشَاهِدُهَا مِنْ هَذَا الْجِيلِ.
عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ مَنْ كَانُوا يُشَاهِدُونَ الْآيَاتِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا. وَقَدْ ضَرَبَ السِّيَاقُ الْمَثَلَ بِثَمُودَ، الَّذِينَ جَاءَتْهُمُ النَّاقَةُ وَفْقَ مَا طَلَبُوا وَاقْتَرَحُوا آيَةً وَاضِحَةً. فَظَلَمُوا بِهَا أَنْفُسَهُمْ وَأَوْرَدُوهَا مَوَارِدَ الْهَلَكَةِ تَصْدِيقًا لِوَعْدِ اللَّهِ بِإِهْلَاكِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْآيَةِ الْخَارِقَةِ. وَمَا كَانَتِ الْآيَاتُ إِلَّا إِنْذَارًا وَتَخْوِيفًا بِحَتْمِيَّةِ الْهَلَاكِ بَعْدَ مَجِيءِ الْآيَاتِ.
هَذِهِ التَّجَارِبُ الْبَشَرِيَّةُ اقْتَضَتْ أَنْ تَجِيءَ الرِّسَالَةُ الْأَخِيرَةُ غَيْرَ مَصْحُوبَةٍ بِالْخَوَارِقِ. لِأَنَّهَا رِسَالَةُ الْأَجْيَالِ الْمُقْبِلَةِ جَمِيعِهَا لَا رِسَالَةُ جِيلٍ وَاحِدٍ يَرَاهَا. وَلِأَنَّهَا رِسَالَةُ الرُّشْدِ الْبَشَرِيِّ تُخَاطِبُ مَدَارِكَ الْإِنْسَانِ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَتَحْتَرِمُ إِدْرَاكَهُ الَّذِي تَتَمَيَّزُ بِهِ بَشَرِيَّتُهُ وَالَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خُلُقِهِ.
أَمَّا الْخَوَارِقُ الَّتِي وَقَعَتْ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَوَّلُهَا خَارِقَةُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ فَلَمْ تُتَّخَذْ مُعْجِزَةً مُصَدِّقَةً لِلرِّسَالَةِ. إِنَّمَا جُعِلَتْ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَابْتِلَاءً.
nindex.php?page=treesubj&link=28988_30442_30549_30631_31786_32024_32109_33679_34091_34513nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=60وَإِذْ قُلْنَا لَكَ: إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ، وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا .
وَلَقَدِ ارْتَدَّ بَعْضُ مَنْ كَانَ آمِنَ بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ حَادِثَةِ الْإِسْرَاءِ، كَمَا ثَبَتَ بَعْضُهُمْ وَازْدَادَ يَقِينًا. وَمِنْ ثَمَّ كَانَتِ الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَاهَا اللَّهُ لِعَبْدِهِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=60فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَابْتِلَاءً لِإِيمَانِهِمْ. أَمَّا إِحَاطَةُ اللَّهِ بِالنَّاسِ فَقَدْ كَانَتْ وَعَدًا مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ بِالنَّصْرِ، وَعِصْمَةً لَهُ مِنْ أَنْ تَمْتَدَّ أَيْدِيهِمْ إِلَيْهِ.
[ ص: 2238 ] وَلَقَدْ أَخْبَرَهُمْ بِوَعْدِ اللَّهِ لَهُ وَبِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي رُؤْيَاهُ الْكَاشِفَةِ الصَّادِقَةِ. وَمِنْهُ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ الَّتِي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا الْمُكَذِّبِينَ. فَكَذَّبُوا بِذَلِكَ حَتَّى قَالَ أَبُو جَهْلٍ مُتَهَكِّمًا: هَاتُوا لَنَا تَمْرًا وَزَبَدًا، وَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا بِهَذَا وَيَقُولُ: تَزَقَّمُوا فَلَا نَعْلَمُ الزَّقُّومَ غَيْرَ هَذَا!
فَمَاذَا كَانَتِ الْخَوَارِقُ صَانِعَةً مَعَ الْقَوْمِ لَوْ كَانَتْ هِيَ آيَةَ رِسَالَتِهِ كَمَا كَانَتْ عَلَامَةَ الرِّسَالَاتِ قَبْلَهُ وَمُعْجِزَةَ الْمُرْسَلِينَ؟ وَمَا زَادَتْهُمْ خَارِقَةُ الْإِسْرَاءِ وَلَا زَادَهُمُ التَّخْوِيفُ بِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا؟
إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْ إِهْلَاكَهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ. وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُرْسِلْ إِلَيْهِمْ بِخَارِقَةٍ. فَقَدِ اقْتَضَتْ إِرَادَتُهُ أَنْ يُهْلِكَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْخَوَارِقِ. أَمَّا قُرَيْشٌ فَقَدْ أُمْهِلَتْ وَلَمْ تُؤْخَذْ بِالْإِبَادَةِ كَقَوْمِ
نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ .. وَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ مَنْ آمَنَ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَانَ مَنْ جُنْدِ الْإِسْلَامِ الصَّادِقِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْجَبَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ. وَظَلَّ الْقُرْآنُ - مُعْجِزَةُ الْإِسْلَامِ - كِتَابًا مَفْتُوحًا لِجِيلِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِلْأَجْيَالِ بَعْدَهُ، فَآمَنَ بِهِ مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الرَّسُولَ وَعَصْرَهُ وَصَحَابَتَهُ. إِنَّمَا قَرَأَ الْقُرْآنَ أَوْ صَاحَبَ مَنْ قَرَأَهُ. وَسَيَبْقَى الْقُرْآنُ كِتَابًا مَفْتُوحًا لِلْأَجْيَالِ، يَهْتَدِي بِهِ مِنْ هُمْ بَعْدُ فِي ضَمِيرِ الْغَيْبِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ أَشَدُّ إِيمَانًا وَأَصْلَحُ عَمَلًا، وَأَنْفَعُ لِلْإِسْلَامِ مِنْ كَثِيرٍ سَبَقُوهُ..
وَفِي ظِلِّ الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاطَّلَعَ فِيهَا عَلَى مَا اطَّلَعَ مِنْ عَوَالِمَ، وَالشَّجَرَةِ الْمَلْعُونَةِ الَّتِي يُطْعَمُ مِنْهَا أَتْبَاعُ الشَّيَاطِينِ.. يَجِيءُ مَشْهَدُ إِبْلِيسَ الْمَلْعُونِ، يُهَدِّدُ وَيَتَوَعَّدُ بِإِغْوَاءِ الضَّالِّينَ:
nindex.php?page=treesubj&link=28988_31770_31771_32405nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=61وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ: اسْجُدُوا لآدَمَ. فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ. قَالَ: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا؟ nindex.php?page=treesubj&link=28988_31771_31772_34264_34275nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=62قَالَ: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا. nindex.php?page=treesubj&link=28988_30428_30437_31769nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=63قَالَ: اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا. nindex.php?page=treesubj&link=28988_18877_31772_32944_33363_34106_34264nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=64وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ، وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ، وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ. وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا. nindex.php?page=treesubj&link=28988_28723_29676_30469_34513nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=65إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ. وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا ..
إِنَّ السِّيَاقَ يَكْشِفُ عَنِ الْأَسْبَابِ الْأَصِيلَةِ لِضَلَالِ الضَّالِّينَ، فَيَعْرِضُ هَذَا الْمَشْهَدَ هُنَا، لِيُحَذِّرَ النَّاسَ وَهُمْ يَطَّلِعُونَ عَلَى أَسْبَابِ الْغَوَايَةِ، وَيَرَوْنَ إِبْلِيسَ عَدُّوَّهُمْ وَعَدُوَّ أَبِيهِمْ يَتَهَدَّدُهُمْ بِهَا، عَنْ إِصْرَارٍ سَابِقٍ قَدِيمٍ!
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=61وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ: اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا؟
إِنَّهُ حَسَدُ إِبْلِيسَ
لِآدَمَ يَجْعَلُهُ يَذْكُرُ الطِّينَ وَيَغْفُلُ نَفْخَةَ اللَّهِ فِي هَذَا الطِّينِ!
وَيُعَرِّضُ إِبْلِيسُ بِضِعْفِ هَذَا الْمَخْلُوقِ وَاسْتِعْدَادِهِ لِلْغَوَايَةِ، فَيَقُولُ فِي تَبَجُّحٍ:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=62أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ؟ أَتَرَى هَذَا الْمَخْلُوقَ الَّذِي جَعَلَتْهُ أَكْرَمَ مِنِّي عِنْدَكَ؟
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=62لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا .. فَلْأَسْتَوْلِيَنَّ عَلَيْهِمْ وَأَحْتَوِيهِمْ وَأَمْلِكُ زِمَامَهُمْ وَأَجْعَلُهُمْ فِي قَبْضَةِ يَدِي أُصَرِّفُ أَمْرَهُمْ.
وَيَغْفُلُ إِبْلِيسُ عَنِ اسْتِعْدَادِ الْإِنْسَانِ لِلْخَيْرِ وَالْهِدَايَةِ اسْتِعْدَادَهُ لِلشَّرِّ وَالْغَوَايَةِ. عَنْ حَالَتِهِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا مُتَّصِلًا بِاللَّهِ فَيَرْتَفِعُ وَيَسْمُو وَيَعْتَصِمُ مِنَ الشَّرِّ وَالْغَوَايَةِ، وَيَغْفُلُ عَنْ أَنَّ هَذِهِ هِيَ مَزِيَّةُ هَذَا الْمَخْلُوقِ الَّتِي تَرْفَعُهُ عَلَى ذَوِي الطَّبِيعَةِ الْمُفْرَدَةِ الَّتِي لَا تَعْرِفُ إِلَّا طَرِيقًا وَاحِدًا تَسْلُكُهُ بِلَا إِرَادَةٍ. فَالْإِرَادَةُ هِيَ سِرُّ هَذَا الْمَخْلُوقِ الْعَجِيبِ.
وَتَشَاءُ إِرَادَةُ اللَّهِ أَنْ يُطْلِقَ لِرَسُولِ الشَّرِّ وَالْغَوَايَةِ الزِّمَامَ، يُحَاوِلُ مُحَاوَلَتَهُ مَعَ بَنِي الْإِنْسَانِ:
[ ص: 2239 ] nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=63قَالَ: اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ..
اذْهَبْ فَحَاوِلْ مُحَاوَلَتَكَ. اذْهَبْ مَأْذُونًا فِي إِغْوَائِهِمْ. فَهُمْ مُزَوَّدُونَ بِالْعَقْلِ وَالْإِرَادَةِ، يَمْلِكُونَ أَنْ يَتْبَعُوكَ أَوْ يُعْرِضُوا عَنْكَ
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=63فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ مُغَلِّبًا جَانِبَ الْغَوَايَةِ فِي نَفْسِهِ عَلَى جَانِبِ الْهِدَايَةِ، مُعْرِضًا عَنْ نِدَاءِ الرَّحْمَنِ إِلَى نِدَاءِ الشَّيْطَانِ، غَافِلًا عَنْ آيَاتِ اللَّهِ فِي الْكَوْنِ، وَآيَاتِ اللَّهِ الْمُصَاحِبَةِ لِلرِّسَالَاتِ،
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=63فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ أَنْتَ وَتَابِعُوكَ
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=63جَزَاءً مَوْفُورًا .
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=64وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ .
وَهُوَ تَجْسِيمٌ لِوَسَائِلَ الْغَوَايَةِ وَالْإِحَاطَةِ، وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْمَشَاعِرِ وَالْعُقُولِ. فَهِيَ الْمَعْرَكَةُ الصَّاخِبَةُ، تُسْتَخْدَمُ فِيهَا الْأَصْوَاتُ وَالْخَيْلُ وَالرَّجِلُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَعَارِكِ وَالْمُبَارَزَاتِ. يُرْسَلُ فِيهَا الصَّوْتُ فَيُزْعِجُ الْخُصُومَ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ مَرَاكِزِهِمُ الْحَصِينَةِ، أَوْ يَسْتَدْرِجُهُمْ لِلْفَخِّ الْمَنْصُوبِ وَالْمَكِيدَةِ الْمُدَبَّرَةِ. فَإِذَا اسْتُدْرِجُوا إِلَى الْعَرَاءِ أَخَذَتْهُمُ الْخَيْلُ، وَأَحَاطَتْ بِهِمُ الرُّجَّال!
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=64وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ ..
وَهَذِهِ الشَّرِكَةُ تَتَمَثَّلُ فِي أَوْهَامِ الْوَثَنِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، إِذْ كَانُوا يَجْعَلُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَصِيبًا لِلْآلِهَةِ الْمُدَّعَاةِ - فَهِيَ لِلشَّيْطَانِ - وَفِي أَوْلَادِهِمْ نُذُورًا لِلْآلِهَةِ أَوْ عَبِيدًا لَهَا - فَهِيَ لِلشَّيْطَانِ - كَعَبْدِ اللَّاتِ وَعَبْدِ مَنَاةَ. وَأَحْيَانًا كَانُوا يَجْعَلُونَهَا لِلشَّيْطَانِ رَأْسًا كَعَبْدِ الْحَارِثِ!
كَمَّا تَتَمَثَّلُ فِي كُلِّ مَالٍ يُجْبَى مِنْ حَرَامٍ، أَوْ يُتَصَرَّفُ فِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ يُنْفَقُ فِي إِثْمٍ. وَفِي كُلِّ وَلَدٍ يَجِيءُ مِنْ حَرَامٍ. فَفِيهِ شَرِكَةٌ لِلشَّيْطَانِ.
وَالتَّعْبِيرُ يُصَوِّرُ فِي عُمُومِهِ شَرِكَةً تَقُومُ بَيْنَ إِبْلِيسَ وَأَتْبَاعِهِ تَشْمَلُ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ وَهُمَا قَوَامُ الْحَيَاةِ!
وَإِبْلِيسُ مَأْذُونٌ فِي أَنْ يَسْتَخْدِمَ وَسَائِلَهُ كُلَّهَا، وَمِنْهَا الْوُعُودُ الْمُغْرِيَةُ الْخَادِعَةُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=64وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا كَالْوَعْدِ بِالْإِفْلَاتِ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالْقِصَاصِ. وَالْوَعْدُ بِالْغِنَى مِنَ الْأَسْبَابِ الْحَرَامِ. وَالْوَعْدُ بِالْغَلَبَةِ وَالْفَوْزِ بِالْوَسَائِلِ الْقَذِرَةِ وَالْأَسَالِيبِ الْخَسِيسَةِ ...
وَلَعَلَّ أَشَدَّ الْوُعُودِ إِغْرَاءً الْوَعْدُ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ بَعْدَ الذَّنَبِ وَالْخَطِيئَةِ; وَهِيَ الثُّغْرَةُ الَّتِي يَدْخُلُ مِنْهَا الشَّيْطَانُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْقُلُوبِ الَّتِي يَعِزُّ عَلَيْهِ غَزْوُهَا مِنْ نَاحِيَةِ الْمُجَاهَرَةِ بِالْمَعْصِيَةِ وَالْمُكَابَرَةِ. فَيَتَلَطَّفُ حِينَئِذٍ إِلَى تِلْكَ النُّفُوسِ الْمُتَحَرِّجَةِ، وَيُزَيِّنُ لَهَا الْخَطِيئَةَ وَهُوَ يُلَوِّحُ لَهَا بِسِعَةِ الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَشُمُولِ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ!
اذْهَبْ مَأْذُونًا فِي إِغْوَاءِ مَنْ يَجْنَحُونَ إِلَيْكَ. وَلَكِنْ هُنَالِكَ مَنْ لَا سُلْطَانَ لَكَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ مُزَوَّدُونَ بِحَصَانَةٍ تَمْنَعُهُمْ مِنْكَ وَمِنْ خَيْلِكَ وَرَجِلِكَ!
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=65إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ. وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا ..
فَمَتَى اتَّصَلَ الْقَلْبُ بِاللَّهِ، وَاتَّجَهَ إِلَيْهِ بِالْعِبَادَةِ. مَتَى ارْتَبَطَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا. مَتَى أَيْقَظَ فِي رُوحِهِ النَّفْخَةَ الْعُلْوِيَّةَ فَأَشْرَقَتْ وَأَنَارَتْ.. فَلَا سُلْطَانَ حِينَئِذٍ لِلشَّيْطَانِ عَلَى ذَلِكَ الْقَلْبِ الْمَوْصُولِ بِاللَّهِ، وَهَذَا الرُّوحِ الْمُشْرِقِ بِنُورِ الْإِيمَانِ..
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=65وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا يَعْصِمُ وَيَنْصُرُ وَيُبْطِلُ كَيْدَ الشَّيْطَانِ.
وَانْطَلَقَ الشَّيْطَانُ يُنَفِّذُ وَعِيدَهُ، وَيَسْتَذِلُّ عَبِيدَهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَجْرُؤُ عَلَى عِبَادِ الرَّحْمَنِ، فَمَا لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ.
ذَلِكَ مَا يُبَيِّتُهُ الشَّيْطَانُ لِلنَّاسِ مِنْ شَرٍّ وَأَذًى ثُمَّ يُوجَدُ فِي النَّاسِ مَنْ يَتَّبِعُونَ هَذَا الشَّيْطَانَ، وَيَسْتَمِعُونَ إِلَيْهِ،
[ ص: 2240 ] وَيَعْرِضُونَ عَنْ نِدَاءِ اللَّهِ لَهُمْ وَهِدَايَتِهِ. وَاللَّهُ رَحِيمٌ بِهِمْ يُعِينُهُمْ وَيُهْدِيهِمْ وَيُيَسِّرُ لَهُمُ الْمَعَاشَ، وَيُنْجِيهِمْ مِنَ الضُّرِّ وَالْكَرْبِ، وَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ فِي مَوْقِفِ الشِّدَّةِ وَالضِّيقِ.. ثُمَّ إِذَا هُمْ يُعْرِضُونَ وَيَكْفُرُونَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=66رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا. nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=67وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ، وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا ..
وَالسِّيَاقُ يَعْرِضُ هَذَا الْمَشْهَدَ، مَشْهَدَ الْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ، نَمُوذَجًا لِلَحَظَاتِ الشِّدَّةِ وَالْحَرَجِ. لِأَنَّ الشُّعُورَ بِيَدِ اللَّهِ فِي الْخِضَمِّ أَقْوَى وَأَشَدُّ حَسَاسِيَةً، وَنُقْطَةٌ مِنَ الْخَشَبِ أَوِ الْمَعْدِنِ تَائِهَةٌ فِي الْخِضَمِّ، تَتَقَاذَفُهَا الْأَمْوَاجُ وَالتَّيَّارَاتُ وَالنَّاسُ مُتَشَبِّثُونَ بِهَذِهِ النُّقْطَةِ عَلَى كَفِّ الرَّحْمَنِ.
إِنَّهُ مَشْهَدٌ يُحِسُّ بِهِ مَنْ كَابَدَهُ، وَيُحِسُّ بِالْقُلُوبِ الْخَافِقَةِ الْوَاجِفَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِكُلِّ هَزَّةٍ وَكُلِّ رَجْفَةٍ فِي الْفُلْكِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا حَتَّى عَابِرَاتُ الْمُحِيطِ الْجَبَّارَةُ الَّتِي تَبْدُو فِي بَعْضِ اللَّحَظَاتِ كَالرِّيشَةِ فِي مَهَبِّ الرِّيَاحِ عَلَى ثَبَجِ الْمَوْجِ الْجَبَّارِ!
وَالتَّعْبِيرُ يَلْمِسُ الْقُلُوبَ لِمَسَّةً قَوِيَّةً وَهُوَ يُشْعِرُ النَّاسَ أَنَّ يَدَ اللَّهِ تَزُجِّي لَهُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ وَتَدْفَعُهُ لِيَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=66إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا فَالرَّحْمَةُ هِيَ أَظْهَرُ مَا تَسْتَشْعِرُهُ الْقُلُوبُ فِي هَذَا الْأَوَانِ.
ثُمَّ يَنْتَقِلُ بِهِمْ مِنَ الْإِزْجَاءِ الرَّخِيِّ لِلِاضْطِرَابِ الْعِتِيِّ. حِينَ يَنْسَى الرَّكْبُ فِي الْفُلْكِ الْمُتَنَاوِحِ بَيْنَ الْأَمْوَاجِ كُلَّ قُوَّةٍ وَكُلَّ سَنَدٍ وَكُلَّ مُجِيرٍ إِلَّا اللَّهَ، فَيَتَّجِهُونَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فِي لَحْظَةِ الْخَطَرِ لَا يَدْعُونَ أَحَدًا سِوَاهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=67ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ ..
وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ الْإِنْسَانُ، فَمَا أَنْ تَنْجَلِي الْغَمْرَةُ، وَتُحِسُّ قَدَمَاهُ ثَبَاتَ الْأَرْضِ مِنْ تَحْتِهِ حَتَّى يَنْسَى لَحْظَةَ الشِّدَّةِ، فَيَنْسَى اللَّهَ، وَتَتَقَاذَفُهُ الْأَهْوَاءُ وَتَجْرُفُهُ الشَّهَوَاتِ، وَتُغَطِّي عَلَى فِطْرَتِهِ الَّتِي جَلَاهَا الْخَطَرُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=67فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا إِلَّا مَنِ اتَّصَلَ قَلْبُهُ بِاللَّهِ فَأَشْرَقَ وَاسْتَنَارَ.
وَهُنَا يَسْتَجِيشُ السِّيَاقُ وِجْدَانَ الْمُخَاطَبِينَ بِتَصْوِيرِ الْخَطَرِ الَّذِي تَرَكُوهُ فِي الْبَحْرِ وَهُوَ يُلَاحِقُهُمْ فِي الْبَرِّ أَوْ وَهُمْ يَعُودُونَ إِلَيْهِ فِي الْبَحْرِ، لِيَشْعُرُوا أَنَّ الْأَمْنَ وَالْقَرَارَ لَا يَكُونَانِ إِلَّا فِي جِوَارِ اللَّهِ وَحِمَاهُ، لَا فِي الْبَحْرِ وَلَا فِي الْبَرِّ; لَا فِي الْمَوْجَةِ الرَّخِيَّةِ وَالرِّيحِ الْمُوَاتِيَةِ وَلَا فِي الْمَلْجَإِ الْحَصِينِ وَالْمَنْزِلِ الْمُرِيحِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=68أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا، ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا؟ nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=69أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى، فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ، ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا؟ .
إِنَّ الْبَشَرَ فِي قَبْضَةِ اللَّهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَفِي كُلِّ بُقْعَةٍ. إِنَّهُمْ فِي قَبْضَتِهِ فِي الْبَرِّ كَمَا هُمْ فِي قَبْضَتِهِ فِي الْبَحْرِ. فَكَيْفَ يَأْمَنُونَ؟ كَيْفَ يَأْمَنُونَ أَنْ يَخْسِفَ بِهِمْ جَانِبَ الْبَرِّ بِزِلْزَالٍ أَوْ بُرْكَانٍ، أَوْ بِغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لِقُدْرَةِ اللَّهِ؟ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ عَاصِفَةً بُرْكَانِيَّةً تَقْذِفُهُمْ بِالْحُمَمِ وَالْمَاءِ وَالطِّينِ وَالْأَحْجَارِ، فَتُهْلِكُهُمْ دُونَ أَنْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَكِيلًا يَحْمِيهِمْ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ؟
أَمْ كَيْفَ يَأْمَنُونَ أَنْ يَرُدَّهُمُ اللَّهُ إِلَى الْبَحْرِ فَيُرْسِلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا قَاصِفَةً، تَقْصِفُ الصَّوَارِي وَتُحَطِّمُ السَّفِينِ، فَيُغْرِقُهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ، فَلَا يَجِدُونَ مَنْ يُطَالِبُ بَعْدَهُمْ بِتَبِعَةِ إِغْرَاقِهِمْ؟
أَلَا إِنَّهَا الْغَفْلَةُ أَنْ يُعْرِضَ النَّاسُ عَنْ رَبِّهِمْ وَيَكْفُرُوا. ثُمَّ يَأْمَنُوا أَخْذَهُ وَكَيْدَهُ. وَهُمْ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فِي الشِّدَّةِ ثُمَّ يَنْسَوْنَهُ بَعْدَ النَّجَاةِ. كَأَنَّهَا آخِرُ شِدَّةٍ يُمْكِنُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِهَا اللَّهُ!