قوله تعالى: (وأنفقوا في سبيل الله) .
هذه الآية نزلت على سبب ، وفيه قولان .
[ ص: 203 ] أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بالتجهز إلى مكة ، قال ناس من الأعراب: يا رسول الله! بماذا نتجهز؟ فوالله ما لنا زاد ولا مال! فنزلت ، قاله ابن عباس .
والثاني: أن الأنصار كانوا ينفقون ويتصدقون ، فأصابتهم سنة ، فأمسكوا; فنزلت ، قاله أبو جبيرة بن الضحاك . والسبيل في اللغة: الطريق . وإنما استعملت هذه الكلمة في الجهاد ، لأنه السبيل الذي يقاتل فيه على عقد الدين . والتهلكة: بمعنى الهلاك ، يقال: هلك الرجل يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة . قال المبرد: وأراد بالأيدي: الأنفس; فعبر بالبعض عن الكل . وفي المراد بالتهلكة هاهنا أربعة أقوال . أحدها: أنها ترك النفقة في سبيل الله ، قاله حذيفة ، وابن عباس ، والحسن ، وابن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك . والثاني: أنها القعود عن الغزو شغلا بالمال ، قاله أبو أيوب الأنصاري . والثالث: أنها القنوط من رحمة الله قاله البراء ، والنعمان بن بشير ، وعبيدة . والرابع: أنها عذاب الله ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
قوله تعالى: (وأحسنوا) فيه ثلاثة أقوال . أحدها: أن معناه: أحسنوا الإنفاق ، وهو قول أصحاب القول الأول . والثاني: أحسنوا الظن بالله ، قاله عكرمة ، وسفيان ، وهو يخرج على قول من قال: التهلكة: القنوط . والثالث: أن معناه: أدوا الفرائض ، رواه سفيان عن أبي إسحاق .
[ ص: 204 ] قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله قال ابن فارس: الحج في اللغة: القصد ، والاعتمار في الحج أصله: الزيارة . قال ثعلب: الحج بفتح الحاء: المصدر ، وبكسرها: الاسم قال: وربما قال الفراء: هما لغتان . وذكر ابن الأنباري في العمرة قولين . أحدهما: الزيارة . والثاني: القصد . وفي إتمامها أربعة أقوال . أحدها: أن معنى إتمامها: أن يفصل بينهما ، فيأتي بالعمرة في غير أشهر الحج ، قاله عمر بن الخطاب ، والحسن ، وعطاء . والثاني: أن يحرم الرجل من دويرة أهله ، قاله علي بن أبي طالب ، وطاووس ، وابن جبير . والثالث: أنه إذا شرع في أحدهما لم يفسخه حتى يتم ، قاله ابن عباس . والرابع: أنه فعل ما أمر الله فيهما ، قاله مجاهد . وجمهور القراء على نصب "العمرة" بإيقاع الفعل عليها . وقرأ الأصمعي عن نافع والقزاز عن أبي عمرو ، والكسائي عن أبي جعفر برفعها ، وهي قراءة ابن مسعود ، وأبي رزين ، والحسن ، والشعبي . وقراءة الجمهور تدل على وجوبها . وممن ذهب إلى أن العمرة واجبة علي ، وابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، وابن سيرين ، وعطاء ، وطاووس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وأحمد ، والشافعي . وروي عن ابن مسعود ، وجابر ، والشعبي ، وإبراهيم ، وأبي حنيفة ، ومالك ، أنها سنة وتطوع .
قوله تعالى: (فإن أحصرتم) قال ابن قتيبة: يقال: أحصره المرض والعدو: إذا منعه من السفر ، ومنه هذه الآية . وحصره العدو: إذا ضيق عليه . وقال الزجاج: يقال للرجل: إذا حبس: قد حصر ، فهو محصور . وللعلماء في هذا الإحصار قولان . أحدهما: أنه لا يكون إلا بالعدو ، ولا يكون المريض محصرا . وهذا مذهب ابن عمر ، وابن عباس ، وأنس ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد . ويدل عليه قوله: (فإذا أمنتم) . والثاني: أنه يكون بكل حابس من مرض أو عدو أو عذر ، وهو قول عطاء ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبي حنيفة . وفي الكلام اختصار وحذف ، والمعنى: فإن أحصرتم دون تمام الحج والعمرة فحللتم; فعليكم [ ص: 205 ] ما استيسر من الهدي . ومثله: أو به أذى من رأسه ففدية تقديره: فحلق ، ففدية . والهدي: ما أهدي إلى البيت . وأصله: هدي مشدد ، فخفف ، قاله ابن قتيبة . وبالتشديد يقرأ الحسن ، ومجاهد . وفي المراد ( بما استيسر من الهدي ) ثلاثة أقوال . أحدها: أنه شاة ، قاله علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، وابن جبير ، وإبراهيم ، وقتادة ، والضحاك . والثاني: أنه ما تيسر من الإبل والبقر لا غير ، قاله ابن عمر ، وعائشة ، والقاسم . والثالث: أنه على قدر الميسرة ، رواه طاوس عن ابن عباس . وروي عن الحسن ، وقتادة قالا: أعلاه بدنه ، وأوسطه بقرة ، وأخسه شاة . وقال أحمد: الهدي من الأصناف الثلاثة ، من الإبل والبقر ، والغنم ، وهو قول أبي حنيفة ، رحمه الله ، ومالك ، والشافعي ، رحمهما الله .
قوله تعالى: (حتى يبلغ الهدي محله) قال ابن قتيبة: المحل: الموضع الذي يحل به نحره ، وهو من: حل يحل . وفي المحل قولان . أحدهما: أنه الحرم ، قاله ابن مسعود ، والحسن ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، وابن سيرين ، والثوري ، وأبو حنيفة . والثاني: أنه الموضع الذي أحصر به فيذبحه ويحل ، قاله مالك ، والشافعي ، وأحمد .
قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية هذا نزل على سبب ، وهو أن كعب بن عجرة كثر قمل رأسه حتى تهافت على وجهه ، فنزلت هذه الآية فيه ، فكان يقول: في نزلت خاصة .
فصل
قال شيخنا علي بن عبيد الله: اقتضى قوله: ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله تحريم حلق الشعر ، سواء وجد به الأذى ، أو لم يجد ، حتى نزل: فمن كان منكم [ ص: 206 ] مريضا أو به أذى من رأسه ففدية فاقتضى هذا إباحة حلق الشعر عند الأذى مع الفدية ، فصار ناسخا لتحريمه المتقدم .
ومعنى الآية: فمن كان منكم - أي: من المحرمين ، محصرا كان أو غير محصر - مريضا ، واحتاج إلى لبس أو شيء يحظره الإحرام ، ففعله ، أو به أذى من رأسه فحلق ، ففدية من صيام . وفي الصيام قولان . أحدهما: أنه ثلاثة أيام ، روي في حديث كعب بن عجرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول الجمهور . والثاني: أنه صيام عشرة أيام ، روي عن الحسن وعكرمة ، ونافع . وفي الصدقة قولان . أحدهما: أنه إطعام ستة مساكين ، روي في حديث كعب ، وهو قول من قال الصوم ثلاثة أيام . والثاني: أنها إطعام عشرة مساكين ، وهو قول من أوجب صوم عشرة أيام . والنسك: ذبح شاة ، يقال: نسكت لله ، أي: ذبحت له . وفي النسك لغتان . ضم النون والسين ، وبها قرأ الجمهور ، وضم النون مع تسكين السين ، وهي قراءة الحسن .
قوله تعالى: (فإذا أمنتم) ، أي: من العدو . إذ المرض لا تؤمن معاودته وقال علقمة في آخرين: فإذا أمنتم من الخوف والمرض . فمن تمتع بالعمرة إلى الحج معناه: من بدأ بالعمرة في أشهر الحج ، وأقام الحج من عامه ذلك ، فعليه ما استيسر من الهدي . وهذا قول ابن عمر ، وابن المسيب ، وعطاء ، والضحاك . وقد سبق الكلام فيما استيسر من الهدي . فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج قال الحسن: هي قبل التروية بيوم و [يوم ] التروية ، و [يوم ] عرفة ، وهذا قول عطاء ، والشعبي ، وأبي العالية ، وابن جبير ، وطاووس ، وإبراهيم ، وقد نقل عن علي رضي الله عنه . وقد روي عن الحسن ، وعطاء قالا: في أي العشر شاء صامهن . ونقل عن طاوس ، ومجاهد ، وعطاء ، أنهم قالوا: في أي أشهر الحج شاء فليصمهن . ونقل عن ابن عمر أنه قال: من حين يحرم إلى يوم عرفة . [ ص: 207 ] فصل
فإن لم يجد الهدي ، ولم يصم الثلاثة أيام قبل يوم النحر ، فماذا يصنع؟ قال عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وابن جبير ، وطاووس ، وإبراهيم: لا يجزئه إلا الهدي ولا يصوم . وقال ابن عمر وعائشة: يصوم أيام منى . ورواه صالح عن أحمد ، وهو قول مالك . وذهب آخرون إلى أنه لا يصوم أيام التشريق ، بل يصوم بعدهن . روي عن علي . ورواه المروذي عن أحمد ، وهو قول الشافعي .
فصل
فإن وجد الهدي بعد الدخول في صوم الثلاثة أيام ، لم يلزمه الخروج منه ، وهو قول مالك ، والشافعي . وقال أبو حنيفة: يلزمه الخروج ، وعليه الهدي . وقال عطاء: إن صام يومين ثم أيسر; فعليه الهدي . وإن صام ثلاثة أيام ثم أيسر; فليصم السبعة ، ولا هدي عليه . وفي معنى قوله: (في الحج) قولان . أحدهما: أن معناه: في أشهر الحج . والثاني: في زمان الإحرام بالحج . وفي قوله تعالى: (وسبعة إذا رجعتم) قولان . أحدهما: إذا رجعتم إلى أمصاركم ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وأبو العالية ، والشعبي ، وقتادة . والثاني: إذا رجعتم من حجكم ، وهو قول عطاء ، وسعيد بن جبير ، وأبي حنيفة ، ومالك . قال الأثرم: قلت لأبي عبيد الله ، يعني: أحمد بن حنبل: فصيام السبعة أيام إذا رجع متى يصومهن؟ أفي الطريق ، أم في أهله؟ قال: كل ذلك قد تأوله الناس . قيل لأبي عبد الله: ففرق بينهن ، فرخص في ذلك .
قوله تعالى: تلك عشرة كاملة فيه خمسة أقوال .
أحدها: أن معناه: كاملة في قيامها مقام الهدي ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس ، والحسن . قال القاضي أبو يعلى: وقد كان يجوز أن يظن ظان أن الثلاثة قد قامت مقام الهدي في باب استكمال الثواب ، فأعلمنا الله تعالى أن العشرة بكمالها هي القائمة مقامه .
[ ص: 208 ] . والثاني: أن الواو قد تقوم مقام "أو" في مواضع ، منها قوله: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فأزال الله ، عز وجل احتمال التخيير في هذه الآية بقوله: (تلك عشرة كاملة) وإلى هذا المعنى ذهب الزجاج .
والثالث: أن ذلك للتوكيد وأنشدوا للفرزدق:
ثلاث واثنتان فهن خمس وسادسة تميل إلى شمامي
وقال آخر:
هلا سألت جموع كندة يوم ولوا أين أينا
وقال آخر:
كم نعمة كانت له كم كم وكم
والقرآن نزل بلغة العرب ، وهي تكرر الشيء لتوكيده .
والرابع: أن معناه: تلك عشرة كاملة في الفصل ، وإن كانت الثلاثة في الحج ، والسبعة بعد ، لئلا يسبق إلى وهم أحد أن السبعة دون الثلاثة ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
والخامس: أنها لفظة خبر ومعناها: الأمر ، فتقديره: تلك عشرة فأكملوها .
قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام في المشار إليه بذلك قولان . أحدهما: أنه التمتع بالعمرة إلى الحج . والثاني: أنه الجزاء بالنسك والصيام . واللام من "لمن" في هذا القول بمعنى: "على" . فأما حاضروا المسجد الحرام; فقال ابن عباس ، وطاووس ، ومجاهد: هم أهل الحرم . وقال عطاء: من كان منزله دون المواقيت . قال ابن الأنباري: ومعنى الآية: أن هذا الفرض لمن كان من الغرباء ، وإنما ذكر أهله وهو المراد بالحضور ، لأن الغالب على الرجل أن يسكن حيث أهله ساكنون .


