nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=10nindex.php?page=treesubj&link=32006_32016_28901_28795_31969_31971_31972_31956_29005_33679ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد (10)
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=11أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير (11)
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=12ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير (12)
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=13يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور (13)
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=14فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين (14)
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=15لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور (15)
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=16فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل (16)
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=17ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور (17)
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=18وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين (18)
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=19فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (19)
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=20ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين (20)
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=21وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ (21)
[ ص: 2897 ] يحوي هذا الشوط صورا من الشكر والبطر; وصورا من تسخير الله لمن يشاء من عباده قوى وخلقا لا تسخر عادة للبشر. ولكن قدرة الله ومشيئته لا يقيدهما مألوف البشر. وتتكشف من خلال هذه الصور وتلك حقائق عن الشياطين الذين كان يعبدهم بعض المشركين، أو يطلبون عندهم علم الغيب وهم عن الغيب محجوبون. وعن أسباب الغواية التي يتسلط بها الشيطان على الإنسان، وما له عليه من سلطان إلا ما يعطيه من نفسه باختياره. وعن تدبير الله في كشف ما هو مكنون من عمل الناس وبروزه في صرة واقعة لينالوا عليه الجزاء في الآخرة. وبذكر الآخرة ينتهي هذا الشوط كما انتهى الشوط الأول في السورة..
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=10ولقد آتينا داود منا فضلا. يا جبال أوبي معه والطير. وألنا له الحديد nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=11أن اعمل سابغات، وقدر في السرد، واعملوا صالحا. إني بما تعملون بصير ..
وداود عبد منيب، كالذي ختم بذكره الشوط الأول:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=9إن في ذلك لآية لكل عبد منيب .. والسياق يعقب بقصته بعد تلك الإشارة; ويقدم لها بذكر ما آتاه الله له من الفضل. ثم يبين هذا الفضل:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=10يا جبال أوبي معه والطير ..
وتذكر الروايات أن
داود عليه السلام أوتي صوتا جميلا خارقا في الجمال; كان يرتل به مزاميره، وهي تسابيح دينية، ورد منها في كتاب " العهد القديم " ما الله أعلم بصحته. وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع صوت
nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - يقرأ من الليل فوقف فاستمع لقراءته. ثم قال - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=667272لقد أوتي هذا مزمارا من زمامير آل داود " .
والآية تصور من فضل الله على
داود - عليه السلام - أنه قد بلغ من الشفافية والتجرد في تسابيحه أن انزاحت الحجب بينه وبين الكائنات; فاتصلت حقيقتها بحقيقته، في تسبيح بارئها وبارئه; ورجعت معه الجبال والطير؛ إذ لم يعد بين وجوده ووجودها فاصل ولا حاجز حين اتصلت كلها بالله صلة واحدة مباشرة; تنزاح معها الفوارق بين نوع من خلق الله ونوع، وبين كائن من خلق الله وكائن; وترتد كلها إلى حقيقتها اللدنية الواحدة، التي كانت تغشى عليها الفواصل والفوارق; فإذا هي تتجاوب في تسبيحها للخالق، وتتلاقى في نعمة واحدة، وهي درجة من الإشراق والصفاء والتجرد لا يبلغها أحد إلا بفضل من الله، يزيح عنه حجاب كيانه المادي، ويرده إلى كينونته اللدنية التي يلتقي فيها بهذا الوجود، وكل ما فيه وكل من فيه بلا حواجز ولا سدود.
وحين انطلق صوت
داود - عليه السلام - يرتل مزاميره ويمجد خالقه، رجعت معه الجبال والطير، وتجاوب الكون بتلك الترانيم السارية في كيانه الواحد، المتجهة إلى بارئه الواحد.. وإنها للحظات عجيبة لا يتذوقها إلا من عنده بها خبر، ومن جرب نوعها ولو في لحظة من حياته!
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=10وألنا له الحديد .
وهو طرف آخر من فضل الله عليه. وفي ظل هذا السياق يبدو أن الأمر كان خارقة ليست من مألوف البشر. فلم يكن الأمر أمر تسخين الحديد حتى يلين ويصبح قابلا للطرق، إنما كان - والله أعلم - معجزة يلين بها الحديد من غير وسيلة اللين المعهودة. وإن كان مجرد الهداية لإلانة الحديد بالتسخين يعد فضلا من الله يذكر. ولكننا إنما نتأثر جو السياق وظلاله وهو جو معجزات، وهي ظلال خوارق خارجة على المألوف.
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=11أن اعمل سابغات وقدر في السرد .
[ ص: 2898 ] والسابغات الدروع. روي أنها كانت تعمل قبل
داود - عليه السلام - صفائح. الدرع صفيحة واحدة، فكانت تصلب الجسم وتثقله. فألهم الله
داود أن يصنعها رقائق متداخلة متموجة لينة يسهل تشكيلها وتحريكها بحركة الجسم; وأمر بتضييق تداخل هذه الرقائق لتكون محكمة لا تنفذ منها الرماح. وهو التقدير في السرد. وكان الأمر كله إلهاما وتعليما من الله.
وخوطب داود وأهله:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=11واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير ..
لا في الدروع وحدها بل في كل ما تعملون مراقبين الله الذي يبصر ما تعملون ويجازي عليه، فلا يفلت منه شيء، والله به بصير..
ذلك ما آتاه الله
داود - عليه السلام - فأما
سليمان فقد آتاه الله أفضالا أخرى:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=12ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر، وأسلنا له عين القطر، ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه. ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير. nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=13يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب. وقدور راسيات. اعملوا آل داود شكرا. وقليل من عبادي الشكور .
وتسخير الريح
لسليمان تتكاثر حوله الروايات، وتبدو ظلال الإسرائيليات واضحة ف تلك الروايات - وإن تكن كتب اليهود الأصلية لم تذكر شيئا عنها - والتحرج من الخوض في تلك الروايات أولى. والاكتفاء بالنص القرآني أسلم مع الوقوف به عند ظاهر اللفظ لا نتعداه. ومنه يستفاد أن الله سخر الريح لسليمان، وجعل غدوها أي: توجهها غادية إلى بقعة معينة (ذكر في سورة الأنبياء أنها
الأرض المقدسة) يستغرق شهرا، ورواحها أي: انعكاس اتجاهها في الرواح يستغرق شهرا كذلك. وفق مصلحة تحصل من غدوها ورواحها، يدركها سليمان - عليه السلام - ويحققها بأمر الله.. ولا نملك أن نزيد هذا إيضاحا حتى لا ندخل في أساطير لا ضابط لها ولا تحقيق.
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=12وأسلنا له عين القطر ..
والقطر النحاس. وسياق الآيات يشير إلى أن هذا كان معجزة خارقة كإلانة الحديد
لداود. وقد يكون ذلك بأن فجر الله له عينا بركانية من النحاس المذاب من الأرض. أو بأن ألهمه الله إذابة النحاس حتى يسيل ويصبح قابلا للصب والطرق. وهو فضل من الله كبير.
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=12ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ..
وكذلك سخر له طائفة من الجن يعملون بأمره بإذن ربه. والجن كل مستور لا يراه البشر. وهناك خلق سماهم الله الجن ولا نعرف نحن من أمرهم شيئا إلا ما ذكره الله عنهم. وهو يذكر هنا أن الله سخر طائفة منهم لنبيه
سليمان - عليه السلام - فمن عصى منهم ناله عذاب الله:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=12ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير ..
ولعل هذا التعقيب - قبل الانتهاء من قصة التسخير - يذكر على هذا النحو لبيان خضوع الجن لله. وكان بعض المشركين يعبدهم من دون الله. وهم مثلهم معرضون للعقاب عند ما يزيغون عن أمر الله.
وهم مسخرون لسليمان - عليه السلام - :
[ ص: 2899 ] nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=13يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات ..
والمحاريب من أماكن العبادة، والتماثيل الصور من نحاس وخشب وغيره. والجوابي جمع جابية وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء. وقد كانت الجن تصنع
لسليمان جفانا كبيرة للطعام تشبه الجوابي، وتصنع له قدورا ضخمة للطبخ راسية لضخامتها.. وهذه كلها نماذج مما سخر الله الجن
لسليمان لتقوم له به حيث شاء بإذن الله. وكلها أمور خارقة لا سبيل إلى تصورها أو تعليلها إلا بأنها خارقة من صنع الله. وهذا هو تفسيرها الواضح الوحيد.
ويختم هذا بتوجيه الخطاب إلى آل داود:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=13اعملوا آل داود شكرا ..
سخرنا لكم هذا وذلك في شخص
داود وشخص
سليمان - عليهما السلام - فاعملوا يا آل
داود شكرا لله. لا للتباهي والتعالي بما سخره الله. والعمل الصالح شكر لله كبير.
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=13وقليل من عبادي الشكور ..
تعقيب تقريري وتوجيهي من تعقيبات القرآن على القصص. يكشف من جانب عن عظمة فضل الله ونعمته حتى لا يقل القادرون على شكرها. ويكشف من جانب آخر عن تقصير البشر في شكر نعمة الله وفضله. وهم مهما بالغا في الشكر قاصرون عن الوفاء. فكيف إذا قصروا وغفلوا عن الشكر من الأساس؟!
وماذا يملك المخلوق الإنساني المحدود الطاقة من الشكر على آلاء الله وهي غير محدودة؟ .. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.. وهذه النعم تغمر الإنسان من فوقه ومن تحت قدميه، وعن أيمانه وعن شمائله، وتكمن فيه هو ذاته وتفيض منه. وهو ذاته إحدى هذه الآلاء الضخام!
كنا نجلس جماعة نتحدث وتتجاوب أفكارنا وتتجاذب، وتنطلق ألسنتنا بكل ما يخطر لنا على بال. ذلك حينما جاء قطنا الصغير " سوسو " يدور هنا وهناك من حولنا يبحث عن شيء; وكأنما يريد أن يطلب إلينا شيئا، ولكنه لا يملك أن يقول; ولا نملك نحن أن ندرك. حتى ألهمنا الله أنه يطلب الماء، وكان هذا، وكان في شدة العطش، وهو لا يملك أن يقول ولا أن يشير.. وأدركنا في هذه اللحظة شيئا من نعمة الله علينا بالنطق واللسان، والإدراك والتدبير. وفاضت نفوسنا بالشكر لحظة.. وأين الشكر من ذلك الفيض الجزيل.
وكنا فترة طويلة محرومين من رؤية الشمس. وكان شعاع منها لا يتجاوز حجمه حجم القرش ينفذ إلينا أحيانا. وإن أحدنا ليقف أمام هذا الشعاع يمرره على وجهه ويديه وصدره وظهره وبطنه وقدميه ما استطاع. ثم يخلي مكانه لأخيه ينال من هذه النعمة ما نال! ولست أنسى أول يوم بعد ذلك وجدنا فيه الشمس. لست أنسى الفرحة الغامرة والنشوة الظاهرة على وجه أحدنا، وفي جوارحه كلها، وهو يقول في نغمة عميقة مديدة.. الله! هذه هي الشمس. شمس ربنا وما تزال تطلع.. الحمد لله!
فكم نبعثر في كل يوم من هذه الأشعة المحيية، ونحن نستحم في الضوء والدفء. ونسبح ونغرق في نعمة الله؟ وكم نشكر هذا الفيض الغامر المتاح المباح من غير ثمن ولا كدولا معاناة؟!
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=10nindex.php?page=treesubj&link=32006_32016_28901_28795_31969_31971_31972_31956_29005_33679وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=11أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=12وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمِنَ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مَنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=13يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=14فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=15لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=16فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=17ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ (17)
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=18وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=19فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=20وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=21وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مِنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
[ ص: 2897 ] يَحْوِي هَذَا الشَّوْطَ صُوَرًا مِنَ الشُّكْرِ وَالْبَطَرِ; وَصُوَرًا مِنْ تَسْخِيرِ اللَّهِ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ قَوًى وَخَلْقًا لَا تُسَخَّرُ عَادَةً لِلْبَشَرِ. وَلَكِنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ وَمَشِيئَتَهُ لَا يُقَيِّدُهُمَا مَأْلُوفُ الْبَشَرِ. وَتَتَكَشَّفُ مِنْ خِلَالِ هَذِهِ الصُّوَرِ وَتِلْكَ حَقَائِقُ عَنِ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ كَانَ يَعْبُدُهُمْ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ يَطْلُبُونَ عِنْدَهُمْ عَلِمَ الْغَيْبَ وَهُمْ عَنِ الْغَيْبِ مَحْجُوبُونَ. وَعَنْ أَسْبَابِ الْغَوَايَةِ الَّتِي يَتَسَلَّطُ بِهَا الشَّيْطَانُ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَمَا لَهُ عَلَيْهِ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا مَا يُعْطِيهِ مِنْ نَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ. وَعَنْ تَدْبِيرِ اللَّهِ فِي كَشْفِ مَا هُوَ مَكْنُونٌ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ وَبُرُوزِهِ فِي صُرَةٍ وَاقِعَةٍ لِيَنَالُوا عَلَيْهِ الْجَزَاءَ فِي الْآخِرَةِ. وَبِذِكْرِ الْآخِرَةِ يَنْتَهِي هَذَا الشَّوْطُ كَمَا انْتَهَى الشَّوْطُ الْأَوَّلُ فِي السُّورَةِ..
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=10وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا. يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ. وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=11أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ، وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ، وَاعْمَلُوا صَالِحًا. إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ..
وَدَاوُدُ عَبْدٌ مُنِيبٌ، كَالَّذِي خُتِمَ بِذِكْرِهِ الشَّوْطُ الْأَوَّلُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=9إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ .. وَالسِّيَاقُ يُعَقِّبُ بِقِصَّتِهِ بَعْدَ تِلْكَ الْإِشَارَةِ; وَيُقَدِّمُ لَهَا بِذِكْرِ مَا آتَاهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْفَضْلِ. ثُمَّ يُبَيِّنُ هَذَا الْفَضْلَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=10يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ..
وَتَذْكُرُ الرِّوَايَاتُ أَنَّ
دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُوتِيَ صَوْتًا جَمِيلًا خَارِقًا فِي الْجَمَالِ; كَانَ يُرَتِّلُ بِهِ مَزَامِيرَهُ، وَهِيَ تَسَابِيحُ دِينِيَّةٌ، وَرَدَ مِنْهَا فِي كِتَابِ " الْعَهْدِ الْقَدِيمِ " مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ صَوْتَ
nindex.php?page=showalam&ids=110أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ فَوَقَفَ فَاسْتَمَعَ لِقِرَاءَتِهِ. ثُمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=667272لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ زَمَامِيرِ آلِ دَاوُدَ " .
وَالْآيَةُ تُصَوِّرُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَى
دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ مِنَ الشَّفَافِيَةِ وَالتَّجَرُّدِ فِي تَسَابِيحِهِ أَنِ انْزَاحَتِ الْحُجُبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَائِنَاتِ; فَاتَّصَلَتْ حَقِيقَتُهَا بِحَقِيقَتِهِ، فِي تَسْبِيحِ بَارِئِهَا وَبَارِئِهِ; وَرَجَّعَتْ مَعَهُ الْجِبَالُ وَالطَّيْرُ؛ إِذْ لَمْ يَعُدْ بَيْنَ وُجُودِهِ وَوُجُودِهَا فَاصِلٌ وَلَا حَاجِزٌ حِينَ اتَّصَلَتْ كُلُّهَا بِاللَّهِ صِلَةً وَاحِدَةً مُبَاشِرَةً; تَنْزَاحُ مَعَهَا الْفَوَارِقُ بَيْنَ نَوْعٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَنَوْعٍ، وَبَيْنَ كَائِنٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَكَائِنٍ; وَتَرْتَدُّ كُلُّهَا إِلَى حَقِيقَتِهَا اللَّدُنِّيَّةِ الْوَاحِدَةِ، الَّتِي كَانَتْ تَغْشَى عَلَيْهَا الْفَوَاصِلُ وَالْفَوَارِقُ; فَإِذَا هِيَ تَتَجَاوَبُ فِي تَسْبِيحِهَا لِلْخَالِقِ، وَتَتَلَاقَى فِي نِعْمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ دَرَجَةٌ مِنَ الْإِشْرَاقِ وَالصَّفَاءِ وَالتَّجَرُّدِ لَا يَبْلُغُهَا أَحَدٌ إِلَّا بِفَضْلٍ مِنَ اللَّهِ، يُزِيحُ عَنْهُ حِجَابَ كِيَانِهِ الْمَادِّيِّ، وَيَرُدُّهُ إِلَى كَيْنُونَتِهِ اللَّدُنِّيَّةِ الَّتِي يَلْتَقِي فِيهَا بِهَذَا الْوُجُودِ، وَكُلُّ مَا فِيهِ وَكُلُّ مَنْ فِيهِ بِلَا حَوَاجِزَ وَلَا سُدُودٍ.
وَحِينَ انْطَلَقَ صَوْتُ
دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُرَتِّلُ مَزَامِيرَهُ وَيُمَجِّدُ خَالِقَهُ، رَجَّعَتْ مَعَهُ الْجِبَالُ وَالطَّيْرُ، وَتُجَاوَبُ الْكَوْنُ بِتِلْكَ التَّرَانِيمِ السَّارِيَةِ فِي كِيَانِهِ الْوَاحِدِ، الْمُتَّجِهَةِ إِلَى بَارِئِهِ الْوَاحِدِ.. وَإِنَّهَا لَلَحَظَاتٌ عَجِيبَةٌ لَا يَتَذَوَّقُهَا إِلَّا مَنْ عِنْدَهُ بِهَا خَبَرٌ، وَمَنْ جَرَّبَ نَوْعَهَا وَلَوْ فِي لَحْظَةٍ مِنْ حَيَاتِهِ!
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=10وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ .
وَهُوَ طَرَفٌ آخَرُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَفِي ظِلِّ هَذَا السِّيَاقِ يَبْدُو أَنَّ الْأَمْرَ كَانَ خَارِقَةً لَيْسَتْ مِنْ مَأْلُوفِ الْبَشَرِ. فَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ أَمْرَ تَسْخِينِ الْحَدِيدِ حَتَّى يَلِينَ وَيُصْبِحُ قَابِلًا لِلطَّرْقِ، إِنَّمَا كَانَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مُعْجِزَةً يَلِينُ بِهَا الْحَدِيدُ مِنْ غَيْرِ وَسِيلَةِ اللِّينِ الْمَعْهُودَةِ. وَإِنْ كَانَ مُجَرَّدَ الْهِدَايَةِ لِإِلَانَةِ الْحَدِيدِ بِالتَّسْخِينِ يُعَدُّ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ يُذْكَرُ. وَلَكِنَّنَا إِنَّمَا نَتَأَثَّرُ جَوَّ السِّيَاقِ وَظِلَالَهُ وَهُوَ جَوُّ مُعْجِزَاتٍ، وَهِيَ ظِلَالٌ خَوَارِقُ خَارِجَةٌ عَلَى الْمَأْلُوفِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=11أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ .
[ ص: 2898 ] وَالسَّابِغَاتُ الدُّرُوعُ. رُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ تَعْمَلُ قَبْلَ
دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَفَائِحُ. الدِّرْعُ صَفِيحَةٌ وَاحِدَةٌ، فَكَانَتْ تُصَلِّبُ الْجِسْمَ وَتُثْقِلُهُ. فَأَلْهَمَ اللَّهُ
دَاوُدَ أَنْ يَصْنَعَهَا رَقَائِقَ مُتَدَاخِلَةً مُتَمَوِّجَةً لَيِّنَةً يَسْهُلُ تَشْكِيلُهَا وَتَحْرِيكُهَا بِحَرَكَةِ الْجِسْمِ; وَأَمَرَ بِتَضْيِيقِ تَدَاخُلِ هَذِهِ الرَّقَائِقِ لِتَكُونَ مُحْكَمَةً لَا تَنْفُذُ مِنْهَا الرِّمَاحُ. وَهُوَ التَّقْدِيرُ فِي السَّرْدِ. وَكَانَ الْأَمْرُ كُلُّهُ إِلْهَامًا وَتَعْلِيمًا مِنَ اللَّهِ.
وَخُوطِبَ دَاوُدُ وَأَهْلُهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=11وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ..
لَا فِي الدُّرُوعِ وَحْدَهَا بَلْ فِي كُلِّ مَا تَعْمَلُونَ مُرَاقَبِينَ اللَّهَ الَّذِي يُبْصِرُ مَا تَعْمَلُونَ وَيُجَازِي عَلَيْهِ، فَلَا يُفْلِتُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَاللَّهُ بِهِ بَصِيرٌ..
ذَلِكَ مَا آتَاهُ اللَّهُ
دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَأَمَّا
سُلَيْمَانُ فَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ أَفْضَالًا أُخْرَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=12وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ، وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ، وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ. وَمِنَ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مَنْ عَذَابِ السَّعِيرِ. nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=13يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ. وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ. اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا. وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ .
وَتَسْخِيرُ الرِّيحِ
لِسُلَيْمَانَ تَتَكَاثَرُ حَوْلَهُ الرِّوَايَاتُ، وَتَبْدُو ظِلَالُ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَاضِحَةٌ فِ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ - وَإِنْ تَكُنْ كُتُبُ الْيَهُودِ الْأَصْلِيَّةُ لَمْ تَذْكُرْ شَيْئًا عَنْهَا - وَالتَّحَرُّجُ مِنَ الْخَوْضِ فِي تِلْكَ الرِّوَايَاتِ أَوْلَى. وَالِاكْتِفَاءُ بِالنَّصِّ الْقُرْآنِيِّ أَسْلَمُ مَعَ الْوُقُوفِ بِهِ عِنْدَ ظَاهِرِ اللَّفْظِ لَا نَتَعَدَّاهُ. وَمِنْهُ يُسْتَفَادُ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ الرِّيحَ لِسُلَيْمَانَ، وَجَعَلَ غُدُوَّهَا أَيْ: تَوَجُّهَهَا غَادِيَةً إِلَى بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ (ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهَا
الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ) يَسْتَغْرِقُ شَهْرًا، وَرَوَاحُهَا أَيِ: انْعِكَاسُ اتِّجَاهِهَا فِي الرَّوَاحِ يَسْتَغْرِقُ شَهْرًا كَذَلِكَ. وَفْقَ مَصْلَحَةٍ تَحْصُلُ مِنْ غُدُوِّهَا وَرَوَاحِهَا، يُدْرِكُهَا سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَيُحَقِّقُهَا بِأَمْرِ اللَّهِ.. وَلَا نَمْلِكُ أَنَّ نَزِيدَ هَذَا إِيضَاحًا حَتَّى لَا نَدْخُلَ فِي أَسَاطِيرَ لَا ضَابِطَ لَهَا وَلَا تَحْقِيقَ.
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=12وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ..
وَالْقِطْرُ النُّحَاسُ. وَسِيَاقُ الْآيَاتِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ هَذَا كَانَ مُعْجِزَةً خَارِقَةً كَإِلَانَةِ الْحَدِيدِ
لِدَاوُدَ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِأَنْ فَجَّرَ اللَّهُ لَهُ عَيْنًا بُرْكَانِيَّةً مِنَ النُّحَاسِ الْمُذَابِ مِنَ الْأَرْضِ. أَوْ بِأَنْ أَلْهَمَهُ اللَّهُ إِذَابَةَ النُّحَاسِ حَتَّى يَسِيلَ وَيُصْبِحُ قَابِلًا لِلصَّبِّ وَالطَّرْقِ. وَهُوَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ كَبِيرٌ.
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=12وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ..
وَكَذَلِكَ سَخَّرَ لَهُ طَائِفَةً مِنَ الْجِنِّ يَعْمَلُونَ بِأَمْرِهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ. وَالْجِنُّ كُلُّ مَسْتُورٍ لَا يَرَاهُ الْبَشَرُ. وَهُنَاكَ خَلْقٌ سَمَّاهُمُ اللَّهُ الْجِنَّ وَلَا نَعْرِفُ نَحْنُ مَنْ أَمْرِهِمْ شَيْئًا إِلَّا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَهُوَ يَذْكُرُ هُنَا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ طَائِفَةً مِنْهُمْ لِنَبِيِّهِ
سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَمَنْ عَصَى مِنْهُمْ نَالَهُ عَذَابُ اللَّهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=12وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ..
وَلَعَلَّ هَذَا التَّعْقِيبَ - قَبْلَ الِانْتِهَاءِ مِنْ قِصَّةِ التَّسْخِيرِ - يُذْكَرُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ لِبَيَانِ خُضُوعِ الْجِنِّ لِلَّهِ. وَكَانَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ يَعْبُدُهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَهُمْ مِثْلُهُمْ مُعَرَّضُونَ لِلْعِقَابِ عِنْدَ مَا يَزِيغُونَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ.
وَهُمْ مُسَخَّرُونَ لِسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - :
[ ص: 2899 ] nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=13يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ..
وَالْمَحَارِيبُ مِنْ أَمَاكِنِ الْعِبَادَةِ، وَالتَّمَاثِيلُ الصُّوَرُ مِنْ نُحَاسٍ وَخَشَبٍ وَغَيْرِهِ. وَالْجَوَابِيُّ جَمْعُ جَابِيَةٍ وَهِيَ الْحَوْضُ الَّذِي يُجْبَى فِيهِ الْمَاءُ. وَقَدْ كَانَتِ الْجِنُّ تَصْنَعُ
لِسُلَيْمَانَ جِفَانًا كَبِيرَةً لِلطَّعَامِ تُشْبِهُ الْجَوَابِي، وَتَصْنَعُ لَهُ قُدُورًا ضَخْمَةً لِلطَّبْخِ رَاسِيَةً لِضَخَامَتِهَا.. وَهَذِهِ كُلُّهَا نَمَاذِجُ مِمَّا سَخَّرَ اللَّهُ الْجِنَّ
لِسُلَيْمَانَ لِتَقُومَ لَهُ بِهِ حَيْثُ شَاءَ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَكُلُّهَا أُمُورٌ خَارِقَةٌ لَا سَبِيلَ إِلَى تَصَوُّرِهَا أَوْ تَعْلِيلِهَا إِلَّا بِأَنَّهَا خَارِقَةٌ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ. وَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُهَا الْوَاضِحُ الْوَحِيدُ.
وَيَخْتِمُ هَذَا بِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى آلِ دَاوُدَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=13اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا ..
سَخَّرْنَا لَكُمْ هَذَا وَذَلِكَ فِي شَخْصِ
دَاوُدَ وَشَخْصِ
سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فَاعْمَلُوا يَا آلَ
دَاوُدَ شُكْرًا لِلَّهِ. لَا لِلتَّبَاهِي وَالتَّعَالِي بِمَا سَخَّرَهُ اللَّهُ. وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ شُكْرٌ لِلَّهِ كَبِيرٌ.
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=13وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ..
تَعْقِيبٌ تَقْرِيرِيٌّ وَتَوْجِيهِيٌّ مِنْ تَعْقِيبَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى الْقِصَصِ. يَكْشِفُ مِنْ جَانِبٍ عَنْ عَظَمَةِ فَضْلِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ حَتَّى لَا يَقِلَّ الْقَادِرُونَ عَلَى شُكْرِهَا. وَيَكْشِفُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ عَنْ تَقْصِيرِ الْبَشَرِ فِي شُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ. وَهُمْ مَهْمَا بَالَغَا فِي الشُّكْرِ قَاصِرُونَ عَنِ الْوَفَاءِ. فَكَيْفَ إِذَا قَصَّرُوا وَغَفَلُوا عَنِ الشُّكْرِ مِنَ الْأَسَاسِ؟!
وَمَاذَا يَمْلِكُ الْمَخْلُوقُ الْإِنْسَانِيُّ الْمَحْدُودُ الطَّاقَةِ مِنَ الشُّكْرِ عَلَى آلَاءِ اللَّهِ وَهِيَ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ؟ .. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا.. وَهَذِهِ النِّعَمُ تَغْمُرُ الْإِنْسَانَ مِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ، وَعَنْ أَيْمَانِهِ وَعَنْ شَمَائِلِهِ، وَتَكْمُنُ فِيهِ هُوَ ذَاتُهُ وَتَفِيضُ مِنْهُ. وَهُوَ ذَاتُهُ إِحْدَى هَذِهِ الْآلَاءِ الضِّخَامِ!
كُنَّا نَجْلِسُ جَمَاعَةً نَتَحَدَّثُ وَتَتَجَاوَبُ أَفْكَارَنَا وَتَتَجَاذَبُ، وَتَنْطَلِقُ أَلْسِنَتُنَا بِكُلِّ مَا يَخْطُرُ لَنَا عَلَى بَالٍ. ذَلِكَ حِينَمَا جَاءَ قِطُّنَا الصَّغِيرُ " سُوسُو " يَدُورُ هُنَا وَهُنَاكَ مِنْ حَوْلِنَا يَبْحَثُ عَنْ شَيْءٍ; وَكَأَنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَطْلُبَ إِلَيْنَا شَيْئًا، وَلَكِنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَقُولَ; وَلَا نَمْلِكُ نَحْنُ أَنْ نُدْرِكَ. حَتَّى أَلْهَمَنَا اللَّهُ أَنَّهُ يَطْلُبُ الْمَاءَ، وَكَانَ هَذَا، وَكَانَ فِي شِدَّةِ الْعَطَشِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَقُولَ وَلَا أَنْ يُشِيرَ.. وَأَدْرَكْنَا فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ شَيْئًا مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا بِالنُّطْقِ وَاللِّسَانِ، وَالْإِدْرَاكِ وَالتَّدْبِيرِ. وَفَاضَتْ نُفُوسُنَا بِالشُّكْرِ لَحْظَةً.. وَأَيْنَ الشُّكْرُ مِنْ ذَلِكَ الْفَيْضِ الْجَزِيلِ.
وَكُنَّا فَتْرَةً طَوِيلَةً مَحْرُومِينَ مِنْ رُؤْيَةِ الشَّمْسِ. وَكَانَ شُعَاعٌ مِنْهَا لَا يَتَجَاوَزُ حَجْمُهُ حَجْمَ الْقِرْشِ يَنْفُذُ إِلَيْنَا أَحْيَانًا. وَإِنَّ أَحَدَنَا لِيَقِفُ أَمَامَ هَذَا الشُّعَاعِ يُمَرِّرُهُ عَلَى وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ وَصَدْرِهِ وَظَهْرِهِ وَبَطْنِهِ وَقَدَمَيْهِ مَا اسْتَطَاعَ. ثُمَّ يُخْلِي مَكَانَهُ لِأَخِيهِ يَنَالُ مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ مَا نَالَ! وَلَسْتُ أَنْسَى أَوَّلَ يَوْمٍ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَدْنَا فِيهِ الشَّمْسَ. لَسْتُ أَنْسَى الْفَرْحَةَ الْغَامِرَةَ وَالنَّشْوَةَ الظَّاهِرَةَ عَلَى وَجْهِ أَحَدِنَا، وَفِي جَوَارِحِهِ كُلِّهَا، وَهُوَ يَقُولُ فِي نَغْمَةٍ عَمِيقَةٍ مَدِيدَةٍ.. اللَّهُ! هَذِهِ هِيَ الشَّمْسُ. شَمْسُ رَبِّنَا وَمَا تَزَالُ تَطْلُعُ.. الْحَمْدُ لِلَّهِ!
فَكَمْ نُبَعْثِرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشِعَّةِ الْمَحْيِيَةِ، وَنَحْنُ نَسْتَحِمُّ فِي الضَّوْءِ وَالدِّفْءِ. وَنُسَبِّحُ وَنَغْرَقُ فِي نِعْمَةِ اللَّهِ؟ وَكَمْ نَشْكُرُ هَذَا الْفَيْضَ الْغَامِرَ الْمُتَاحَ الْمُبَاحَ مِنْ غَيْرِ ثَمَنٍ وَلَا كَدٍّوَلَا مُعَانَاةٍ؟!