قوله تعالى : " وهل أتاك حديث موسى " هذا استفهام تقرير ، ومعناه : قد أتاك . قال ابن الأنباري : وهذا معروف عند اللغويين أن تأتي " هل " [ ص: 272 ] معبرة عن ( قد ) ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو أفصح العرب : " اللهم هل بلغت " ، يريد : قد بلغت .
قال وهب بن منبه : استأذن موسى شعيبا عليهما السلام في الرجوع إلى والدته ، فأذن له ، فخرج بأهله ، فولد له في الطريق في ليلة شاتية ، فقدح فلم يور الزناد ، فبينا هو في مزاولة ذلك أبصر نارا من بعيد عن يسار الطريق ، وقد ذكرنا هذا الحديث بطوله في كتاب " الحدائق " ، فكرهنا إطالة التفسير بالقصص ; لأن غرضنا الاقتصار على التفسير ليسهل حفظه . قال المفسرون : رأى نورا ، ولكن أخبر بما كان في ظن موسى . " فقال لأهله " يعني : امرأته ، " امكثوا " ; أي : أقيموا مكانكم . وقرأ حمزة : ( لأهله امكثوا ) بضم الهاء هاهنا وفي ( القصص : 29 ) . " إني آنست نارا " قال الفراء : إني وجدت ، يقال : هل آنست أحدا ; أي : وجدت ؟ وقال ابن قتيبة : " آنست " بمعنى : أبصرت . فأما القبس ، فقال الزجاج : هو ما أخذته من النار في رأس عود ، أو في رأس فتيلة .
قوله تعالى : " أو أجد على النار هدى " قال الفراء : أراد : هاديا ، فذكره بلفظ المصدر . قال ابن الأنباري : يجوز أن تكون " على " هاهنا بمعنى ( عند ) ، [ ص: 273 ] وبمعنى ( مع ) ، وبمعنى الباء . وذكر أهل التفسير أنه كان قد ضل الطريق ، فعلم أن النار لا تخلو من موقد . وحكى الزجاج : أنه ضل عن الماء ، فرجا أن يجد من يهديه الطريق أو يدله على الماء .
قوله تعالى : " فلما أتاها " يعني : النار ، " نودي يا موسى إني أنا ربك " إنما كرر الكناية ; لتوكيد الدلالة ، وتحقيق المعرفة ، وإزالة الشبهة ، ومثله : إني أنا النذير المبين [ الحجر : 89 ] . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر : ( أني ) بفتح الألف والياء . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : ( إني ) بكسر الألف ، إلا أن نافعا فتح الياء . قال الزجاج : من قرأ : ( أني أنا ) بالفتح ، فالمعنى : نودي [ بأني أنا ربك ، ومن قرأ بالكسر ، فالمعنى : نودي ] يا موسى ، فقال الله : إني أنا ربك .
قوله تعالى : " فاخلع نعليك " في سبب أمره بخلعهما قولان :
أحدهما : أنهما كانا من جلد حمار ميت ، رواه ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبه قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وعكرمة .
والثاني : أنهما كانا من جلد بقرة ذكيت ، ولكنه أمر بخلعهما ليباشر تراب الأرض المقدسة ، فتناله بركتها ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة .
قوله تعالى : " إنك بالواد المقدس " فيه قولان قد ذكرناهما في ( المائدة : 21 ) عند قوله : الأرض المقدسة . [ ص: 274 ]
قوله تعالى : " طوى " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : ( طوى وأنا ) غير مجراة . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : ( طوى ) مجراة ، وكلهم ضم الطاء . وقرأ الحسن وأبو حيوة : ( طوى ) بكسر الطاء مع التنوين . وقرأ علي بن نصر عن أبي عمرو : ( طوى ) بكسر الطاء من غير تنوين . قال الزجاج في " طوى " أربعة أوجه : ( طوى ) بضم أوله من غير تنوين وبتنوين ; فمن نونه فهو اسم للوادي ، وهو مذكر ، سمي بمذكر على فعل ، نحو : حطم وصرد ، ومن لم ينونه ترك صرفه من جهتين :
إحداهما : أن يكون معدولا عن طاو ، فيصير مثل ( عمر ) المعدول عن عامر ، فلا ينصرف كما لا ينصرف ( عمر ) .
والجهة الثانية : أن يكون اسما للبقعة ، كقوله : في البقعة المباركة [ القصص : 30 ] ، وإذا كسر ونون فهو مثل معى ، والمعنى : المقدس مرة بعد مرة ، كما قال عدي بن زيد :
أعاذل إن اللوم في غير كنهه علي طوى من غيك المتردد
أي : اللوم المكرر علي ، ومن لم ينون جعله اسما للبقعة .
[ وللمفسرين في معنى " طوى " ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه اسم الوادي ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثاني : أن معنى " طوى " : طإ الوادي ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وعن مجاهد كالقولين . [ ص: 275 ]
والثالث : أنه قدس مرتين ، قاله الحسن وقتادة ] .
قوله تعالى : " وأنا اخترتك " ; أي : اصطفيتك . وقرأ حمزة والمفضل : ( وأنا ) بالنون المشددة ( اخترناك ) بألف . " فاستمع لما يوحى " ; أي : للذي يوحى . قال ابن الأنباري : الاستماع هاهنا محمول على الإنصات ، المعنى : فأنصت لوحيي ، والوحي هاهنا قوله : " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني " ; أي : وحدني ، " وأقم الصلاة لذكري " فيه قولان :
أحدهما : أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة ، سواء كنت في وقتها أو لم تكن ، هذا قول الأكثرين . وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها ، لا كفارة لها غير ذلك ، وقرأ : " أقم الصلاة لذكري " .
والثاني : أقم الصلاة لتذكرني فيها ، قاله مجاهد . وقيل : إن الكلام مردود على قوله : " فاستمع " ، فيكون المعنى : فاستمع لما يوحى واستمع لذكري . وقرأ ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وابن السميفع : ( وأقم الصلاة للذكرى ) بلامين وتشديد الذال .
قوله تعالى : " أكاد أخفيها " أكثر القراء على ضم الألف .
ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال :
أحدها : أكاد أخفيها من نفسي ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد في آخرين . وقرأ ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، ومحمد بن علي : ( أكاد أخفيها من نفسي ) . [ ص: 276 ] قال الفراء : المعنى : فكيف أظهركم عليها ؟ قال المبرد : وهذا على عادة العرب ، فإنهم يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء : كتمته حتى من نفسي ; أي : لم أطلع عليه أحدا .
والثاني : أن الكلام تم عند قوله : " أكاد " ، وبعده مضمر تقديره : أكاد آتي بها ، والابتداء : أخفيها ، قال ضابئ البرجمي :
هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله
أراد : كدت أفعل .
والثالث : أن معنى " أكاد " : أريد ، قال الشاعر :
كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى
معناه : أرادت وأردت ، ذكرهما ابن الأنباري .
فإن قيل : فما فائدة هذا الإخفاء الشديد ؟
فالجواب : أنه للتحذير والتخويف ، ومن لم يعلم متى يهجم عليه عدوه كان أشد حذرا . وقرأ سعيد بن جبير ، وعروة بن الزبير ، وأبو رجاء العطاردي ، وحميد بن قيس : ( أخفيها ) بفتح الألف . قال الزجاج : ومعناه : أكاد أظهرها ، قال امرؤ القيس :
فإن تدفنوا الداء لا نخفه وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
أي : إن تدفنوا الداء لا نظهره . قال : وهذه القراءة أبين في المعنى ; لأن معنى ( أكاد أظهرها ) : قد أخفيتها وكدت أظهرها . " لتجزى كل نفس بما تسعى " ; أي : بما تعمل . و " لتجزى " متعلق بقوله : " إن الساعة آتية " لتجزى ، ويجوز أن يكون على " أقم الصلاة لذكري " لتجزى .
قوله تعالى : " فلا يصدنك عنها " ; أي : عن الإيمان بها ، " من لا يؤمن بها " ; أي : من لا يؤمن بكونها ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خطاب لجميع أمته ، " واتبع هواه " ; أي : مراده ، وخالف أمر الله عز وجل ، " فتردى " ; أي : فتهلك ; قال الزجاج : يقال : ردي يردى : إذا هلك .


