[ ص: 2801 ] (32)
nindex.php?page=treesubj&link=28889سورة السجدة مكية وآياتها ثلاثون
بسم الله الرحمن الرحيم
nindex.php?page=treesubj&link=29003_32450_34237nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=1الم (1) nindex.php?page=treesubj&link=29003_28657_31011_32238_34513nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=2تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين (2)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=3أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون (3)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=4الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون (4)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=5يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون (5)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=6ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم (6)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=7الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين (7)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=8ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين (8)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون (9)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=10وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون (10)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=11قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون (11)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=12ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون (12)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=13ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (13)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=14فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون (14)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=15إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون (15)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=16تتجافى جنوبهم [ ص: 2802 ] عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون (16)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=17فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا .يعملون (17)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=18أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون (18)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=19أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون (19)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=20وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون (20)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=21ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون (21)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=22ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون (22)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=23ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل (23)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=24وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون (24)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=25إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (25)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=26أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون (26)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=27أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون (27)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=28ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين (28)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=29قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون (29)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=30فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون (30)
هذه السورة المكية نموذج آخر من نماذج الخطاب القرآني للقلب البشري بالعقيدة الضخمة التي جاء القرآن ليوقظها في الفطر، ويركزها في القلوب: عقيدة الدينونة لله الأحد الفرد الصمد، خالق الكون والناس، ومدبر السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من خلائق لا يعلمها إلا الله. والتصديق برسالة
محمد - صلى الله عليه وسلم - الموحى إليه بهذا القرآن لهداية البشر إلى الله. والاعتقاد بالبعث والقيامة والحساب والجزاء.
هذه هي القضية التي تعالجها السورة; وهي القضية التي تعالجها سائر السور المكية. كل منها تعالجها بأسلوب خاص، ومؤثرات خاصة; تلتقي كلها في أنها تخاطب القلب البشري خطاب العليم الخبير، المطلع على أسرار هذه القلوب وخفاياها، ومنحنياتها ودروبها، العارف بطبيعتها وتكوينها، وما يستكن فيها من مشاعر،
[ ص: 2803 ] وما يعتريها من تأثرات واستجابات في جميع الأحوال والظروف.
وسورة السجدة تعالج تلك القضية بأسلوب وبطريقة غير أسلوب وطريقة سورة لقمان السابقة. فهي تعرضها في آياتها الأولى; ثم تمضي بقيتها تقدم مؤثرات موقظة للقلب، منيرة للروح، مثيرة للتأمل والتدبر; كما تقدم أدلة وبراهين على تلك القضية معروضة في صفحة الكون ومشاهده وفي نشأة الإنسان وأطواره وفي مشاهد من اليوم الآخر حافلة بالحياة والحركة; وفي مصارع الغابرين وآثارهم الناطقة بالعبرة لمن يسمع لها ويتدبر منطقها!
كذلك ترسم السورة صورا للنفوس المؤمنة في خشوعها وتطلعها إلى ربها. وللنفوس الجاحدة في عنادها ولجاجها; وتعرض صورا للجزاء الذي يتلقاه هؤلاء وهؤلاء، وكأنها واقع مشهود حاضر للعيان، يشهده كل قارئ لهذا القرآن.
وفي كل هذه المعارض والمشاهد تواجه القلب البشري بما يوقظه ويحركه ويقوده إلى التأمل والتدبر مرة، وإلى الخوف والخشية مرة، وإلى التطلع والرجاء مرة. وتطالعه تارة بالتحذير والتهديد، وتارة بالإطماع، وتارة بالإقناع.. ثم تدعه في النهاية تحت هذه المؤثرات وأمام تلك البراهين. تدعه لنفسه يختار طريقه، وينتظر مصيره على علم وعلى هدى وعلى نور.
ويمضي سياق السورة في عرض تلك القضية في أربعة مقاطع أو خمسة متلاحقة متصلة: يبدأ بالأحرف المقطعة " ألف. لام. ميم " منبها بها إلى تنزيل الكتاب من جنس هذه الأحرف. ونفي الريب عن تنزيله والوحي به:
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=2من رب العالمين .. ويسأل سؤال استنكار عما إذا كانوا يقولون: افتراه. ويؤكد أنه الحق من ربه لينذر قومه
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=3لعلهم يهتدون ..
وهذه هي القضية الأولى من قضايا العقيدة: قضية الوحي وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التبليغ عن رب العالمين.
ثم يعرض قضية الألوهية وصفتها في صفحة الوجود: في خلق السماوات والأرض وما بينهما، وفي الهيمنة على الكون وتدبير الأمر في السماوات والأرض، ورفع الأمر إليه في اليوم الآخر.. ثم في نشأة الإنسان وأطواره وما وهبه الله من السمع والبصر والإدراك. والناس بعد ذلك قليلا ما يشكرون.
وهذه هي القضية الثانية: قضية الألوهية وصفتها: صفة الخلق، وصفة التدبير، وصفة الإحسان، وصفة الإنعام، وصفة العلم. وصفة الرحمة. وكلها مذكورة في سياق آيات الخلق والتكوين.
ثم يعرض قضية البعث، وشكهم فيه بعد تفرق ذراتهم في التراب:
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=10وقالوا: أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد؟ ويرد على هذا الشك بصيغة الجزم واليقين.
وهذه هي القضية الثالثة: قضية البعث والمصير.
ومن ثم يعرض مشهدا من مشاهد القيامة:
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=12إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم يعلنون يقينهم بالآخرة ويقينهم بالحق الذي جاءتهم به الدعوة. ويقولون الكلمة التي لو قالوها في الدنيا لفتحت لهم أبواب الجنة; ولكنها في موقفهم ذاك ل تجدي شيئا ولا تفيد. لعل هذا المشهد أن يوقظهم - قبل فوات الأوان - لقول الكلمة التي سيقولونها في الموقف العصيب. فيقولوها الآن في وقتها المطلوب.
وإلى جوار هذا المشهد البائس المكروب يعرض مشهد المؤمنين في هذه الأرض: إذا ذكروا بآيات ربهم.
[ ص: 2804 ] nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=15خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون. nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=16تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون .. وهي صورة موحية شفيفة ترف حولها القلوب. يعرض إلى جوارها ما أعده الله لهذه النفوس الخاشعة الخائفة الطامعة من نعيم يعلو على تصور البشر الفانين:
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=17فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون .. ويعقب عليه بمشهد سريع لمصائر المؤمنين والفاسقين في جنة المأوى وفي نار الجحيم. وبتهديد المجرمين بالانتقام منهم في الأرض أيضا قبل أن يلاقوا مصيرهم الأليم.
ثم ترد إشارة إلى
موسى - عليه السلام - ووحدة رسالته ورسالة
محمد - صلى الله عليه وسلم - والمهتدين من قومه، وصبرهم على الدعوة، وجزائهم على هذا الصبر بأن جعلهم الله أئمة. وفي هذه الإشارة إيحاء بالصبر على ما يلقاه الدعاة إلى الإسلام من كيد ومن تكذيب.
وتعقب هذه الإشارة جولة في مصارع الغابرين من القرون، وهم يمشون في مساكنهم غافلين.. ثم جولة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء بالحياة والنماء فيتقابل مشهد البلى ومشهد الحياة في سطور.
وتختم السورة بحكاية قولهم:
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=28متى هذا الفتح؟ وهم يتساءلون في شك عن يوم الفتح الذي يتحقق فيه الوعيد. والجواب بالتخويف من هذا اليوم والتهديد. وتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليعرض عنهم ويدعهم لمصيرهم المحتوم.
والآن نأخذ في عرض السورة بالتفصيل:
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=1الم. nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=2تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين. nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=3أم يقولون: افتراه؟ بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون ..
" ألف. لام. ميم " .. هذه الأحرف التي يعرفها
العرب المخاطبون بهذا الكتاب; ويعرفون ما يملكون أن يصوغوا منها ومن نظائرها من كلام، ويدركون الفارق الهائل بين ما يملكون أن يصوغوه منها وبين هذا القرآن; وهو فارق يدركه كل خبير بالقول، وكل من يمارس التعبير باللفظ عن المعاني والأفكار. كما يدرك أن في النصوص القرآنية قوة خفية، وعنصرا مستكنا، يجعل لها سلطانا وإيقاعا في القلب والحس ليسا لسائر القول المؤلف من أحرف اللغة، مما يقوله البشر في جميع الأعصار. وهي ظاهرة ملحوظة لا سبيل إلى الجدال فيها، لأن السامع يدركها، ويميزها، ويهتز لها، من بين سائر القول، ولو لم يعلم سلفا أن هذا القرآن! والتجارب الكثيرة تؤكد هذه الظاهرة في شتى أوساط الناس.
والفارق بين القرآن وما يصوغه البشر من هذه الحروف من كلام، هو كالفارق بين صنعة الله وصنعة البشر في سائر الأشياء. صنعة الله واضحة مميزة، لا تبلغ إليها صنعة البشر في أصغر الأشياء. وإن توزيع الألوان في زهرة واحدة ليبدو معجزة لأمهر الرسامين في جميع العصور.. وكذلك صنع الله في القرآن وصنع البشر فيما يصوغون من هذه الحروف من كلام!
ألف. لام. ميم
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=2تنزيل الكتاب - لا ريب فيه - من رب العالمين .. قضية مقطوع بها، لا سبيل إلى الشك فيها. قضية تنزيل الكتاب من رب العالمين.. ويعجل السياق بنفي الريب في منتصف الآية، بين المبتدإ فيها والخبر، لأن هذا هو صلب القضية، والنقطة المقصودة في النص. والتمهيد لها بذكر هذه الأحرف المقطعة يضع المرتابين الشاكين وجها لوجه أمام واقع الأمر، الذي لا سبيل إلى الجدل فيه. فهذا الكتاب مصوغ من جنس هذه الأحرف التي يعرفون; ونمطه هو هذا النمط المعجز الذي لا يمارون في إعجازه،
[ ص: 2805 ] أمام التجربة الواقعة، وأمام موازين القول التي يقر بها الجميع.
إن كل آية وكل سورة تنبض بالعنصر المستكن العجيب المعجز في هذا القرآن; وتشي بالقوة الخفية المودعة في هذا الكلام. وإن الكيان الإنساني ليهتز ويرتجف ويتزايل ولا يملك التماسك أمام هذا القرآن، كلما تفتح القلب، وصفا الحس، وارتفع الإدراك، وارتفعت حساسية التلقي والاستجابة. وإن هذه الظاهرة لتزداد وضوحا كلما اتسعت ثقافة الإنسان، ومعرفته بهذا الكون وما فيه ومن فيه. فليست هي مجرد وهلة تأثيرية وجدانية غامضة. فهي متحققة حين يخاطب القرآن الفطرة خطابا مباشرا. وهي متحققة كذلك حين يخاطب القلب المجرب، والعقل المثقف، والذهن الحافل بالعلم والمعلومات. وإن نصوصه ليتسع مدى مدلولاتها ومفهوماتها وإيقاعاتها على السواء كلما ارتفعت درجة العلم والثقافة والمعرفة، ما دامت الفطرة مستقيمة لم تنحرف ولم تطمس عليها الأهواء مما يجزم بأن هذا القرآن صنعة غير بشرية على وجه اليقين، وأنه تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين.
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=3أم يقولون: افتراه؟ ..
ولقد قلوها فيما زعموه متعنتين. ولكن السياق هنا يصوغ هذا القول في صيغة المستنكر لأن يقال هذا القول أصلا:
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=3أم يقولون: افتراه؟ .. هذه القولة التي لا ينبغي أن تقال; فتاريخ
محمد - صلى الله عليه وسلم - فيهم ينفي هذه الكلمة الظالمة من جهة; وطبيعة هذا الكتاب ذاتها تنفيه أصلا، ولا تدع مجالا للريب والتشكك:
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=3بل هو الحق من ربك ..
الحق.. بما في طبيعته من صدق ومطابقة لما في الفطرة من الحق الأزلي وما في طبيعة الكون كله من هذا الحق الثابت، المستقر في كيانه، الملحوظ في تناسقه واطراد نظامه، وثبات هذا النظام، وشموله وعدم تصادم أجزائه، أو تناثرها، وتعارف هذه الأجزاء وتلاقيها.
الحق.. بترجمته لنواميس هذا الوجود الكبير ترجمة مستقيمة; وكأنما هو الصورة اللفظية المعنوية لتلك النواميس الطبيعية الواقعية العاملة في هذا الوجود.
الحق.. بما يحققه من اتصال بين البشر الذين يرتضون منهجه وهذا الكون الذي يعيشون فيه ونواميسه الكلية، وما يعقده بينهم وبين قوى الكون كله من سلام وتعاون وتفاهم وتلاق. حيث يجدون أنفسهم في صداقة مع كل ما حولهم من هذا الكون الكبير.
الحق.. الذي تستجيب له الفطرة حين يلمسها إيقاعه، في يسر وسهولة، وفي غير مشقة ولا عنت. لأنه يلتقي بما فيها من حق أزلي قديم.
الحق.. الذي لا يتفرق ولا يتعارض وهو يرسم منهاج الحياة البشرية كاملا; ويلحظ في هذا المنهاج كل قواها وكل طاقاتها، وكل نزعاتها وكل حاجاتها، وكل ما يعتورها من مرض أو ضعف أو نقص أو آفة، تدرك النفوس وتفسد القلوب.
الحق.. الذي لا يظلم أحدا في دنيا أو آخرة. ولا يظلم قوة في نفس ولا طاقة. ولا يظلم فكرة في القلب أو حركة في الحياة، فيكفها عن الوجود والنشاط، ما دامت متفقة مع الحق الكبير الأصيل في صلب الوجود.
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=3بل هو الحق من ربك .. فما هو من عندك، إنما هو من عند ربك. وهو رب العالمين كما قال في
[ ص: 2806 ] الآية السابقة; إنما هذه الإضافة هنا للتكريم. تكريم الرسول الذي يتهمونه بالافتراء. وإلقاء ظلال القربى بينه وبين ربه رب العالمين. ردا على الاتهام الأثيم. وتقريرا للصلة الوثيقة التي تحمل مع معنى التكريم معنى وثاقة المصدر وصحة التلقي. وأمانة النقل والتبليغ.
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=3لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك، لعلهم يهتدون ..
والعرب الذين أرسل إليهم
محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يرسل إليهم أحد قبله; ولا يعرف التاريخ رسولا بين
إسماعيل - عليه السلام - جد
العرب الأول وبين
محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد نزل الله عليه هذا الكتاب الحق، لينذرهم به.
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=3لعلهم يهتدون فهدايتهم مرجوة بهذا الكتاب، لما فيه من الحق الذي يخاطب الفطر والقلوب.
هؤلاء القوم الذين نزل الله الكتاب لينذرهم به رسوله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يشركون مع الله آلهة أخرى. فهنا يبدأ ببيان صفة الله التي يعرفون بها حق ألوهيته سبحانه، ويميزون بها بين من يستحق هذا الوصف العظيم: " الله " ومن لا يستحقونه ولا يجوز أن يقرنوا إلى مقام الله رب العالمين:
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=4الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش، ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع. أفلا تتذكرون؟ nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=5يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون. nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=6ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم. nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=7الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين. nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=8ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة. قليلا ما تشكرون ..
ذلك هو الله، وهذه هي آثار ألوهيته ودلائلها. هذه هي في صفحة الكون المنظور. وفي ضمير الغيب المترامي وراء إدراك البشر المحدود. وفي نشأة الإنسان وأطواره التي يعرفها الناس، والتي يطلعهم عليها الله في كتابه الحق المبين.
[ ص: 2801 ] (32)
nindex.php?page=treesubj&link=28889سُورَةُ السَّجْدَةِ مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا ثَلَاثُونَ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
nindex.php?page=treesubj&link=29003_32450_34237nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=1الم (1) nindex.php?page=treesubj&link=29003_28657_31011_32238_34513nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=2تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=3أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=4اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=5يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=6ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=7الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=8ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ (9)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=10وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=11قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=12وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=13وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=14فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=15إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=16تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ [ ص: 2802 ] عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=17فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا .يَعْمَلُونَ (17)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=18أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ (18)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=19أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=20وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارُ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=21وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=22وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=23وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=24وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=25إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=26أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=27أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=28وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=29قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=30فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
هَذِهِ السُّورَةُ الْمَكِّيَّةُ نَمُوذَجٌ آخَرُ مِنْ نَمَاذِجِ الْخِطَابِ الْقُرْآنِيِّ لِلْقَلْبِ الْبَشَرِيِّ بِالْعَقِيدَةِ الضَّخْمَةِ الَّتِي جَاءَ الْقُرْآنُ لِيُوقِظَهَا فِي الْفِطَرِ، وَيُرَكِّزَهَا فِي الْقُلُوبِ: عَقِيدَةِ الدَّيْنُونَةِ لِلَّهِ الْأَحَدِ الْفَرْدِ الصَّمَدِ، خَالِقِ الْكَوْنِ وَالنَّاسِ، وَمُدَبِّرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا فِيهِمَا مِنْ خَلَائِقَ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ. وَالتَّصْدِيقِ بِرِسَالَةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُوحَى إِلَيْهِ بِهَذَا الْقُرْآنِ لِهِدَايَةِ الْبَشَرِ إِلَى اللَّهِ. وَالِاعْتِقَادِ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ.
هَذِهِ هِيَ الْقَضِيَّةُ الَّتِي تُعَالِجُهَا السُّورَةُ; وَهِيَ الْقَضِيَّةُ الَّتِي تُعَالِجُهَا سَائِرُ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ. كُلٌّ مِنْهَا تُعَالِجُهَا بِأُسْلُوبٍ خَاصٍّ، وَمُؤَثِّرَاتٍ خَاصَّةٍ; تَلْتَقِي كُلُّهَا فِي أَنَّهَا تُخَاطِبُ الْقَلْبَ الْبِشْرِيَّ خَطَّابَ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ، الْمُطَّلِعِ عَلَى أَسْرَارِ هَذِهِ الْقُلُوبِ وَخَفَايَاهَا، وَمُنْحَنَيَاتِهَا وَدُرُوبِهَا، الْعَارِفِ بِطَبِيعَتِهَا وَتَكْوِينِهَا، وَمَا يَسْتَكِنَّ فِيهَا مِنْ مَشَاعِرَ،
[ ص: 2803 ] وَمَا يَعْتَرِيهَا مِنْ تَأَثُّرَاتٍ وَاسْتِجَابَاتٍ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالظُّرُوفِ.
وَسُورَةُ السَّجْدَةِ تُعَالِجُ تِلْكَ الْقَضِيَّةَ بِأُسْلُوبٍ وَبِطَرِيقَةٍ غَيْرِ أُسْلُوبِ وَطَرِيقَةِ سُورَةِ لُقْمَانَ السَّابِقَةِ. فَهِيَ تَعْرِضُهَا فِي آيَاتِهَا الْأُولَى; ثُمَّ تَمْضِي بَقِيَّتُهَا تُقَدِّمُ مُؤَثِّرَاتٍ مُوقِظَةً لِلْقَلْبِ، مُنِيرَةً لِلرُّوحِ، مُثِيرَةً لِلتَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ; كَمَا تُقَدِّمُ أَدِلَّةً وَبَرَاهِينَ عَلَى تِلْكَ الْقَضِيَّةِ مَعْرُوضَةً فِي صَفْحَةِ الْكَوْنِ وَمَشَاهِدِهِ وَفِي نَشْأَةِ الْإِنْسَانِ وَأَطْوَارِهِ وَفِي مَشَاهِدَ مِنَ الْيَوْمِ الْآخِرِ حَافِلَةً بِالْحَيَاةِ وَالْحَرَكَةِ; وَفِي مَصَارِعِ الْغَابِرِينَ وَآثَارِهِمُ النَّاطِقَةَ بِالْعِبْرَةِ لِمَنْ يَسْمَعُ لَهَا وَيَتَدَبَّرُ مَنْطِقَهَا!
كَذَلِكَ تَرْسُمُ السُّورَةُ صُوَرًا لِلنُّفُوسِ الْمُؤْمِنَةِ فِي خُشُوعِهَا وَتَطَلُّعِهَا إِلَى رَبِّهَا. وَلِلنُّفُوسِ الْجَاحِدَةِ فِي عِنَادِهَا وَلَجَاجِهَا; وَتَعْرِضُ صُوَرًا لِلْجَزَاءِ الَّذِي يَتَلَقَّاهُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَكَأَنَّهَا وَاقِعٌ مَشْهُودٌ حَاضِرٌ لِلْعِيَانِ، يَشْهَدُهُ كُلُّ قَارِئٍ لِهَذَا الْقُرْآنِ.
وَفِي كُلِّ هَذِهِ الْمَعَارِضِ وَالْمَشَاهِدِ تُوَاجِهُ الْقَلْبَ الْبَشَرِيَّ بِمَا يُوقِظُهُ وَيُحَرِّكُهُ وَيَقُودُهُ إِلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ مَرَّةً، وَإِلَى الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ مَرَّةً، وَإِلَى التَّطَلُّعِ وَالرَّجَاءِ مَرَّةً. وَتُطَالِعُهُ تَارَةً بِالتَّحْذِيرِ وَالتَّهْدِيدِ، وَتَارَةً بِالْإِطْمَاعِ، وَتَارَةً بِالْإِقْنَاعِ.. ثُمَّ تَدَعُهُ فِي النِّهَايَةِ تَحْتَ هَذِهِ الْمُؤَثِّرَاتِ وَأَمَامَ تِلْكَ الْبَرَاهِينِ. تَدَعُهُ لِنَفْسِهِ يَخْتَارُ طَرِيقَهُ، وَيَنْتَظِرُ مَصِيرَهُ عَلَى عِلْمٍ وَعَلَى هُدًى وَعَلَى نُورٍ.
وَيَمْضِي سِيَاقُ السُّورَةِ فِي عَرْضِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فِي أَرْبَعَةِ مَقَاطِعَ أَوْ خَمْسَةٍ مُتَلَاحِقَةٍ مُتَّصِلَةٍ: يَبْدَأُ بِالْأَحْرُفِ الْمُقَطَّعَةِ " أَلِفْ. لَامْ. مِيمْ " مُنَبِّهًا بِهَا إِلَى تَنْزِيلِ الْكِتَابِ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْأَحْرُفِ. وَنَفْيِ الرَّيْبِ عَنْ تَنْزِيلِهِ وَالْوَحْيِ بِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=2مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ .. وَيُسْأَلُ سُؤَالَ اسْتِنْكَارٍ عَمَّا إِذَا كَانُوا يَقُولُونَ: افْتَرَاهُ. وَيُؤَكِّدُ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِ لِيُنْذَرَ قَوْمَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=3لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ..
وَهَذِهِ هِيَ الْقَضِيَّةُ الْأُولَى مِنْ قَضَايَا الْعَقِيدَةِ: قَضِيَّةُ الْوَحْيِ وَصِدْقُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّبْلِيغِ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
ثُمَّ يَعْرِضُ قَضِيَّةَ الْأُلُوهِيَّةِ وَصِفَتَهَا فِي صَفْحَةِ الْوُجُودِ: فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَفِي الْهَيْمَنَةِ عَلَى الْكَوْنِ وَتَدْبِيرِ الْأَمْرِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَرَفْعِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ.. ثُمَّ فِي نَشْأَةِ الْإِنْسَانِ وَأَطْوَارِهِ وَمَا وَهَبَهُ اللَّهُ مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْإِدْرَاكِ. وَالنَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ قَلِيلًا مَا يَشْكُرُونَ.
وَهَذِهِ هِيَ الْقَضِيَّةُ الثَّانِيَةُ: قَضِيَّةُ الْأُلُوهِيَّةِ وَصِفَتُهَا: صِفَةُ الْخَلْقِ، وَصِفَةُ التَّدْبِيرِ، وَصِفَةُ الْإِحْسَانِ، وَصِفَةُ الْإِنْعَامِ، وَصِفَةُ الْعِلْمِ. وَصِفَةُ الرَّحْمَةِ. وَكُلُّهَا مَذْكُورَةٌ فِي سِيَاقِ آيَاتِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ.
ثُمَّ يَعْرِضُ قَضِيَّةَ الْبَعْثِ، وَشَكَّهُمْ فِيهِ بَعْدَ تَفَرُّقِ ذَرَّاتِهِمْ فِي التُّرَابِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=10وَقَالُوا: أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا الشَّكِّ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ وَالْيَقِينِ.
وَهَذِهِ هِيَ الْقَضِيَّةُ الثَّالِثَةُ: قَضِيَّةُ الْبَعْثِ وَالْمَصِيرِ.
وَمِنْ ثَمَّ يَعْرِضُ مَشْهَدًا مِنْ مَشَاهِدِ الْقِيَامَةِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=12إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُعْلِنُونَ يَقِينَهُمْ بِالْآخِرَةِ وَيَقِينَهُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَتْهُمْ بِهِ الدَّعْوَةُ. وَيَقُولُونَ الْكَلِمَةَ الَّتِي لَوْ قَالُوهَا فِي الدُّنْيَا لَفَتَحَتْ لَهُمْ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ; وَلَكِنَّهَا فِي مَوْقِفِهِمْ ذَاكَ لَ تَجِدِي شَيْئًا وَلَا تُفِيدُ. لَعَلَّ هَذَا الْمَشْهَدَ أَنْ يُوقِظَهُمْ - قَبْلَ فَوَاتِ الْأَوَانِ - لِقَوْلِ الْكَلِمَةِ الَّتِي سَيَقُولُونَهَا فِي الْمَوْقِفِ الْعَصِيبِ. فَيَقُولُوهَا الْآنَ فِي وَقْتِهَا الْمَطْلُوبِ.
وَإِلَى جِوَارِ هَذَا الْمَشْهَدِ الْبَائِسِ الْمَكْرُوبِ يَعْرِضُ مَشْهَدَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ: إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ.
[ ص: 2804 ] nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=15خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=16تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ .. وَهِيَ صُورَةٌ مُوحِيَةٌ شَفِيفَةٌ تَرِفُّ حَوْلَهَا الْقُلُوبُ. يَعْرِضُ إِلَى جِوَارِهَا مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِهَذِهِ النُّفُوسِ الْخَاشِعَةِ الْخَائِفَةِ الطَّامِعَةِ مِنْ نَعِيمٍ يَعْلُو عَلَى تَصَوُّرِ الْبَشَرِ الْفَانِينَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=17فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .. وَيُعَقِّبُ عَلَيْهِ بِمَشْهَدٍ سَرِيعٍ لِمَصَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْفَاسِقِينَ فِي جَنَّةِ الْمَأْوَى وَفِي نَارِ الْجَحِيمِ. وَبِتَهْدِيدِ الْمُجْرِمِينَ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْضًا قَبْلَ أَنْ يُلَاقُوا مَصِيرَهُمُ الْأَلِيمَ.
ثُمَّ تَرِدُ إِشَارَةٌ إِلَى
مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَوَحْدَةِ رِسَالَتِهِ وَرِسَالَةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُهْتَدِينَ مَنْ قَوْمِهِ، وَصَبْرِهِمْ عَلَى الدَّعْوَةِ، وَجَزَائِهِمْ عَلَى هَذَا الصَّبْرِ بِأَنْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ أَئِمَّةً. وَفِي هَذِهِ الْإِشَارَةِ إِيحَاءٌ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَلْقَاهُ الدُّعَاةُ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ كَيْدٍ وَمِنْ تَكْذِيبٍ.
وَتَعْقُبُ هَذِهِ الْإِشَارَةَ جَوْلَةٌ فِي مَصَارِعِ الْغَابِرِينَ مِنَ الْقُرُونِ، وَهُمْ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ غَافِلِينَ.. ثُمَّ جَوْلَةٌ فِي الْأَرْضِ الْمَيِّتَةِ يَنْزِلُ عَلَيْهَا الْمَاءُ بِالْحَيَاةِ وَالنَّمَاءِ فَيَتَقَابَلُ مَشْهَدُ الْبِلَى وَمَشْهَدُ الْحَيَاةِ فِي سُطُورٍ.
وَتُخْتَمُ السُّورَةُ بِحِكَايَةِ قَوْلِهِمْ:
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=28مَتَى هَذَا الْفَتْحُ؟ وَهُمْ يَتَسَاءَلُونَ فِي شَكٍّ عَنْ يَوْمِ الْفَتْحِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْوَعِيدُ. وَالْجَوَابُ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ وَالتَّهْدِيدِ. وَتَوْجِيهِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُعْرِضَ عَنْهُمْ وَيَدَعَهُمْ لِمَصِيرِهِمُ الْمَحْتُومِ.
وَالْآنَ نَأْخُذُ فِي عَرْضِ السُّورَةِ بِالتَّفْصِيلِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=1الم. nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=2تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=3أَمْ يَقُولُونَ: افْتَرَاهُ؟ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ..
" أَلِفْ. لَامْ. مِيمْ " .. هَذِهِ الْأَحْرُفُ الَّتِي يَعْرِفُهَا
الْعَرَبُ الْمُخَاطَبُونَ بِهَذَا الْكِتَابِ; وَيَعْرِفُونَ مَا يَمْلِكُونَ أَنْ يَصُوغُوا مِنْهَا وَمِنْ نَظَائِرِهَا مِنْ كَلَامٍ، وَيُدْرِكُونَ الْفَارِقَ الْهَائِلَ بَيْنَ مَا يَمْلِكُونَ أَنْ يَصُوغُوهُ مِنْهَا وَبَيْنَ هَذَا الْقُرْآنِ; وَهُوَ فَارِقٌ يُدْرِكُهُ كُلُّ خَبِيرٍ بِالْقَوْلِ، وَكُلُّ مَنْ يُمَارِسُ التَّعْبِيرَ بِاللَّفْظِ عَنِ الْمَعَانِي وَالْأَفْكَارِ. كَمَا يُدْرِكُ أَنَّ فِي النُّصُوصِ الْقُرْآنِيَّةِ قُوَّةً خَفِيَّةً، وَعُنْصُرًا مُسْتَكِنًّا، يَجْعَلُ لَهَا سُلْطَانًا وَإِيقَاعًا فِي الْقَلْبِ وَالْحِسِّ لَيْسَا لِسَائِرِ الْقَوْلِ الْمُؤَلَّفِ مِنْ أَحْرُفِ اللُّغَةِ، مِمَّا يَقُولُهُ الْبَشَرُ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ. وَهِيَ ظَاهِرَةٌ مَلْحُوظَةٌ لَا سَبِيلَ إِلَى الْجِدَالِ فِيهَا، لِأَنَّ السَّامِعَ يُدْرِكُهَا، وَيُمَيِّزُهَا، وَيَهْتَزُّ لَهَا، مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْقَوْلِ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ سَلَفًا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ! وَالتَّجَارِبُ الْكَثِيرَةُ تُؤَكِّدُ هَذِهِ الظَّاهِرَةَ فِي شَتَّى أَوْسَاطِ النَّاسِ.
وَالْفَارِقُ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَمَا يَصُوغُهُ الْبَشَرُ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ مِنْ كَلَامٍ، هُوَ كَالْفَارِقِ بَيْنَ صَنْعَةِ اللَّهِ وَصَنْعَةِ الْبَشَرِ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ. صَنْعَةُ اللَّهِ وَاضِحَةٌ مُمَيَّزَةٌ، لَا تَبْلُغُ إِلَيْهَا صَنْعَةُ الْبَشَرِ فِي أَصْغَرِ الْأَشْيَاءِ. وَإِنَّ تَوْزِيعَ الْأَلْوَانِ فِي زَهْرَةٍ وَاحِدَةٍ لِيَبْدُوَ مُعْجِزَةً لِأَمْهَرِ الرَّسَّامِينَ فِي جَمِيعِ الْعُصُورِ.. وَكَذَلِكَ صُنْعُ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ وَصُنْعُ الْبَشَرِ فِيمَا يَصُوغُونَ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ مِنْ كَلَامٍ!
أَلِفْ. لَامْ. مِيمْ
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=2تَنْزِيلُ الْكِتَابِ - لا رَيْبَ فِيهِ - مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ .. قَضِيَّةٌ مَقْطُوعٌ بِهَا، لَا سَبِيلَ إِلَى الشَّكِّ فِيهَا. قَضِيَّةُ تَنْزِيلِ الْكِتَابِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.. وَيُعَجِّلُ السِّيَاقُ بِنَفْيِ الرَّيْبِ فِي مُنْتَصَفِ الْآيَةِ، بَيْنَ الْمُبْتَدَإِ فِيهَا وَالْخَبَرِ، لَأَنَّ هَذَا هُوَ صُلْبُ الْقَضِيَّةِ، وَالنُّقْطَةُ الْمَقْصُودَةُ فِي النَّصِّ. وَالتَّمْهِيدُ لَهَا بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَحْرُفِ الْمُقَطَّعَةِ يَضَعُ الْمُرْتَابِينَ الشَّاكِّينَ وَجْهًا لِوَجْهٍ أَمَامَ وَاقِعِ الْأَمْرِ، الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَى الْجَدَلِ فِيهِ. فَهَذَا الْكِتَابُ مَصُوغٌ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْأَحْرُفِ الَّتِي يَعْرِفُونَ; وَنَمَطُهُ هُوَ هَذَا النَّمَطُ الْمُعْجِزُ الَّذِي لَا يُمَارُونَ فِي إِعْجَازِهِ،
[ ص: 2805 ] أَمَامَ التَّجْرِبَةِ الْوَاقِعَةِ، وَأَمَامَ مَوَازِينِ الْقَوْلِ الَّتِي يُقِرُّ بِهَا الْجَمِيعُ.
إِنَّ كُلَّ آيَةٍ وَكُلَّ سُورَةٍ تَنْبِضُ بِالْعُنْصُرِ الْمُسْتَكِنِّ الْعَجِيبِ الْمُعْجِزِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ; وَتَشِي بِالْقُوَّةِ الْخَفِيَّةِ الْمُودَعَةِ فِي هَذَا الْكَلَامِ. وَإِنَّ الْكِيَانَ الْإِنْسَانِيَّ لَيَهْتَزُّ وَيَرْتَجِفُ وَيَتَزَايَلُ وَلَا يَمْلِكُ التَّمَاسَكَ أَمَامَ هَذَا الْقُرْآنِ، كُلَّمَا تَفَتَّحَ الْقَلْبُ، وَصَفَا الْحِسُّ، وَارْتَفَعَ الْإِدْرَاكُ، وَارْتَفَعَتْ حَسَاسِيَةُ التَّلَقِّي وَالِاسْتِجَابَةِ. وَإِنَّ هَذِهِ الظَّاهِرَةَ لَتَزْدَادَ وُضُوحًا كُلَّمَا اتَّسَعَتْ ثَقَافَةُ الْإِنْسَانِ، وَمَعْرِفَتُهُ بِهَذَا الْكَوْنِ وَمَا فِيهِ وَمِنْ فِيهِ. فَلَيْسَتْ هِيَ مُجَرَّدُ وَهْلَةٍ تَأْثِيرِيَّةٍ وِجْدَانِيَّةٍ غَامِضَةٍ. فَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ حِينَ يُخَاطِبُ الْقُرْآنُ الْفِطْرَةَ خِطَابًا مُبَاشِرًا. وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ كَذَلِكَ حِينَ يُخَاطِبُ الْقَلْبَ الْمُجَرِّبَ، وَالْعَقْلَ الْمُثَقَّفَ، وَالذِّهْنَ الْحَافِلَ بِالْعِلْمِ وَالْمَعْلُومَاتِ. وَإِنَّ نُصُوصَهُ لَيَتَّسِعُ مَدَى مَدْلُولَاتِهَا وَمَفْهُومَاتِهَا وَإِيقَاعَاتِهَا عَلَى السَّوَاءِ كُلَّمَا ارْتَفَعَتْ دَرَجَةُ الْعِلْمِ وَالثَّقَافَةِ وَالْمَعْرِفَةِ، مَا دَامَتِ الْفِطْرَةُ مُسْتَقِيمَةٌ لَمْ تَنْحَرِفْ وَلَمْ تَطْمِسْ عَلَيْهَا الْأَهْوَاءُ مِمَّا يَجْزِمُ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ صَنْعَةٌ غَيْرُ بَشَرِيَّةٍ عَلَى وَجْهِ الْيَقِينِ، وَأَنَّهُ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=3أَمْ يَقُولُونَ: افْتَرَاهُ؟ ..
وَلَقَدْ قَلُوهَا فِيمَا زَعَمُوهُ مُتَعَنِّتِينَ. وَلَكِنَّ السِّيَاقَ هُنَا يَصُوغُ هَذَا الْقَوْلَ فِي صِيغَةِ الْمُسْتَنْكَرِ لَأَنْ يُقَالُ هَذَا الْقَوْلُ أَصْلًا:
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=3أَمْ يَقُولُونَ: افْتَرَاهُ؟ .. هَذِهِ الْقَوْلَةُ الَّتِي لَا يَنْبَغِي أَنَّ تُقَالَ; فَتَارِيخُ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ يَنْفِي هَذِهِ الْكَلِمَةَ الظَّالِمَةَ مِنْ جِهَةٍ; وَطَبِيعَةُ هَذَا الْكِتَابِ ذَاتِهَا تَنْفِيهِ أَصْلًا، وَلَا تَدْعُ مَجَالًا لِلرَّيْبِ وَالتَّشَكُّكِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=3بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ..
الْحَقُّ.. بِمَا فِي طَبِيعَتِهِ مِنْ صِدْقٍ وَمُطَابَقَةٍ لِمَا فِي الْفِطْرَةِ مِنَ الْحَقِّ الْأَزَلِيِّ وَمَا فِي طَبِيعَةِ الْكَوْنِ كُلِّهِ مِنْ هَذَا الْحَقِّ الثَّابِتِ، الْمُسْتَقِرِّ فِي كِيَانِهِ، الْمَلْحُوظِ فِي تَنَاسُقِهِ وَاطِّرَادِ نِظَامِهِ، وَثَبَاتِ هَذَا النِّظَامِ، وَشُمُولِهِ وَعَدَمِ تَصَادُمِ أَجْزَائِهِ، أَوْ تَنَاثُرِهَا، وَتَعَارُفِ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ وَتَلَاقِيهَا.
الْحَقُّ.. بِتَرْجَمَتِهِ لِنَوَامِيسِ هَذَا الْوُجُودِ الْكَبِيرِ تَرْجَمَةً مُسْتَقِيمَةً; وَكَأَنَّمَا هُوَ الصُّورَةُ اللَّفْظِيَّةُ الْمَعْنَوِيَّةُ لِتِلْكَ النَّوَامِيسِ الطَّبِيعِيَّةِ الْوَاقِعِيَّةِ الْعَامِلَةِ فِي هَذَا الْوُجُودِ.
الْحَقُّ.. بِمَا يُحَقِّقُهُ مِنِ اتِّصَالٍ بَيْنَ الْبَشَرِ الَّذِينَ يَرْتَضُونَ مَنْهَجَهُ وَهَذَا الْكَوْنِ الَّذِي يَعِيشُونَ فِيهِ وَنَوَامِيسِهِ الْكُلِّيَّةِ، وَمَا يَعْقِدُهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُوَى الْكَوْنِ كُلِّهِ مِنْ سَلَامٍ وَتَعَاوُنٍ وَتَفَاهُمٍ وَتَلَاقٍ. حَيْثُ يَجِدُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي صَدَاقَةٍ مَعَ كُلِّ مَا حَوْلَهُمْ مِنْ هَذَا الْكَوْنِ الْكَبِيرِ.
الْحَقُّ.. الَّذِي تَسْتَجِيبُ لَهُ الْفِطْرَةُ حِينَ يَلْمِسُهَا إِيقَاعُهُ، فِي يُسْرٍ وَسُهُولَةٍ، وَفِي غَيْرِ مَشَقَّةٍ وَلَا عَنَتٍ. لَأَنَّهُ يَلْتَقِي بِمَا فِيهَا مِنْ حَقٍّ أَزَلِيٍّ قَدِيمٍ.
الْحَقُّ.. الَّذِي لَا يَتَفَرَّقُ وَلَا يَتَعَارَضُ وَهُوَ يَرْسُمُ مِنْهَاجَ الْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ كَامِلًا; وَيَلْحَظُ فِي هَذَا الْمِنْهَاجِ كُلَّ قُوَاهَا وَكُلَّ طَاقَاتِهَا، وَكُلَّ نَزَعَاتِهَا وَكُلَّ حَاجَاتِهَا، وَكُلَّ مَا يَعْتَوِرُهَا مِنْ مَرَضٍ أَوْ ضَعْفٍ أَوْ نَقْصٍ أَوْ آفَةٍ، تُدْرِكُ النُّفُوسَ وَتُفْسِدُ الْقُلُوبَ.
الْحَقُّ.. الَّذِي لَا يَظْلِمُ أَحَدًا فِي دُنْيَا أَوْ آخِرَةٍ. وَلَا يَظْلِمُ قُوَّةً فِي نَفْسٍ وَلَا طَاقَةٍ. وَلَا يَظْلِمُ فِكْرَةً فِي الْقَلْبِ أَوْ حَرَكَةً فِي الْحَيَاةِ، فَيَكُفُّهَا عَنِ الْوُجُودِ وَالنَّشَاطِ، مَا دَامَتْ مُتَّفِقَةً مَعَ الْحَقِّ الْكَبِيرِ الْأَصِيلِ فِي صُلْبِ الْوُجُودِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=3بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ .. فَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِكَ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ. وَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ كَمَا قَالَ فِي
[ ص: 2806 ] الْآيَةِ السَّابِقَةِ; إِنَّمَا هَذِهِ الْإِضَافَةُ هُنَا لِلتَّكْرِيمِ. تَكْرِيمِ الرَّسُولِ الَّذِي يَتَّهِمُونَهُ بِالِافْتِرَاءِ. وَإِلْقَاءِ ظِلَالِ الْقُرْبَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. رَدًّا عَلَى الِاتِّهَامِ الْأَثِيمِ. وَتَقْرِيرًا لِلصِّلَةِ الْوَثِيقَةِ الَّتِي تَحْمِلُ مَعَ مَعْنَى التَّكْرِيمِ مَعْنَى وَثَاقَةِ الْمَصْدَرِ وَصِحَّةِ التَّلَقِّي. وَأَمَانَةِ النَّقْلِ وَالتَّبْلِيغِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=3لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ، لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ..
وَالْعَرَبُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ
مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ قَبْلَهُ; وَلَا يَعْرِفُ التَّارِيخُ رَسُولًا بَيْنَ
إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَدِّ
الْعَرَبِ الْأَوَّلِ وَبَيْنَ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ نَزَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِ هَذَا الْكِتَابَ الْحَقَّ، لِيُنْذِرَهُمْ بِهِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=3لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ فَهِدَايَتُهُمْ مَرْجُوَّةٌ بِهَذَا الْكِتَابِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي يُخَاطِبُ الْفِطَرَ وَالْقُلُوبَ.
هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ نَزَّلَ اللَّهُ الْكِتَابَ لِيُنْذِرَهُمْ بِهِ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى. فَهُنَا يَبْدَأُ بِبَيَانِ صِفَةِ اللَّهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ بِهَا حَقَّ أُلُوهِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ، وَيُمَيِّزُونَ بِهَا بَيْنَ مَنْ يَسْتَحِقُّ هَذَا الْوَصْفَ الْعَظِيمَ: " اللَّهُ " وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّونَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَنُوا إِلَى مَقَامِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=4اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ. أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ؟ nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=5يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=6ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=7الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ. nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=8ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ. قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ..
ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ، وَهَذِهِ هِيَ آثَارُ أُلُوهِيَّتِهِ وَدَلَائِلُهَا. هَذِهِ هِيَ فِي صَفْحَةِ الْكَوْنِ الْمَنْظُورِ. وَفِي ضَمِيرِ الْغَيْبِ الْمُتَرَامِي وَرَاءَ إِدْرَاكِ الْبَشَرِ الْمَحْدُودِ. وَفِي نَشْأَةِ الْإِنْسَانِ وَأَطْوَارِهِ الَّتِي يَعْرِفُهَا النَّاسُ، وَالَّتِي يُطْلِعُهُمْ عَلَيْهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْحَقِّ الْمُبِينِ.