قوله تعالى : " ولما جاءت رسلنا لوطا " قال المفسرون : خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط ، فأتوها عشاء . وقال السدي عن أشياخه : أتوها نصف النهار ، فلما بلغوا نهر سدوم ، لقوا بنت لوط تستقي الماء لأهلها ، فقالوا لها : ياجارية ، هل من منزل ؟ قالت : نعم ، مكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم فرقا عليهم من قومها ، فأتت أباها ، فقالت : يا أبتاه ، أدرك فتيانا على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم هي أحسن منهم ، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم ; وقد كان قومه نهوه أن يضيف رجلا ; فجاء بهم ، ولم يعلم بهم أحدا إلا أهل بيت لوط ; فخرجت امرأته فأخبرت قومها ، فجاؤوا يهرعون إليه .
قوله تعالى : " سيء بهم " فيه قولان :
أحدهما : ساء ظنه بقومه ، قاله ابن عباس .
والثاني : ساءه مجيء الرسل ، لأنه لم يعرفهم ، وأشفق عليهم من قومه ، قاله ابن جرير .
قال الزجاج : وأصل " سيء بهم " سوئ بهم ، من السوء ، إلا أن الواو أسكنت ونقلت كسرتها إلى السين .
[ ص: 136 ] قوله تعالى : " وضاق بهم ذرعا " قال ابن عباس : ضاق ذرعا بأضيافه . قال الفراء : الأصل فيه : وضاق ذرعه بهم ، فنقل الفعل عن الذرع إلى ضمير لوط ، ونصب الذرع بتحول الفعل عنه ، كما قال : واشتعل الرأس شيبا [مريم :4] ومعناه : اشتعل شيب الرأس .
قال الزجاج : يقال : ضاق فلان بأمره ذرعا : إذا لم يجد من المكروه في ذلك الأمر مخلصا . وذكر ابن الأنباري فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أن معناه : وقع به مكروه عظيم يصل إلى دفعه عن نفسه ; فالذرع كناية عن هذا المعنى .
والثاني : أن معناه : ضاق صبره وعظم المكروه عليه ; وأصله من ذرع فلانا القيء : إذا غلبه وسبقه .
والثالث : أن المعنى : ضاق بهم وسعه ، فناب الذرع والذراع عن الوسع ، لأن الذراع من اليد ، والعرب تقول : ليس هذا في يدي ، يعنون : ليس هذا في وسعي ; ويدل على صحة هذا أنهم يجعلون الذراع في موضع الذرع ، فيقولون : ضقت بهذا الأمر ذراعا ، قال الشاعر :
إليك إليك ضاق بهم ذراعا
فأما العصيب ، فقال أبو عبيدة : العصيب : الشديد الذي يعصب الناس بالشر ، وأنشد :
يوم عصيب يعصب الأبطالا عصب القوي السلم الطوالا
وقال أبو عبيد : يقال يوم عصيب ، ويوم عصبصب : إذا كان شديدا .
[ ص: 137 ] قوله تعالى : " يهرعون إليه " قال ابن عباس ، ومجاهد : " يهرعون " يسرعون . وقال الفراء ، والكسائي : لا يكون الإهراع إلا إسراعا مع رعدة . قال ابن قتيبة : الإهراع شبيه بالرعدة ، يقال : أهرع الرجل : إذا أسرع ، على لفظ ما لم يسم فاعله ، كما يقال : أرعد . قال ابن الأنباري الإهراع فعل واقع بالقوم وهو لهم في المعنى ، كما قالت العرب : قد أولع الرجل بالأمر ، فجعلوه مفعولا ، وهو صاحب الفعل ، ومثله أرعد زيد ، وسهي عمرو من السهو ، كل واحد من هذه الأفاعيل خرج الاسم معه مقدرا تقدير المفعول ، وهو صاحب الفعل لا يعرف له فاعل غيره . قال : وقال بعض النحويين : لا يجوز للفعل أن يجعل فاعله مفعولا ، وهذه الأفعال المذكورة فاعلوها محذوفون ، وتأويل " أولع زيد " : أولعه طبعه وجبلته ، و " أرعد الرجل " : أرعده غضبه ، و " سهي عمرو " جعله ساهيا ماله أو جهله ، و " أهرع " معناه : أهرعه خوفه ورعبه ، فلهذه العلة خرج هؤلاء الأسماء مخرج المفعول به . قال : وقال بعض اللغويين : لا يكون الإهراع إلا إسراع المذعور الخائف ; لا يقال لكل مسرع : مهرع حتى ينضم إلى إسراعه جزع وذعر . قال المفسرون : سبب إهراعهم ، أن امرأة لوط أخبرتهم بالأضياف .
" ومن قبل " أي : ومن قبل مجيئهم إلى لوط " كانوا يعملون السيئات " يعني فعلهم المنكر .
وفي قوله : " هؤلاء بناتي " قولان :
أحدهما : أنهن بناته لصلبه ، قاله ابن عباس .
فإن قيل : كيف جمع ، وقد كن اثنتين ؟
فالجواب أنه قد يقع الجمع على اثنين ، كقوله : وكنا لحكمهم شاهدين [الأنبياء :78] .
[ ص: 138 ] والثاني : أنه عنى نساء أمته ، لأن كل نبي أبو أمته ، والمعنى : أنه عرض عليهم التزويج ، أو أمرهم أن يكتفوا بنسائهم ، وهذا مذهب مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن جريج .
فإن قيل : كيف عرض تزويج المؤمنات على الكافرين ؟ فعنه جوابان :
أحدهما : أنه قد كان يجوز ذلك في شريعته ، وكان جائزا في صدر الإسلام حتى نسخ ، قاله الحسن .
والثاني : أنه عرض ذلك عليهم بشرط إسلامهم ، قاله الزجاج ، ويؤكده أن عرضهن عليهم موقوف على عقد النكاح ، فجاز أن يقف على شرط آخر .
قوله تعالى : " هن أطهر لكم " قال مقاتل : هن أحل من إتيان الرجال .
قوله تعالى : " فاتقوا الله " فيه قولان :
أحدهما : اتقوا عقوبته . والثاني : اتقوا معصيته .
قوله تعالى : " ولا تخزون في ضيفي " حرك ياء " ضيفي " أبو عمرو ، ونافع . وفي معنى هذا الخزي ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الفضيحة ، قاله ابن عباس . والثاني : الاستحياء ، والمعنى : لا تفعلوا بأضيافي فعلا يلزمني الاستحياء منه ، لأن المضيف يلزمه الاستحياء من كل فعل يصل إلى ضيفه . والعرب تقول : قد خزي الرجل يخزى خزاية : إذا استحيى ، قال الشاعر :
من البيض لا تخزى إذا الريح ألصقت بها مرطها أو زايل الحلي جيدها
والثالث : أنه بمعنى الهلاك ، لأن المعرة التي تقع بالمضيف في هذه الحال تلزمه هلكة ، ذكرهما ابن الأنباري .
[ ص: 139 ] قال ابن قتيبة : والضيف هاهنا : بمعنى الأضياف ، والواحد يدل على الجميع ، كما تقول : هؤلاء رسولي ووكيلي .
قوله تعالى : " أليس منكم رجل رشيد " في المراد بالرشيد قولان :
أحدهما : المؤمن . والثاني : الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر . رويا عن ابن عباس .
قال ابن الأنباري : يجوز أن يكون الرشيد بمعنى المرشد ، فيكون المعنى : أليس منكم مرشد يعظكم ويعرفكم قبيح ماتأتون ؟ فيكون الرشيد من صفة الفاعل ، كالعليم ، والشهيد . ويجوز أن يكون الرشيد بمعنى المرشد ، فيكون المعنى : أليس منكم رجل قد أسعده الله بما منحه من الرشاد يصرفكم عن إتيان هذه المعرة ؟ فيجري رشيد مجرى مفعول ، كالكتاب الحكيم بمعنى المحكم .
قوله تعالى : " ما لنا في بناتك من حق " فيه قولان :
أحدهما : مالنا فيهن حاجة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : لسن لنا بأزواج فنستحقهن ، قاله ابن إسحاق ، وابن قتيبة .
قوله تعالى : " وإنك لتعلم ما نريد " قال عطاء : وإنك لتعلم أنا نريد الرجال لا النساء .
قوله تعالى : " لو أن لي بكم قوة " أي : جماعة أقوى بهم عليكم ، وقيل : أراد بالقوة البطش . " أو آوي إلى ركن شديد " أي : أنضم إلى عشيرة وشيعة تمنعني . وجواب " لو " محذوف على تقدير : لحلت بينكم وبين المعصية . قال أبو عبيدة : قوله : " آوي " من قولهم : أويت إليك ، فأنا آوي أويا ، [ ص: 140 ] والمعنى : صرت إليك وانضممت . ومجاز الركن هاهنا : العشيرة العزيزة الكثيرة المنيعة ، وأنشد :
يأوي إلى ركن من الأركان في عدد طيس ومجد باني
والطيس : الكثير يقال أتانا لبن طيس وشراب طيس أي : كثير .
واختلفوا أي وقت قال هذا لوط ; فروي عن ابن عباس أن لوطا كان قد أغلق بابه والملائكة معه في الدار ، وهو يناظرهم ويناشدهم وراء الباب ، وهم يعالجون الباب ويرومون تسور الجدار ; فلما رأت الملائكة ما يلقى من الكرب ، قالوا : يا لوط إنا رسل ربك فافتح الباب ودعنا وإياهم ; ففتح الباب فدخلوا ، واستأذن جبريل ربه في عقوبتهم ، فأذن له ، فضرب بجناحه وجوههم فأعماهم ، فانصرفوا يقولون : النجاء النجاء ، فإن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض ; وجعلوا يقولون : يا لوط ، كما أنت حتى تصبح ، يوعدونه ; فقال لهم لوط : متى موعد هلاكهم ؟ قالوا : الصبح ، قال : لو أهلكتموهم الآن ، فقالوا : أليس الصبح بقريب ؟ وقال أبو صالح عن ابن عباس : إنهم لما تواعدوه ، قال في نفسه : ينطلق هؤلاء القوم غدا من عندي ، وأبقى مع هؤلاء فيهلكوني ، فقال : لو أن لي بكم قوة .
قلت : وإنما يتوجه هذا إذا قلنا : إنه كان قبل علمه أنهم ملائكة . وقال قوم : إنه إنما قال هذا لما كسروا بابه وهجموا عليه . وقال آخرون : لما نهاهم عن أضيافه فأبوا قال هذا .
وفي الجملة ، ما أراد بالركن نصر الله وعونه ، لأنه لم يخل من ذلك ، وإنما ذهب إلى العشيرة والأسرة .
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رحم الله لوطا ، لقد [ ص: 141 ] كان يأوي إلى ركن شديد ، وما بعث الله نبيا بعده إلا في ثروة من قومه "
قوله تعالى : " لن يصلوا إليك " قال مقاتل : فيه إضمار ، تقديره لن يصلوا إليك بسوء ، وذلك أنهم قالوا للوط : إنا نرى معك رجالا سحروا أبصارنا ، فستعلم غدا ما تلقى أنت وأهلك ; فقال له جبريل : " إنا رسل ربك لن يصلوا إليك " .
قوله تعالى : " فأسر بأهلك " قرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي " فأسر " بإثبات الهمز في اللفظ من أسريت . وقرأ ابن كثير ، ونافع " فاسر بأهلك " بغير همز من سريت ، وهما لغتان . قال الزجاج : يقال : سريت ، وأسريت إذا سرت ليلا ، قال الشاعر :
سريت بهم حتى تكل مطيهم وحتى الجياد ما يقدن بأرسان
وقال النابغة :
أسرت عليه من الجوزاء سارية تزجي الشمال عليه جامد البرد
وقد رووه : سرت . فأما أهله ، فقال مقاتل : هم امرأته وابنتاه ، واسم ابنتيه : ربثا وزعرثا . وقال السدي : اسم الكبرى : رية ، واسم الصغرى : عروبة ، [ ص: 142 ] والمراد بأهله : ابنتاه . فأما القطع ، فهو بمعنى القطعة ; يقال : مضى قطع من الليل ، أي : قطعة . قال ابن عباس : يريد به : آخر الليل . وقال ابن قتيبة : " بقطع " أي : ببقية تبقى من آخره . وقال ابن الأنباري : ذكر القطع بمعنى القطعة مختص بالليل ، ولا يقال : عندي قطع من الثوب ، بمعنى : عندي قطعة .
قوله تعالى : " ولا يلتفت منكم أحد " فيه قولان :
أحدهما : أنه بمعنى : لا يتخلف منكم أحد ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أنه الالتفات المعروف ، قاله مجاهد ، ومقاتل .
قوله تعالى : " إلا امرأتك " قرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بنصب التاء . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن جماز عن أبي جعفر برفع التاء . قال الزجاج : من قرأ بالنصب ، فالمعنى : فأسر بأهلك إلا امرأتك . ومن قرأ بالرفع حمله ، على " ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك " . وإنما أمروا بترك الالتفات لئلا يروا عظيم ما ينزل بهم من العذاب . قاله ابن الأنباري : وعلى قراءة الرفع ، يكون الاستثناء منقطعا ، معناه : لكن امرأتك ، فإنها تلتفت فيصيبها ما أصابهم ; فإذا كان استثناء منقطعا ، كان التفاتها معصية لربها ، لأنه ندب إلى ترك الالتفات . قال قتادة : ذكر لنا أنها كانت مع لوط حين خرج من القرية ، فلما سمعت هدة العذاب ، التفتت فقالت : واقوماه ، فأصابها حجر فأهلكها ، وهو قوله : " إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم " للعذاب " الصبح " .
قوله تعالى : " أليس الصبح بقريب " قال المفسرون : قالت الملائكة : " إن موعدهم الصبح " فقال : أريد أعجل من ذلك ، فقالوا له : " أليس الصبح بقريب " ؟


