وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين    [ ص: 375 ] فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين   وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين   وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين    . 
قوله تعالى : " وأيوب إذ نادى ربه   " ; أي : دعا ربه ، " أني   " وقرأ  أبو عمران الجوني   : ( إني ) بكسر الهمزة . " مسني الضر   " وقرأ  حمزة   : ( مسني ) بتسكين الياء ; أي : أصابني الجهد . " وأنت أرحم الراحمين   " ; أي : أكثرهم رحمة ، وهذا تعريض منه بسؤال الرحمة ؛ إذ أثنى عليه بأنه الأرحم وسكت . 
الإشارة إلى قصته 
ذكر أهل التفسير أن أيوب  عليه السلام كان أغنى أهل زمانه ، وكان كثير الإحسان . فقال إبليس : يا رب سلطني على ماله وولده - وكان له ثلاثة عشر ولدا - فإن فعلت رأيته كيف يطيعني ويعصيك ، فقيل له : قد سلطتك على ماله وولده ، فرجع إبليس فجمع شياطينه ومردته ، فبعث بعضهم إلى دوابه ورعاته ، فاحتملوها حتى قذفوها في البحر ، وجاء إبليس في صورة قيمه ، فقال : يا أيوب  ألا أراك تصلي وقد أقبلت ريح عاصف ، فاحتملت دوابك ورعاتها حتى قذفتها في البحر ؟ فلم يرد عليه شيئا حتى فرغ من صلاته ، ثم قال : الحمد لله الذي رزقني ثم قبله مني ، فانصرف خائبا ، ثم أرسل بعض الشياطين إلى جنانه وزروعه فأحرقوها ، وجاء فأخبره ، فقال مثل ذلك ، فأرسل بعض الشياطين ، فزلزلوا منازل أيوب وفيها ولده وخدمه فأهلكوهم ، وجاء فأخبره ، فحمد الله وقال لإبليس وهو يظنه قيمه في ماله : لو كان فيك خير لقبضك معهم ، فانصرف خائبا ،  [ ص: 376 ] فقيل له : كيف رأيت عبدي أيوب  ؟ قال : يا رب سلطني على جسده فسوف ترى ، قيل له : قد سلطتك على جسده ، فجاء فنفخ في إبهام قدميه ، فاشتعل فيه مثل النار ، ولم يكن في زمانه أكثر بكاء منه خوفا من الله تعالى ، فلما نزل به البلاء لم يبك مخافة الجزع ، وبقي لسانه للذكر وقلبه للمعرفة والشكر ، وكان يرى أمعاءه وعروقه وعظامه ، وكان مرضه أنه خرج في جميع جسده ثآليل كأليات الغنم ، ووقعت به حكة لا يملكها ، فحك بأظفاره حتى سقطت ، ثم بالمسوح ، ثم بالحجارة ، فأنتن جسمه وتقطع ، وأخرجه أهل القرية ، فجعلوا له عريشا على كناسة ، ورفضه الخلق سوى زوجته ، واسمها رحمة بنت إفراييم بن يوسف بن يعقوب  ، فكانت تختلف إليه بما يصلحه . وروى أبو بكر القرشي  عن  الليث بن سعد  ، قال : كان ملك يظلم الناس ، فكلمه في ذلك جماعة من الأنبياء ، وسكت عنه أيوب  لأجل خيل كانت له في سلطانه ، فأوحى الله إليه : تركت كلامه من أجل خيلك ؟ لأطيلن بلاءك  . 
واختلفوا في مدة لبثه في البلاء على أربعة أقوال : 
أحدها : ثماني عشرة سنة ، رواه  أنس بن مالك  عن النبي صلى الله عليه وسلم . 
والثاني : سبع سنين ، قاله  ابن عباس  ،  وكعب  ،  ويحيى بن أبي كثير   .  [ ص: 377 ] 
والثالث : سبع سنين وأشهر ، قاله  الحسن   . 
والرابع : ثلاث سنين ، قاله  وهب   . 
وفي سبب سؤاله العافية ستة أقوال : 
أحدها : [ أنه ] اشتهى إداما ، فلم تصبه امرأته حتى باعت قرنا من شعرها ، فلما علم ذلك قال : " مسني الضر   " ، رواه  الضحاك  عن  ابن عباس   . 
والثاني : أن الله تعالى أنساه الدعاء مع كثرة ذكره الله ، فلما انتهى أجل البلاء ، يسر له الدعاء فاستجاب له ، رواه  العوفي  عن  ابن عباس   . 
والثالث : أن نفرا من بني إسرائيل مروا به ، فقال بعضهم لبعض : ما أصابه هذا إلا بذنب عظيم ، فعند ذلك قال : " مسني الضر   " ، قاله نوف البكالي   . وقال عبد الله بن عبيد بن عمير   : كان له أخوان ، فأتياه يوما ، فوجدا ريحا ، فقالا : لو كان الله علم منه خيرا ما بلغ به كل هذا ، فما سمع شيئا أشد عليه من ذلك ، فقال : اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدقني ، فصدق وهما يسمعان ، ثم قال : اللهم إن كنت تعلم أني لم ألبس قميصا وأنا أعلم مكان عار فصدقني ، فصدق وهما يسمعان ، فخر ساجدا ، ثم قال : اللهم لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي ، فكشف الله عز وجل ما به . 
والرابع : أن إبليس جاء إلى زوجته بسخلة ، فقال : ليذبح أيوب  هذه لي وقد برأ ، فجاءت فأخبرته ، فقال : إن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة ، أمرتني أن أذبح لغير الله ! ثم طردها عنه ، فذهبت ، فلما رأى أنه لا طعام له ولا شراب ولا صديق ، خر ساجدا وقال : " مسني الضر   " ، قاله  الحسن   . 
والخامس : أن الله تعالى أوحى إليه وهو في عنفوان شبابه : إني مبتليك ،  [ ص: 378 ] قال : يا رب ; وأين يكون قلبي ؟ قال : عندي ، فصب عليه من البلاء ما سمعتم ، حتى إذا بلغ البلاء منتهاه ، أوحى إليه أني معافيك . قال : يا رب ; وأين يكون قلبي ؟ قال : عندك . قال : " مسني الضر   " ، قاله  إبراهيم بن شيبان القرميسي  فيما حدثنا به عنه  . 
والسادس : أن الوحي انقطع عنه أربعين يوما ، فخاف هجران ربه ، فقال : " مسني الضر   " ، ذكره  الماوردي   . 
فإن قيل : أين الصبر وهذا لفظ الشكوى ؟ 
فالجواب : أن الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر ، وإنما المذموم الشكوى إلى الخلق ، ألم تسمع قول يعقوب   : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله   [ يوسف : 86 ] . قال  سفيان بن عيينة   : وكذلك من شكا إلى الناس ، وهو في شكواه راض بقضاء الله ، لم يكن ذلك جزعا ، ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل  في مرضه : " أجدني مغموما " ، و " أجدني مكروبا " ، وقوله : " بل أنا وا رأساه "  . 
قوله تعالى : " وآتيناه أهله   " يعني : أولاده ، " ومثلهم معهم   " فيه أربعة أقوال : 
أحدها : أن الله تعالى أحيا له أهله بأعيانهم ، وآتاه مثلهم معهم في الدنيا ، قاله  ابن مسعود  ،  والحسن  ،  وقتادة   . وروى  أبو صالح  عن  ابن عباس   : كانت  [ ص: 379 ] امرأته ولدت له سبعة بنين وسبع بنات ، فنشروا له ، وولدت له امرأته سبعة بنين وسبع بنات  . 
والثاني : أنهم كانوا قد غيبوا عنه ولم يموتوا ، فآتاه إياهم في الدنيا ومثلهم معهم في الآخرة ، رواه هشام  عن  الحسن   . 
والثالث : آتاه الله أجور أهله في الآخرة ، وآتاه مثلهم في الدنيا ، قاله نوف   ومجاهد   . 
والرابع : آتاه أهله ومثلهم معهم في الآخرة ، حكاه  الزجاج   . 
قوله تعالى : " رحمة من عندنا   " ; أي : فعلنا ذلك به رحمة من عندنا ، " وذكرى   " ; أي : عظة للعابدين . قال  محمد بن كعب   : من أصابه بلاء فليذكر ما أصاب أيوب  ، فليقل : إنه قد أصاب من هو خير مني . 
قوله تعالى : " وذا الكفل   " اختلفوا ، هل كان نبيا أم لا ؟ على قولين : 
أحدهما : أنه لم يكن نبيا ، ولكنه كان عبدا صالحا ، قاله  أبو موسى الأشعري   ومجاهد   . ثم اختلف أرباب هذا القول في علة تسميته بذي الكفل على ثلاثة أقوال : أحدها : أن رجلا كان يصلي كل يوم مائة صلاة فتوفي ، فكفل بصلاته ، فسمي ذا الكفل ، قاله  أبو موسى الأشعري   . والثاني : أنه تكفل للنبي بقومه أن يكفيه أمرهم ، ويقيمه ويقضي بينهم بالعدل ، ففعل ، فسمي ذا الكفل ، قاله  مجاهد   . والثالث : أن ملكا قتل في يوم ثلاثمائة نبي ، وفر منه مائة نبي ، فكفلهم ذو الكفل يطعمهم ويسقيهم حتى أفلتوا ، فسمي ذا الكفل ، قاله ابن السائب  . 
والقول الثاني : أنه كان نبيا ، قاله  الحسن   وعطاء   . قال  عطاء   :  [ ص: 380 ] أوحى الله تعالى [ إلى ] نبي من الأنبياء : إني أريد قبض روحك ، فاعرض ملكك على بني إسرائيل ، فمن تكفل لك بأنه يصلي الليل لا يفتر ، ويصوم النهار لا يفطر ، ويقضي بين الناس ولا يغضب ، فادفع ملكك إليه ، ففعل ذلك ، فقام شاب فقال : أنا أتكفل لك بهذا ، فتكفل به ، فوفى ، فشكر الله له ذلك ونبأه ، وسمي ذا الكفل  . وقد ذكر  الثعلبي  حديث  ابن عمر  عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفل : " أنه كان رجلا لا ينزع عن ذنب ، وأنه خلا بامرأة ليفجر بها ، فبكت وقالت : ما فعلت هذا قط ، فقام عنها تائبا ، ومات من ليلته ، فأصبح مكتوبا على بابه : قد غفر الله للكفل " ، والحديث معروف ، وقد ذكرته في " الحدائق " ، فجعله  الثعلبي  أحد الوجوه في بيان ذي الكفل ، وهذا غلط ; لأن ذلك اسمه الكفل ، والمذكور في القرآن يقال له : ذو الكفل ، ولأن الكفل مات في ليلته التي تاب فيها ، فلم يمض عليه زمان طويل يعالج فيه الصبر عن الخطايا . وإذا قلنا : إنه نبي ، فإن الأنبياء معصومون عن مثل هذا الحال . وذكرت هذا لشيخنا أبي الفضل بن ناصر  رحمه الله تعالى ، فوافقني ، وقال : ليس هذا بذاك . 
قوله تعالى : " كل من الصابرين   " ; أي : على طاعة الله وترك معصيته . " وأدخلناهم في رحمتنا   " في هذه الرحمة ثلاثة أقوال : 
أحدها : أنها الجنة ، قاله  ابن عباس   . والثاني : النبوة ، قاله  مقاتل   . والثالث : النعمة والموالاة ، حكاه  أبو سليمان الدمشقي   . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					