حم عسق هذه الحروف يجوز أن تكون إشارة إلى كلمات منتظمة من كلام عظيم يشير إلى أن معنى هذا الجمع يجوز أن يقال: حكمة محمد علت وعمت فعفت سقام القلوب، وقسمت حروفها قسمين موافقة لبقية أخواتها وبعدها آيتين، ولم تقسم كهيعص لأنها آية واحدة ولا أخت لها ولم تقسم المص مثلا وإن كان لها أخوات لأنها آية واحدة، ولم يعد في شيء من القرآن حرف واحد آية، ويجوز أن يعتبر مفردة فتكون إشارة إلى أسرار تملأ الأقطار، وتشرح الصدور والأفكار، فإن نظرت إلى مخارجها وجدتها قد حصل الابتداء فيها بأدنى وسط [ ص: 233 ] الحلق إلى اللسان باسم الحاء وثنى بأوسط حروف الشفة وهي الميم وحصل الرجوع إلى وسط الحلق بأقصاه من اللسان في اسم العين، وهو جامع للحلق واللسان، وقصد رابعا إلى اللسان بالسين التي هي من أدناه إلى الشفتين وهو رأسه ولها التصاق بالشفتين واتصال بأعلى الفم ففيها بهذا الاعتبار جمع ثم جعل بعد هذا الظهور بطونا إلى أصل اللسان، وهو أقصاه من الشفة بالقاف، ولاسم هذا الحرف جمع بالابتداء بأصل اللسان مع سقف الحلق والاختتام بالشفة العليا والثنيتين السفليين، ففي هذه الحروف ثلاثة وهي أكثرها لها نظر بما فيها من الجمع إلى مقصود السورة، وقد اتسق الابتداء فيها فيما كان من حرفين جمعهما مخرج بالأعلى ثم بالأدنى إشارة إلى أنه يكون لأهل هذا الدين بعد الظهور بطون كما كان في أول الإسلام حيث حصر النبي صلى الله عليه وسلم وأقاربه في الشعب، وذلك أيضا إشارة إلى أنه من تحلية الظاهر ينتقل إلى تصفية الباطن من زين ظاهره بجمع الأعمال الصالحة صحح الله باطنه بالمراقبة الخالصة الناصحة على أن في هذا التدلي بشرى بأن الحال الثاني يكون أعلى من الأول، كما كان عند الظهور من الشعب بما حصل من نقض الصحيفة الظالمة الذي كان الضيق سببا له، لأن الثاني من مراتب هذه الحروف أقوى صفة مما هو أعلى منه مخرجا، فإن الحاء لها من الصفات الهمس والرخاوة والاستفال [ ص: 234 ] والانفتاح والميم له من الصفات الجهر والانفتاح والاستفال وبين الشدة والرخاوة، والعين لها من الصفات ما للميم سواء، والسين لها من الصفات ما للحاء، وتزيد بالصفير، والقاف له من الصفات الجهر والشدة والانفتاح والاستعلاء والقلقلة فالحرف الأول أكثر صفاته الضعف، ويزيد بالإمالة التي قرأ بها كثير من القراء، والثاني والثالث على السواء، وهما إلى القوة أرجح قليلا، وذلك كما تقدم من وسط الحال عند الخروج من الشعب، والرابع فيه قوة وضعف وضعفه أكثر، فإن فيه للضعف ثلاث صفات وللقوة صفتين، وذلك كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم عند آخر أمره بمكة المشرفة حين مات الوزيران رضي الله عنها خديجة وأبو طالب لكن ربما كانت الصفتان القويتان عاليتين على الصفات الضعيفة بما فيهما بالانتشار بالصفير والجمع الذي مضت الإشارة إليه من الإشارة إلى ضخامة تكون باجتماع أنصار كما وقع من بيعة الأنصار، والخامس وهو الأخير كله قوة كما وقع بعد الهجرة عند اجتماع الكلمة وظهور العظمة، كما قال صلى الله عليه وسلم:
"فلما هاجرنا انتصفنا من القوم وكانت سجال الحرب بيننا وبينهم" ثم تكاملت القوة عند تكامل الاجتماع بعد قتال أهل الردة [ ص: 235 ] بعد موته صلى الله عليه وسلم لا جرم انتشر أهل هذا الدين في الأرض يمينا وشمالا، فما قام لهم مخالف، ولا وافقتهم أمة من الأمم على ضعف حالهم وقلتهم وقوة غيرهم وكثرتهم إلا دمروا عليهم فجعلوهم كأمس الدار، وقد جمعت هذه الحروف كما مضى وصفي المجهورة والمهموسة كانت المجهورة أغلبها إشارة إلى ظهور هذا الدين على كل دين كما حققه شاهد الوجود، وصنفي المنقوطة والعاطلة، وكانت كلها عاطلة إلا حرفا واحدا، إشارة إلى أن أحسن أحوال المؤمن أن يكون أغلب أحواله محوا لا يرى له صفة من الصفات بل يعد في زمرة الأموات وإلى أن المتحلي بالأعمال الصالحة الخالصة من أهل القلوب من أرباب هذا الدين قليل جدا، وكان المنقوط آخرها إشارة إلى أن نهاية المراتب عند أهل الحق الجمع بعد المحو والفرق وكان حرف الشفة من بين حروفها الميم، وهي ذات الدائرة المستوية الاستدارة إشارة إلى أن لأهل هذا الدين من الاجتماع فيه والانطباق عليه والإطافة به والإسراع إليه ما ليس لغيرهم وإلى أنهم من القدم الراسخ في القول المقتطع من الفم المختتم بالشفتين ما لا يبلغه غيرهم بحيث أنه لا نهاية له [ ص: 236 ] مع حسن استنارته بتناسب استدارته، ثم إنك إذا بلغت نهاية الجمع في هذه الأحرف بأن جمعت أعداد مسمياتها وهو مائتان وثمانية وسبعون وفي السنة الموافقة لهذا العدد كانت ولادتي، فكان الابتداء في هذا الكتاب الديني حينئذ بالقوة القريبة من الفعل وسنة ابتدائي فيه بالفعل وهي سنة إحدى وستين في شعبان كان سني إذا ذاك قد شارف أربعا وخمسين سنة، وهو موافق لعدد حرفي دن أمرا من الدين الذي هو مقصود السورة، فكأنه أمر إذ ذاك بالشروع في الكتاب ليحصل مقصودها، وسنة وصولي إلى هذه السورة وهي سنة إحدى وسبعين في شعبان منها كان سني قد شارف أربعا وستين سنة، وهو عدد موافق لعدد أحرف دين الذي هو مقصود السورة، فأنا أرجو بهذا الاتفاق الغريب أن يكون ذلك مشيرا إلى أن الله تعالى يجمع بكتابي هذا الذي خصني بإلهامه وادخر لي المنحة بحله وإبرامه، واعتناقه والتزامه، أهل هذا الدين القيم جمعا عظيما جليلا جسيما، يظهر له أثر بالغ في اجتماعهم وحسن تأسيهم برؤوس نقلته وأتباعه، ومن الآثار الجليلة في لحظها للجمع أنه لما كان مقصود سورة مريم عليها [ ص: 237 ] السلام بيان اتصاف الرحمن، المنزل لهذا القرآن، بشمول الرحمة لجميع الأكوان، وكانت هذه السورة لرحمة خاصة من آثار تلك الرحمة العامة، وهي الاجتماع على هذا الدين المراد ظهوره وعلوه على كل دين وقهره لكل أمر، فكان لذلك محيطا قاهرا لحظ كل قاهر وظالم، وكانت هذه الرحمة الخاصة - لنسبتها إلى الخلق - ثانية لتلك العامة ومنشعبة منها، كانت لكونها من أوصاف الخلق بمنزلة اليسار، وتلك لكونها من صفة الحق بمنزلة اليمين، لذلك - والله أعلم - قال الأستاذ في كتاب له في الحرف: ولما كان ذلك - أي هذه الاسم المجتمع من هذه الأحرف المقطعة - أول هذه السورة مما ينسب إلى أمر الشمال كان متى وضع على أصابع اليسار ثم وضعت على هانجة ظلم أو جور استولى عليه بحكم إحاطة حكمة الله، وكانت خمسها مضافة إلى خمس أبو الحسن الحرالي كهيعص المستولية على حكمة اليمين محيطا ذلك بالعشر المحيط بكل الحكمة التي مسندها الياء الذي هو أول العشر ومحل الاستواء بما هو عائد وحدة الألف - انتهى.