قوله تعالى: واتبعوا ما تتلو الشياطين .
في سبب نزولها قولان .
أحدهما: أن اليهود كانوا لا يسألون النبي عن شيء من التوراة إلا أجابهم ، فسألوه عن السحر وخاصموه به ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو العالية . والثاني: أنه لما ذكر سليمان في القرآن قالت يهود المدينة: ألا تعجبون لمحمد يزعم أن ابن داود كان نبيا؟! والله ما كان إلا ساحرا ، فنزلت هذه الآية . قاله ابن إسحاق .
و"تتلوا" بمعنى: تلت ، و"على" بمعنى: في ، قاله المبرد . قال الزجاج: وقوله: على ملك سليمان أي: على عهد سليمان .
وفي كيفية ما تلت الشياطين على ملك سليمان ستة أقوال .
[ ص: 121 ] أحدها: أنه لما خرج سليمان عن ملكه; كتبت الشياطين السحر ، ودفنته في مصلاه ، فلما توفي استخرجوه ، وقالوا: بهذا كان يملك الملك ، ذكر هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس ، وهو قول مقاتل .
والثاني: أن آصف كان يكتب ما يأمر به سليمان ، ويدفنه تحت كرسيه ، فلما مات سليمان استخرجته الشياطين ، فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكذبا ، وأضافوه إلى سليمان ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثالث: أن الشياطين كتبت السحر بعد موت سليمان ، ثم أضافته إليه ، قاله عكرمة .
والرابع: أن الشياطين ابتدعت السحر ، فأخذه سليمان ، فدفنه تحت كرسيه لئلا يتعلمه الناس ، فلما قبض استخرجته ، فعلمته الناس وقالوا: هذا علم سليمان ، قاله قتادة .
والخامس: أن سليمان أخذ عهود الدواب ، فكانت الدابة إذا أصابت إنسانا طلب إليها بذلك العهد ، فتخلى عنه ، فزاد السحرة السجع والسحر ، قاله أبو مجلز .
والسادس: أن الشياطين كانت في عهد سليمان تسترق السمع ، فتسمع من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر ، فيأتون الكهنة فيخبرونهم ، فتحدث الكهنة الناس ، فيجدونه كما قالوا ، حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم [وأدخلوا فيه غيره ] فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة ، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب ، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب ، فبعث سليمان في الناس ، فجمع تلك الكتب في صندوق ، ثم دفنها تحت كرسيه ، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق [وقال: لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه ] ، فلما مات سليمان; جاء شيطان إلى نفر من بني إسرائيل ، فدلهم على تلك الكتب وقال: إنما كان سليمان يضبط أمر الخلق بهذا ، ففشا في الناس أن سليمان كان ساحرا ، واتخذ [ ص: 122 ] بنوا إسرائيل تلك الكتب ، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم ، خاصموه بها ، هذا قول السدي .
وسليمان: اسم عبراني ، وقد تكلمت به العرب في الجاهلية ، وقد جعله النابغة سليما ضرورة ، فقال:
ونسج سليم كل قضاء ذائل
واضطر الحطيئة فجعله: سلاما ، فقال:
فيه الرماح وفيه كل سابغة جدلاء محكمة من نسج سلام
وأرادا جميعا: داود أبا سليمان ، فلم يستقم لهما الشعر ، فجعلاه: سليمان وغيراه .
كذلك قرأته على شيخنا أبي منصور اللغوي . وفي قوله: وما كفر سليمان دليل على كفر الساحر ، لأنهم نسبوا إلى السحر ، لا إلى الكفر .
قوله تعالى: ولكن الشياطين كفروا .
وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم بتشديد نون (ولكن) ونصب نون (الشياطين) . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بتخفيف النون من (لكن) ورفع نون (الشياطين) .
قوله تعالى: وما أنزل على الملكين وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير والزهري (الملكين) بكسر اللام ، وقراءة الجمهور أصح .
وفي "ما" قولان . أحدهما: أنها معطوفة على "ما" الأولى ، فتقديره" واتبعوا ما تتلو الشياطين وما أنزل على الملكين . والثاني: أنها معطوفة على السحر ، فتقديره: يعلمون الناس السحر ، ويعلمونهم ما أنزل على الملكين . فإن قيل: إذا كان السحر نزل على الملكين ، فلماذا كره؟ فالجواب من وجهين ، ذكرهما ابن السري ، أحدهما: أنهما كانا يعلمان الناس: ما السحر ، ويأمران باجتنابه ، وفي ذلك حكمة; لأن سائلا لو قال: ما الزنا؟ لوجب [ ص: 123 ] أن يوقف عليه ، ويعلم أنه حرام . والثاني: أنه من الجائز أن يكون الله تعالى امتحن الناس بالملكين ، فمن قبل التعلم كان كافرا ، ومن لم يقبله فهو مؤمن ، كما امتحن بنهر طالوت .
وفي الذي أنزل على الملكين قولان . أحدهما: أنه السحر ، روي عن ابن مسعود ، والحسن ، وابن زيد . والثاني: أنه التفرقة بين المرء وزوجه ، لا السحر ، روي عن مجاهد ، وقتادة ، وعن ابن عباس كالقولين . قال الزجاج: وهذا من باب السحر أيضا .
الإشارة إلى قصة الملكين .
ذكر العلماء أن الملكين إنما أنزلا إلى الأرض لسبب ، وهو أنه لما كثرت خطايا بني آدم; دعت عليهم الملائكة ، فقال الله تعالى: لو أنزلت الشهوة والشياطين منكم منزلتهما من بني آدم ، لفعلتم مثل ما فعلوا ، فحدثوا أنفسهم أنهم إن ابتلوا ، اعتصموا ، فأوحى الله إليهم [ ص: 124 ] [أن ] اختاروا من أفضلكم ملكين ، فاختاروا هاروت وماروت . وهذا مروي عن ابن مسعود وابن عباس .
واختلف العلماء: ماذا فعلا من المعصية على ثلاثة أقوال . أحدها: أنهما زنيا ، وقتلا ، وشربا الخمرة ، قاله ابن عباس . والثاني: أنهما جارا في الحكم ، قاله عبيد الله بن عتبة . والثالث: أنهما هما بالمعصية فقط . ونقل عن علي ، رضي الله عنه ، أن الزهرة كانت امرأة جميلة ، وأنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت ، فراودها كل واحد منهما على نفسها ، ولم يعلم صاحبه ، وكانا يصعدان السماء آخر النهار ، فقالت لهما: بم تهبطان وتصعدان؟ قالا: باسم الله الأعظم ، فقالت: ما أما بمواتيتكما إلى ما تريدان حتى تعلمانيه ، فعلماها إياه ، فطارت إلى السماء ، فمسخها الله كوكبا .
وفي الحديث أن النبي ، صلى الله عليه وسلم "لعن الزهرة ، وقال: إنها فتنت ملكين" إلا أن هذه الأشياء بعيد عن الصحة وتأول بعضهم ، هذا فقال: إنه لما رأى الكوكب ، ذكر تلك المرأة ، [ ص: 125 ] لا أن المرأة مسخت نجما .
واختلف العلماء في كيفية عذابهما; فروي عن ابن مسعود أنهما معلقان بشعورهما إلى يوم القيامة ، وقال مجاهد: إن جبا ملئ نارا فجعلا فيه .
فأما بابل; فروي عن الخليل أن ألسن الناس تبلبلت بها . واختلفوا في حدها على ثلاثة أقوال . أحدها: أنها: الكوفة وسوادها ، قاله ابن مسعود . والثاني: أنها من نصيبين إلى رأس العين ، قاله قتادة . والثالث: أنها جبل في وهدة من الأرض ، قاله السدي .
قوله تعالى: إنما نحن فتنة أي: اختبار وابتلاء .
قوله تعالى: إلا بإذن الله يريد: بقضائه . ولقد علموا : إشارة إلى اليهود لمن اشتراه يعني: اختاره ، يريد: السحر . واللام لام اليمين . فأما الخلاق; فقال الزجاج: هو النصيب والوافر من الخير .
وله تعالى: ولبئس ما شروا به أنفسهم أي: باعوها به لو كانوا يعلمون العقاب فيه .
[ ص: 126 ] فصل
اختلف الفقهاء في حكم الساحر; فمذهب إمامنا أحمد رضي الله عنه يكفر بسحره ، قتل به ، أو لم يقتل ، وهل تقبل توبته؟ على روايتين . وقال الشافعي: لا يكفر بسحره ، فإن قتل بسحره وقال: سحري يقتل مثله ، وتعمدت ذلك ، قتل قودا . وإن قال: قد يقتل ، قد يخطئ ، لم يقتل ، وفيه الدية . فأما ساحر أهل الكتاب ، فإنه لا يقتل عند أحمد إلا أن يضر بالمسلمين ، فيقتل لنقض العهد ، وسواء في ذلك الرجل والمرأة ، وقال أبو حنيفة: حكم ساحر أهل الكتاب حكم ساحر المسلمين في إيجاب القتل ، فأما المرأة الساحرة ، فقال: تحبس ، ولا تقتل .


