الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون. إنه لذو حظ عظيم. وقال الذين أوتوا العلم: ويلكم! ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا، ولا يلقاها إلا الصابرون

                                                                                                                                                                                                                                      . [ ص: 2713 ] وهكذا وقفت طائفة منهم أمام فتنة الحياة الدنيا وقفة المأخوذ المبهور المتهاوي المتهافت، ووقفت طائفة أخرى تستعلي على هذا كله بقيمة الإيمان، والرجاء فيما عند الله، والاعتزاز بثواب الله، والتقت قيمة المال وقيمة الإيمان في الميزان:

                                                                                                                                                                                                                                      قال الذين يريدون الحياة الدنيا: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون. إنه لذو حظ عظيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وفي كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب، وتبهر الذين يريدون الحياة الدنيا، ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم منها; فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته؟ ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة؟ من مال أو منصب أو جاه، ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى، كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى!. ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع، غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه، ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه، ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما المتصلون بالله فلهم ميزان آخر يقيم الحياة، وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع، وهم أعلى نفسا، وأكبر قلبا من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم لأرض جميعا؛ ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد، وهؤلاء هم الذين أوتوا العلم . العلم الصحيح الذي يقومون به الحياة حق التقويم:

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الذين أوتوا العلم: ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا، ولا يلقاها إلا الصابرون .

                                                                                                                                                                                                                                      ثواب الله خير من هذه الزينة، وما عند الله خير مما عند قارون، والشعور على هذا النحو درجة رفيعة لا يلقاها إلى الصابرون، الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم، الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها، الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثرون، وعندما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة، درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض، والتطلع إلى ثواب الله في رضا وثقة واطمئنان.

                                                                                                                                                                                                                                      وعندما تبلغ فتنة الزينة ذروتها، وتتهافت أمامها النفوس وتتهاوى، تتدخل يد القدرة لتضع حدا للفتنة، وترحم الناس الضعاف من إغرائها، وتحطم الغرور والكبرياء تحطما، ويجيء المشهد الثالث حاسما فاصلا:

                                                                                                                                                                                                                                      فخسفنا به وبداره الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله، وما كان من المنتصرين ..

                                                                                                                                                                                                                                      هكذا في جملة قصيرة، وفي لمحة خاطفة: فخسفنا به وبداره الأرض فابتلعته وابتلعت داره، وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقا، وذهب ضعيفا عاجزا، لا ينصره أحد، ولا ينتصر بجاه أو مال.

                                                                                                                                                                                                                                      وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت بعض الناس; وردتهم الضربة القاضية إلى الله; وكشفت عن قلوبهم قناع الغفلة والضلال، وكان هذا المشهد الأخير:

                                                                                                                                                                                                                                      وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون:! ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر. لولا أن من الله علينا لخسف بنا.! ويكأنه لا يفلح الكافرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وقفوا يحمدون الله أن لم يستجب لهم ما تمنوه بالأمس، ولم يؤتهم ما آتى قارون، وهم يرون المصير البائس الذي انتهى إليه بين يوم وليلة، وصحوا إلى أن الثراء ليس آية على رضى الله، فهو يوسع الرزق على من يشاء من عباده ويضيقه لأسباب أخرى غير الرضى والغضب، ولو كان دليل رضاه ما أخذ قارون هذا الأخذ الشديد العنيف، إنما هو الابتلاء الذي قد يعقبه البلاء، وعلموا أن الكافرين لا يفلحون، وقارون لم يجهر بكلمة الكفر [ ص: 2714 ] ولكن اغتراره بالمال، ونسبته إلى ما عنده من العلم جعلهم يسلكونه في عداد الكافرين، ويرون في نوع هلاكه أنه هلاك للكافرين.

                                                                                                                                                                                                                                      ويسدل الستار على هذا المشهد، وقد انتصرت القلوب المؤمنة بتدخل القدرة السافرة، وقد رجحت قيمة الإيمان في كفة الميزان، ثم يأخذ في التعقيب في أنسب أوان:

                                                                                                                                                                                                                                      تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا. والعاقبة للمتقين ..

                                                                                                                                                                                                                                      تلك الآخرة التي تحدث عنها الذين أوتوا العلم، العلم الحق الذي يقوم الأشياء قيمتها الحققية، تلك الدار الآخرة العالية الرتبة البعيدة الآفاق، تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ..

                                                                                                                                                                                                                                      فلا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء بأنفسهم لأنفسهم; ولا يهجس في قلوبهم الاعتزاز بذواتهم والاعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها، إنما يتوارى شعورهم بأنفسهم ليملأها الشعور بالله، ومنهجه في الحياة، أولئك الذين لا يقيمون لهذه الأرض وأشيائها وأعراضها وقيمها وموازينها حسابا، ولا يبغون فيها كذلك فسادا، أولئك هم الذين جعل الله لهم الدار الآخرة، تلك الدار العالية السامية.

                                                                                                                                                                                                                                      والعاقبة للمتقين الذين يخشون الله ويراقبونه ويتحرجون من غضبه ويبتغون رضاه.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي تلك الدار الآخرة يقع الجزاء كما كتب الله على نفسه، الحسنة بأضعافها وبما هو خير منها، والسيئة بمثلها رحمة بضعف الخلق وتيسيرا:

                                                                                                                                                                                                                                      من جاء بالحسنة فله خير منها. ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون ..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية