قوله تعالى : قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف قال ابن الأنباري : معناه : والله ، وجواب هذا القسم " لا " المضمرة التي تأويلها : تالله لا تفتأ ، فلما كان موضعها معلوما خفف الكلام بسقوطها من ظاهره ، كما تقول العرب : والله أقصدك أبدا ، يعنون : لا أقصدك ، قال امرؤ القيس :
[ ص: 272 ]
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
يريد : لا أبرح ، وقالت الخنساء :
فأقسمت آسى على هالك أو أسأل نائحة مالها
أرادت : لا آسى ، وقال الآخر :
لم يشعر النعش ما عليه من الـ ـعرف ولا الحاملون ما حملوا
تالله أنسى مصيبتي أبدا ما أسمعتني حنينها الإبل
وقرأ أبو عمران ، وابن محيصن ، وأبو حيوة : " قالوا بالله " بالباء ، وكذلك كل قسم في القرآن . وأما قوله : " تفتأ " فقال المفسرون وأهل اللغة : معنى " تفتأ " تزال ، فمعنى الكلام : لا تزال تذكر يوسف ، وأنشد أبو عبيدة :
فما فتئت خيل تثوب وتدعي ويلحق منها لاحق وتقطع
وأنشد ابن القاسم :
فما فتئت منا رعال كأنها رعال القطا حتى احتوين بني صخر
قوله تعالى : " حتى تكون حرضا " فيه أربعة أقوال :
أحدها : أنه الدنف ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . قال ابن قتيبة : يقال : [ ص: 273 ] أحرضه الحزن ، أي : أدنفه . قال أبو عبيدة : الحرض : الذي قد أذابه الحزن أو الحب ، وهي في موضع محرض . وأنشد :
إني امرؤ لج بي حب فأحرضني حتى بليت وحتى شفني السقم
أي : أذابني . وقال الزجاج : الحرض : الفاسد في جسمه ، والمعنى : حتى تكون مدنفا مريضا .
والثاني : أنه الذاهب العقل ، قاله الضحاك عن ابن عباس . وقال ابن إسحاق : الفاسد العقل . قال الزجاج : وقد يكون الحرض : الفاسد في أخلاقه .
والثالث : أنه الفاسد في جسمه وعقله ، يقال : رجل حارض وحرض ، فحارض يثني ويجمع ويؤنث ، وحرض لا يجمع ولا يثنى ، لأنه مصدر ، قاله الفراء .
والرابع : أنه الهرم ، قاله الحسن ، وقتادة ، وابن زيد .
قوله تعالى : " أو تكون من الهالكين " يعنون الموتى .
فإن قيل : كيف حلفوا على شيء يجوز أن يتغير ؟
فالجواب : أن في الكلام إضمارا ، تقديره : إن هذا في تقديرنا وظننا .
قوله تعالى : " إنما أشكو بثي " قال ابن قتيبة : البث : أشد الحزن ، سمي بذلك لأن صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثه ،
قوله تعالى : " إلى الله " المعنى : إني لا أشكو إليكم ، وذلك لما عنفوه بما تقدم ذكره . وروى الحاكم أبو عبد الله في " صحيحه " من حديث أنس بن [ ص: 274 ] مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كان ليعقوب أخ مؤاخ ، فقال له ذات يوم : يا يعقوب ، ما الذي أذهب بصرك ؟ وما الذي قوس ظهرك ؟ قال : أما الذي أذهب بصري ، فالبكاء على يوسف ، وأما الذي قوس ظهري ، فالحزن على بنيامين ، فأتاه جبريل ، فقال : يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك : أما تستحي أن تشكو إلى غيري ؟ فقال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ، فقال جبريل : الله أعلم بما تشكو ، ثم قال يعقوب : أي رب ، أما ترحم الشيخ الكبير ؟ أذهبت بصري ، وقوست ظهري ، فاردد علي ريحاني أشمه شمة قبل الموت ، ثم اصنع بي يا رب ما شئت ، فأتاه جبريل ، فقال : يا يعقوب ، إن الله يقرأ عليك السلام ويقول : أبشر ، فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك ، اصنع طعاما للمساكين ، فإن أحب عبادي إلي المساكين ، وتدري لم أذهبت بصرك ، وقوست ظهرك ، وصنع إخوة يوسف بيوسف ما صنعوا ، لأنكم ذبحتم شاة ، فأتاكم فلان المسكين وهو صائم ، فلم تطعموه منها . فكان يعقوب بعد ذلك إذا أراد الغداء أمر مناديا فنادى : ألا من أراد الغداء من المساكين فليتغد مع يعقوب ، وإذا كان صائما ، أمر مناديا فنادى : من كان صائما فليفطر مع يعقوب . وقال وهب بن منبه : أوحى الله تعالى إلى يعقوب : أتدري لم عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة ؟ قال : لا ، [ ص: 275 ] قال : لأنك شويت عناقا وقترت على جارك ، وأكلت ولم تطعمه . وذكر بعضهم أن السبب في ذلك أن يعقوب ذبح عجل بقرة بين يديها ، وهي تخور فلم يرحمها .
فإن قيل : كيف صبر يوسف عن أبيه بعد أن صار ملكا ؟
فقد ذكر المفسرون عنه ثلاثة أجوبة :
أحدها : أنه يجوز أن يكون ذلك عن أمر الله تعالى ، وهو الأظهر .
والثاني : لئلا يظن الملك بتعجيل استدعائه أهله ، شدة فاقتهم .
والثالث : أنه أحب بعد خروجه من السجن أن يدرج نفسه إلى كمال السرور . والصحيح أن ذلك كان عن أمر الله تعالى ، ليرفع درجة يعقوب بالصبر على البلاء . وكان يوسف يلاقي من الحزن لأجل حزن أبيه عظيما ، ولا يقدر على دفع سببه .
قوله تعالى : " وأعلم من الله ما لا تعلمون " فيه أربعة أقوال :
أحدها : أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأنا سنسجد له ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثاني : أعلم من سلامة يوسف ما لا تعلمون . قال ابن السائب : وذلك أن ملك الموت أتاه ، فقال له يعقوب : هل قبضت روح ابني يوسف ؟ قال : لا .
والثالث : أعلم من رحمة الله وقدرته مالا تعلمون ، قاله عطاء .
والرابع : أنه لما أخبره بنوه بسيرة العزيز ، طمع أن يكون هو يوسف ، قاله السدي ، قال : ولذلك قال لهم : " اذهبوا فتحسسوا " . وقال وهب بن منبه : لما قال له ملك الموت : ما قبضت روح يوسف ، تباشر عند ذلك ، ثم أصبح ، فقال لبنيه : " اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه " قال أبو عبيدة : " تحسسوا " أي : تخبروا والتمسوا في المظان .
[ ص: 276 ] فإن قيل : كيف قال : " من يوسف " والغالب أن يقال : تحسست عن كذا ؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري :
أحدهما : أن المعنى : عن يوسف ، ولكن نابت عنها " من " كما تقول العرب : حدثني فلان من فلان ، يعنون عنه .
والثاني : أن " من " أوثرت للتبعيض ، والمعنى : تحسسوا خبرا من أخبار يوسف .
قوله تعالى : " ولا تيأسوا من روح الله " فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : من رحمة الله ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، والثاني : من فرج الله ، قاله ابن زيد . والثالث : من توسعة الله ، حكاه ابن القاسم . قال الأصمعي : الروح : الاستراحة من غم القلب . وقال أهل المعاني : لا تيأسوا من الروح الذي يأتي به الله ، " إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " لأن المؤمن يرجو الله في الشدائد .


