ولما أخبر عن لمزهم في الصدقات وقرر ما هو خير لهم إرشادا إلى النجاة، علل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وبين أنه لا يفعل غيره لأنه الحق الذي لا يجوز في شرعه الأكمل غيره لمزوا أو تركوا زهدوا أو رغبوا فقال معبرا بأداة القصر على ما ذكر: إنما الصدقات أي: هذا الجنس بجميع ما صدق من أفراده، والظاهر أنه قدم الأهم فالأهم، فلذا قال : إن الفقير أشدهم حاجة لكونه ابتدأ به، فقال: الشافعي للفقراء أي: الذين لا شيء لهم أو لهم شيء يقع موقعا من كفايتهم والمساكين أي: الذين لا كفاية لهم بدليل: أما السفينة وأما مسكينا ذا متربة [ ص: 505 ] فتقييده دل على أن المطلق بخلافه والعاملين عليها أي: المؤتمنين في السعاية والولاية على جمعها والمؤلفة قلوبهم أي: ليسلموا أو يسلم بسببهم غيرهم أو يثبتوا على إسلامهم; روى في التفسير وغيره عن البخاري رضي الله عنه قال: أبي سعيد وفي رواية: "بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فقسمه بين أربعة وقال: أتألفهم، فقال رجل: ما عدلت! فقال: يخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين. الحديث. فاستأذنه رجل في ضرب عنقه فقال: لا، دعه؛ فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم. ولئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" ولا يقال: إن العلة مقتضية لقتلهم لا للكف عنهم فإن عمله بالمقام الخضري - كما تقدم - أنه ما من كرامة لنبي إلا وله صلى الله عليه وسلم مثلها أو أعلى منها بنفسه أو بأحد من أمته.
ولما فرغ من هذه الأصناف الأربعة الذين يعطون الصدقة في أيديهم يتصرفون فيها كيف شاؤوا، كما دل عليه التعبير باللام، ذكر الذين يعطون الصدقة لقضاء ما بهم كما دل عليه التعبير ب: "في" [ ص: 506 ] فقال: وفي الرقاب أي: والمكاتبين بسبب فك رقابهم من الرق والغارمين أي: الذين استدانوا في غير معصية، يصرف ما يعطونه إلى قضاء ديونهم فقط وفي أي: والمجاهدين في سبيل الله أي: الذي له الأمر كله بالنفقة والحمل والإعانة بالسلاح وغير ذلك، ونقل عن بعض الفقهاء أنه عمم السبيل فأجاز صرفه إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وعمارة المساجد ونحوها القفال وابن السبيل وهو المسافر المنقطع عن بلده، يعطى ما يوصله إليه، ففيه إشارة إلى أن رسولنا صلى الله عليه وسلم لم يفعل ما أدى إلى لمزهم له بسببه إلا بأمر حقا، فإنا قد عينا له أهل الصدقات فهو لا يعدل عنهم لشيء من الأشياء لأنه واقف عند ما يرضينا، فإن كانوا منهم أعطاهم وإلا منعهم رضي من رضي وسخط من سخط، وقد فرض ذلك، أو ثابتة للفقراء حال كونها فريضة كائنة من الله أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلما لعلمه بأن في ذلك أعظم صلاح، وهذا كالزجر عن مخالفة الظاهر والله أي: الذي له جميع صفات الكمال عليم أي: بالغ العلم بما يصلح الدين والدنيا ويؤلف بين قلوب المؤمنين حكيم أي: فهو [ ص: 507 ] يجعل أفعاله من الإحكام بحيث لا يقدر غيره على نقضها; قال أبو حيان : "إنما" إن كانت وضعت للحصر فالحصر مستفاد من لفظها، وإن كانت لم توضع للحصر فالحصر مستفاد من الأوصاف؛ إذ مناط الحكم بالوصف يقتضي التعليل به، والتعليل بالشيء يقتضي الاقتصار عليه.
وحكمة الزكاة من جهة المالك أن المال محبوب؛ لأنه يحصل المحبوب، والتمادي في حبه يوجب الإعراض عن الله المعطي له، فكان من الحكمة تذكير المالك له بالمالك الحقيقي في أنه أوجب عليه إخراج طائفة منه ليكف منه انصباب النفس بالكلية إليه ويطهر النفس عن محبتها له ويطهره عن محض الإنفاق في الشهوات، ومن جهة الآخذ أنه لما اجتمعت حاجته إليه وحاجة - المالك - ولو احتمالا - كان هناك سببان للتسلط على المال: أحدهما اكتساب المالك له، والثاني احتياج الآخذ إليه، فروعي السببان بقدر الإمكان، ورجح المالك بإبقاء الكثير، وصرف إلى الآخذ اليسير. وأجرى الآية على ظاهرها فقال: إن أخرجها ذو المال سقط سهم العامل مع سهم المؤلفة وصرف إلى الستة الأصناف، وإن قسم الإمام فعلى سبعة، ويجب أن يعطى من كل صنف ثلاثة أنفس، ومن لم يوجد من الأصناف رد نصيبه على الباقين ويستوي بين الأصناف لا بين آحاد الصنف. وقال الشافعي : يجوز صرف الكل لواحد من الأصناف لأن الآية أوجبت أن لا تخرج [ ص: 508 ] الصدقة عنهم، لا أن تكون في جميع الأصناف - وهو قول أبو حنيفة عمر بن الخطاب وحذيفة رضي الله عنهم وابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء وأبي العالية . وميمون بن مهران