قوله تعالى : " أفمن كان على بينة من ربه " في المراد بالبينة أربعة أقوال :
أحدها : أنها الدين قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : أنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله الضحاك . والثالث : القرآن ، قاله ابن زيد . والرابع : البيان ، قاله مقاتل . وفي المشار إليه بـ " من " قولان :
أحدهما : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس والجمهور . والثاني : أنهم المسلمون ، وهو يخرج على قول الضحاك . وفي قوله : " ويتلوه " قولان :
أحدهما : يتبعه . والثاني : يقرؤه . وفي هاء " يتلوه " قولان :
أحدهما : أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني : إلى القرآن ، وقد سبق ذكره في قوله : فأتوا بعشر سور مثله مفتريات [هود :13] .
وفي المراد بالشاهد ثمانية أقوال :
أحدها : أنه جبريل ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة وإبراهيم في آخرين .
والثاني : أنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يتلو القرآن ، قاله علي بن أبي طالب ، والحسن ، وقتادة في آخرين .
[ ص: 86 ] والثالث : أنه علي بن أبي طالب . و " يتلوه " بمعنى يتبعه ، رواه جماعة عن علي بن أبي طالب ، وبه قال محمد بن علي ، وزيد بن علي .
والرابع : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو شاهد من الله تعالى ، قاله الحسين بن علي عليه السلام .
والخامس : أنه ملك يحفظه ويسدده ، قاله مجاهد .
والسادس : أنه الإنجيل يتلو القرآن بالتصديق ، وإن كان قد أنزل قبله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشرت به التوراة ، قاله الفراء .
والسابع : أنه القرآن ونظمه وإعجازه ، قاله الحسين بن الفضل .
والثامن : أنه صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه ومخايله ، لأن كل عاقل نظر إليه علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي هاء " منه " ثلاثة أقوال أحدها : أنها ترجع إلى الله تعالى . والثاني : إلى النبي صلى الله عليه وسلم . والثالث : إلى البينة .
قوله تعالى : " ومن قبله " في هذه الهاء ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله مجاهد . والثاني : إلى القرآن ، قاله ابن زيد . والثالث : إلى الإنجيل ، أي : ومن قبل الإنجيل " كتاب موسى " يتبع محمدا بالتصديق له ، ذكره ابن الأنباري . قال الزجاج : والمعنى : وكان من قبل هذا كتاب موسى دليلا على أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فيكون " كتاب موسى " عطفا على قوله : " ويتلوه شاهد منه " أي : ويتلوه كتاب موسى ، لأن موسى وعيسى بشرا بالنبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل . ونصب إماما على الحال .
فإن قيل : كيف تتلوه التوراة ، وهي قبله ؟
[ ص: 87 ] قيل : لما بشرت به ، كانت كأنها تالية له ، لأنها تبعته بالتصديق له .
وقال ابن الأنباري : " كتاب موسى " مفعول في المعنى ، لأن جبريل تلاه على موسى ، فارتفع الكتاب ، وهو مفعول بمضمر بعده ، تأويله : ومن قبله كتاب موسى كذاك ، أي : تلاه جبريل أيضا ، كما تقول العرب : أكرمت أخاك وأبوك ، فيرفعون الأب ، وهو مكرم على الاستئناف ، بمعنى وأبوك مكرم أيضا . قال : وذهب قوم إلى أن كتاب موسى فاعل ، لأنه تلا محمدا بالتصديق كما تلاه الإنجيل .
فصل
فتلخيص الآية : أفمن كان على بينة من ربه كمن لم يكن ؟ قال الزجاج : ترك المضاد له ، لأن في ما بعده دليلا عليه ، وهو قوله : مثل الفريقين كالأعمى والأصم [هود :24] . وقال ابن قتيبة : لما ذكر قبل هذه الآية قوما ركنوا إلى الدنيا ، جاء بهذه الآية ، وتقدير الكلام : أفمن كانت هذه حاله كمن يريد الدنيا ؟ فاكتفى من الجواب بما تقدم ، إذ كان فيه دليل عليه . وقال ابن الأنباري : إنما حذف لانكشاف المعنى ، والمحذوف المقدر كثير في القرآن والشعر ، قال الشاعر:
فأقسم لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
[ ص: 88 ] فإن قلنا : إن المراد بمن كان على بينة ربه ، رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمعنى الآية : ويتبع هذا النبي شاهد ، وهو جبريل عليه السلام . " منه " أي : من الله . وقيل: " شاهد " هو علي بن أبي طالب ، " منه " أي : من النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : " يتلوه " يعني القرآن ، يتلوه جبريل ، وهو شاهد لمحمد صلى الله عليه وسلم أن الذي يتلوه جاء من عند الله تعالى . وقيل : ويتلو رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن وهو شاهد من الله . وقيل : ويتلو لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، فلسانه شاهد منه . وقيل : ويتبع محمدا شاهد له بالتصديق ، وهو الإنجيل من الله تعالى . وقيل : ويتبع هذا النبي شاهد من نفسه ، وهو سمته وهديه الدال على صدقه . وإن قلنا : إن المراد بمن كان على بينة من ربه المسلمون ، فالمعنى : أنهم يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو البينة ، ويتبع هذا النبي شاهد له بصدقه .
قوله تعالى : " إماما ورحمة " إنما سماه إماما ، لأنه كان يهتدى به ، " ورحمة " أي : وذا رحمة ، وأراد بذلك التوراة ، لأنها كانت إماما وسببا لرحمة من آمن بها .
قوله تعالى : " أولئك " فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه إشارة إلى أصحاب موسى . والثاني : إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . والثالث : إلى أهل الحق من أمة موسى وعيسى ومحمد .
وفي هاء " به " ثلاثة أقوال أحدها : أنها ترجع إلى التوراة . والثاني : إلى القرآن . والثالث : إلى محمد صلى الله عليه وسلم .
وفي المراد بالأحزاب هاهنا أربعة أقوال :أحدها : جميع الملل ، قاله سعيد بن جبير . والثاني : اليهود والنصارى ، قاله قتادة . والثالث : قريش ، قاله السدي . والرابع : بنو أمية ، وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي ، وآل أبي طلحة بن عبد العزى ، قاله مقاتل .
[ ص: 89 ] قوله تعالى : " فالنار موعده " أي : إليها مصيره ، قال حسان بن ثابت :
أوردتموها حياض الموت ضاحية فالنار موعدها والموت لاقيها
قوله تعالى : " فلا تك في مرية منه " قرأ الحسن ، وقتادة : " مرية " بضم الميم أين وقع . وفي المكني عنه قولان :
أحدهما : أنه الإخبار بمصير الكافر به ، فالمعنى : فلا تك في شك أن موعد المكذب به النار ، وهذا قول ابن عباس .
والثاني : أنه القرآن ، فالمعنى : فلا تك في شك من أن القرآن من الله تعالى ، قاله مقاتل . قال ابن عباس : والمراد بالناس هاهنا : أهل مكة .
قوله تعالى : " أولئك يعرضون على ربهم " قال الزجاج : ذكر عرضهم توكيدا لحالهم في الانتقام منهم ، وإن كان غيرهم يعرض أيضا .
فأما " الأشهاد " ففيهم خمسة أقوال :أحدها : أنهم الرسل ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : الملائكة قاله مجاهد ، وقتادة . والثالث : الخلائق ، روي عن قتادة أيضا . وقال مقاتل : " الأشهاد " الناس ، كما يقال : على رؤوس الأشهاد ، أي : على رؤوس الناس ، والرابع : الملائكة والنبيون وأمة محمد صلى الله عليه وسلم يشهدون على الناس ، والجوارح تشهد على ابن آدم ، قاله ابن زيد . والخامس : الأنبياء والمؤمنون ، قاله الزجاج . قال ابن الأنباري : وفائدة إخبار الأشهاد بما يعلمه الله : تعظيم بالأمر المشهود عليه ، ودفع المجاحدة فيه .


