[ ص: 3159 ] القول في تأويل قوله تعالى : 
[ 41 ] انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون    . 
انفروا خفافا وثقالا  حالان من ضمير المخاطبين ، أي : على أي حال كنتم خفافا في النفور لنشاطكم له ، وثقالا عنه ، لمشقته عليكم ، أو خفافا لقلة عيالكم وأذيالكم ، وثقالا لكثرتها ، أو خفافا من السلاح وثقالا منه ، أو ركبانا ومشاة ، أو شبابا وشيوخا أو مهازيل وسمانا ، واللفظ الكريم يعم ذلك كله ، والمراد حال سهولة النفر وحال صعوبته . 
وقد روي عن ثلة من الصحابة أنهم ما كانوا يتخلفون عن غزاة قط ، ويستشهدون بهذه الآية . 
ولما كانت البعوث إلى الشام  ، قرأ  أبو طلحة  رضي الله عنه سورة براءة حتى أتى على هذه الآية ، فقال : أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبابا ، جهزوني يا بني ! فقال بنوه : يرحمك الله ، قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ، ومع  أبي بكر  حتى مات ، ومع  عمر  حتى مات ، فنحن نغزو عنك فقال : ما سمع عذر أحد ، ثم خرج إلى الشام  فقاتل حتى قتل . 
وكان  أبو أيوب الأنصاري  رضي الله عنه يقرأ هذه الآية ، ويقول : فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا ، ولم يتخلف عن غزاة المسلمين إلا عاما واحدا . 
وقال أبو راشد الحراني   : وافيت المقداد بن الأسود  ، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص  ، وقد فصل عنها يريد الغزو ، فقلت له : قد أعذر الله إليك ، فقال : أتت علينا سورة البعوث : انفروا خفافا وثقالا  
وعن حيان بن زيد  قال : نفرنا مع  صفوان بن عمرو  وكان واليا على حمص   - فرأيت شيخا كبيرا هما ، قد سقط حاجباه على عينيه ، من أهل دمشق  ، على راحلته فيمن أغار ،  [ ص: 3160 ] فأقبلت إليه فقلت : يا عم ! لقد أعذر الله إليك ، قال : فرفع حاجبيه فقال : يا ابن أخي ! استنفرنا الله خفافا وثقالا ، ألا إنه من يحبه الله يبتليه ، ثم يعيده الله فيبقيه . وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ، ولم يعبد إلا الله عز وجل - وروى ذلك كله  ابن جرير   - . 
فرحم الله تلك الأنفس الزكية ، وحياها من بواسل ، باعت أرواحها في مرضاة ربها ، وإعلاء كلمته ، وأكرمت نفسها عن الاغترار بزخارف هذه الحياة الدنية . 
ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله  ، وبذل المهج في مرضاته ، ومرضاة رسوله ، فقال : وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون  ما في اسم الإشارة إلى النفير والجهاد من معنى البعد ، للإيذان ببعد منزلته في الشرف ، والمراد بكونه خيرا ، أنه خير في نفسه ، أو خير من الدعة ، والتمتع بالأموال . 
تنبيه : 
قال  الحاكم   : الجهاد بالمال  ضروب : منها إنفاقه على نفسه في السير في الجهاد ، ومنها صرف ذلك إلى الآلات التي يستعان بها على الجهاد ، ومنها صرفه إلى من ينوب عنه أو يخرج معه . 
وقال بعض مفسري الزيدية   : ذكر المؤيد بالله أن من له فضل مال ، وجب عليه أن يدفعه إلى الإمام ، إن دعت إليه حاجة . 
وذكر الراضي بالله  وجوب دفع ما دعت الحاجة إليه من الأموال في الجهاد ، قليلا كان أو كثيرا ، ويتعين ذلك بتعيين الإمام . 
وأما من طريق الحسبة ، فقال الراضي بالله   : يجب ذلك إن حصل خلل لا يسده إلا المال ، ويدخل في هذا إلزام الضيفة ، وتنزيل الدور ، وقد قال الراضي بالله   : للإمام أن يلزم الرعية على ما يراه من المصلحة . 
 [ ص: 3161 ] وعن المؤيد بالله   : إن للإمام إنزال جيشه دور الرعية إذا لم يتم له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالجند، واحتاجوا إلى ذلك . كما يجوز دخول الدار المغصوبة لإزالة المنكر. 
وكذا ذكر أبو مضر  أنه ينزل في الزائد على حاجة أهل الدور ، وأما من ينزل الدار من جيشه بظلم أو فساد ، فإن عرف ذلك عورض بين مطلب الإمام في دفعه المنكر ، وبين هذا المنكر الواقع من الجند ، أيهما أغلظ . انتهى . 
ثم صرف تعالى الخطاب عن المتخلفين ، ووجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، معددا لما صدر عنهم من الهنات قولا وفعلا ، مبنيا لدناءة همهم في هذا الخطب ، فقال سبحانه : 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					