ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون . حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون . وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون . وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون . وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين . فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين . وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين .
قوله تعالى: ويوم يحشر أعداء الله وقرأ "نحشر" بالنون "أعداء" بالنصب . نافع:
[ ص: 250 ] قوله تعالى: فهم يوزعون أي: يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا .
حتى إذا ما جاءوها يعني النار التي حشروا إليها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم ، وفي المراد بالجلود ثلاثة أقوال . أحدها: الأيدي والأرجل . والثاني: الفروج، رويا عن والثالث: أنه الجلود نفسها، حكاه ابن عباس . وقد أخرج الماوردي . في أفراده من حديث مسلم قال: أنس بن مالك كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: "هل تدرون مم أضحك؟" قال: قلنا: الله ورسوله أعلم . قال: "من مخاطبة العبد ربه، يقول: يارب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز علي إلا شاهدا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدا لكن وسحقا، فعنكن كنت أناضل" .
قوله تعالى: قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء أي: مما نطق . وهاهنا تم الكلام . وما بعده ليس من جواب الجلود .
قوله تعالى: وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم روى البخاري في "الصحيحين" من حديث ومسلم قال: ابن مسعود الكعبة، فجاء ثلاثة نفر، قرشي وختناه ثقفيان، أو ثقفي وختناه قرشيان، كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم، فتكلموا بكلام لم أسمعه، [ ص: 251 ] فقال أحدهم: أترون الله يسمع كلامنا هذا؟! فقال الآخران: إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه، وإن لم نرفع لم يسمع، وقال الآخر: إن سمع منه شيئا سمعه كله، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: "وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم . . . . " إلى قوله: "من الخاسرين" . ومعنى "تستترون": تستخفون "أن يشهد" أي: من أن يشهد "عليكم سمعكم" لأنكم لا تقدرون على الاستخفاء من جوارحكم، ولا تظنون أنها تشهد كنت مستترا بأستار ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون قال كان الكفار يقولون: إن الله لا يعلم ما في أنفسنا، ولكنه يعلم ما يظهر، ابن عباس: وذلكم ظنكم أي: أن الله لا يعلم ما تعملون، أرداكم أهلككم .
فإن يصبروا أي: على النار، فهي مسكنهم، وإن يستعتبوا أي: يسألوا أن يرجع لهم إلى ما يحبون، لم يرجع لهم، لأنهم لا يستحقون [ ص: 252 ] ذلك . يقال: أعتبني فلان، أي: أرضاني بعد إسخاطه إياي . واستعتبته، أي: طلبت منه أن يعتب، أي: يرضى .
قوله تعالى: وقيضنا لهم قرناء أي: سببنا لهم قرناء من الشياطين فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم فيه ثلاثة أقوال .
أحدها: ما بين أيديهم: من أمر الآخرة أنه لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب، وما خلفهم: من أمر الدنيا، فزينوا لهم اللذات وجمع الأموال وترك الإنفاق في الخير .
والثاني: ما بين أيديهم: من أمر الدنيا، وما خلفهم: من أمر الآخرة، على عكس الأول .
والثالث: ما بين أيديهم: ما فعلوه، وما خلفهم: ما عزموا على فعله . وباقي الآية [قد] تقدم تفسيره [الإسراء: 16، الأعراف: 38] .