قوله تعالى: وقال لهم نبيهم إن آية ملكه الآية: العلامة ، فمعناه: علامة تمليك الله إياه (أن يأتيكم التابوت) وهذا من مجاز الكلام ، لأن التابوت يؤتى به ، ولا يأتي ، ومثله (فإذا عزم الأمر) وإنما جاز مثل هذا ، لزوال اللبس فيه ، كما بينا في قوله تعالى: فما ربحت تجارتهم [ البقرة: 16 ] . وروي عن ابن مسعود ، وابن عباس: أنهم قالوا لنبيهم: إن كنت صادقا ، فأتنا بآية تدل على أنه ملك ، فقال لهم ذلك . وقال وهب: خيرهم ، أي آية يريدون ، فقالوا: أن يرد علينا التابوت . قال ابن عباس: كان التابوت من عود الشمشار عليه صفائح الذهب ، وكان يكون مع الأنبياء إذا حضروا قتالا ، قدموه بين أيديهم يستنصرون به ، وفيه السكينة . وقال وهب بن منبه: كان نحوا من ثلاث أذرع في ذراعين . قال مقاتل: فلما تفرقت بنو إسرائيل ، وعصوا الأنبياء ، سلط الله عليهم عدوهم ، فغلبوهم عليه . وفي السكينة سبعة أقوال . أحدها: أنها ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان ، رواه أبو الأحوص عن علي رضي الله عنه . والثاني: أنها دابة بمقدار الهر ، لها عينان لها شعاع ، وكانوا إذا التقى الجمعان ، أخرجت يدها ، ونظرت إليهم ، فيهزم الجيش من الرعب . رواه الضحاك عن ابن عباس ، وقال مجاهد: السكينة لها رأس كرأس الهرة ، وجناحان . والثالث: أنها طست من ذهب [من الجنة ] تغسل فيه قلوب الأنبياء . رواه أبو مالك عن [ ص: 295 ] ابن عباس . والرابع: أنها روح من الله تتكلم ، كانوا إذا اختلفوا في شيء ، كلمتهم وأخبرتهم ببيان ما يريدون ، رواه عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه . والخامس: أن السكينة ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها ، رواه ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح ، وذهب إلى نحوه الزجاج ، فقال: السكينة: من السكون ، فمعناه: فيه ما تسكنون إليه إذا أتاكم . والسادس: أن السكينة معناها هاهنا: الوقار ، رواه معمر عن قتادة . والسابع: أن السكينة: الرحمة . قاله الربيع بن أنس .
وفي البقية تسعة أقوال . أحدها: أنها رضاض الألواح التي تكسرت حين ألقاها موسى وعصاه ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والسدي . والثاني: أنها رضاض الألواح . قاله عكرمة ، ولم يذكر العصا . وقيل: إنما اتخذ موسى التابوت ليجمع رضاض الألواح فيه . والثالث: أنها عصا موسى ، والسكينة ، قاله وهب . والرابع: عصا موسى ، وعصا هارون ، وثيابهما ، ولوحان من التوراة ، والمن ، قاله أبو صالح . والخامس: أن البقية العلم والتوراة ، قاله مجاهد ، وعطاء بن أبي رباح . والسادس: أنها رضاض الألواح ، وقفيز من من في طست من ذهب ، وعصا موسى وعمامته ، قاله مقاتل . والسابع أنه قفيز من من ورضاض [ ص: 296 ] الألواح ، حكاه سفيان الثوري عن بعض العلماء . والثامن: أنها عصا موسى والنعلان . ذكره الثوري أيضا عن بعض أهل العلم . والتاسع: أن المراد بالبقية: الجهاد في سبيل الله ، وبذلك أمروا ، قاله الضحاك .
والمراد بآل موسى ، وآل هارون: موسى وهارون . وأنشد أبو عبيدة:
ولا تبك ميتا بعد ميت أحبة علي وعباس وآل أبي بكر
يريد: أبا بكر نفسه .
قوله تعالى: تحمله الملائكة قرأ الجمهور: "تحمله" بالتاء ، وقرأ الحسن ، ومجاهد ، والأعمش بالياء . وفي المكان الذي حملته منه الملائكة إليهم قولان . أحدهما: أنه كان مرفوعا مع الملائكة بين السماء والأرض ، منذ خرج عن بني إسرائيل ، قاله الحسن . والثاني: أنه كان في الأرض .
وفي أي: مكان كان؟ فيه قولان .
أحدهما: أنه كان في أيدي العمالقة قد دفنوه ، قال ابن عباس: أخذ التابوت قوم جالوت ، فدفنوه في متبرز لهم ، فأخذه الباسور فهلكوا ، ثم أخذه أهل مدينة أخرى ، فأخذهم بلاء ، فهلكوا ، ثم أخذه غيرهم كذلك ، حتى هلكت خمس مدائن ، فأخرجوه على بقرتين ، ووجهوهما إلى بني إسرائيل ، فساقتهما الملائكة .
والثاني: أنه كان في برية التيه ، خلفه فيها يوشع ، ولم يعلموا بمكانه حتى جاءت به الملائكة ، قاله قتادة .
وفي كيفية مجيء الملائكة به قولان .
أحدهما: أنها جاءت به بأنفسها ، قال وهب: قالوا لنبيهم: اجعل لنا وقتا يأتينا فيه ، [ ص: 297 ] فقال: الصبح ، فلم يناموا ليلتهم ، ووافت به الملائكة مع الفجر ، فسمعوا حفيف الملائكة تحمله بين السماء والأرض .
والثاني: أن الملائكة جاءت به على عجلة وثورين ، ذكر عن وهب أيضا . فعلى القول الأول: يكون معنى تحمله: تقله . وعلى الثاني: يكون معنى حملها إياه: تسببها في حمله ، قال الزجاج: ويجوز في اللغة أن يقال: حملت الشيء إذا كنت سببا في حمله .
قوله تعالى: إن في ذلك لآية لكم أي: علامة تدل على تمليك طالوت . قال المفسرون: فلما جاءهم التابوت وأقروا له بالملك ، تأهب للخروج ، فأسرعوا في طاعته ، وخرجوا معه ، فذلك قوله تعالى .


