الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فصل

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الفخر الرازي في (" تفسيره " ) : هذه الرواية باطلة موضوعة ، عند أهل التحقيق . واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول . أما القرآن فوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : قوله تعالى : ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين

                                                                                                                                                                                                                                      وثانيها : قوله : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي

                                                                                                                                                                                                                                      وثالثها : قوله : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى

                                                                                                                                                                                                                                      ورابعها : قوله تعالى : وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا وكلمة كاد عند بعضهم معناها أنه لم يحصل .

                                                                                                                                                                                                                                      وخامسها : قوله : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره . فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل .

                                                                                                                                                                                                                                      وسادسها : إلى قوله : كذلك لنثبت به فؤادك

                                                                                                                                                                                                                                      وسابعها : قوله : سنقرئك فلا تنسى

                                                                                                                                                                                                                                      وأما السنة فهي ما روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة ، أنه سئل عن هذه القصة فقال : هذا وضع من الزنادقة . وصنف فيه كتابا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 4361 ] وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل . ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم . وأيضا فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي عليه السلام قرأ سورة (والنجم ) وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن . وليس فيه حديث الغرانيق . وروي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها البتة حديث الغرانيق .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما المعقول فمن وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : أن من جوز على الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان ، فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان .

                                                                                                                                                                                                                                      وثانيها : أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة آمنا أذى المشركين له طول دعوته . حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه . وإنما كان يصلي ، إذا لم يحضروها ، ليلا ، أو في أوقات خلوة . وذلك يبطل قولهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وثالثها : أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة ، دون أن يقفوا على حقيقة الأمر . فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجدا ؟ مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ورابعها : قوله : فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول ، أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها . فإذا أراد الله إحكام الآيات ، لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآنا ، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلا ، أولى .

                                                                                                                                                                                                                                      وخامسها : وهو أقوى الوجوه ، أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه . وجوزنا [ ص: 4362 ] في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ، ويبطل قوله تعالى : يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي ، وبين الزيادة فيه . فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال ، أن هذه القصة موضوعة .

                                                                                                                                                                                                                                      أكثر ما في الباب أن جمعا من المفسرين ذكرها . لكنهم ما بلغوا حد التواتر . وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أطال الرازي في تفصيل المباحث . ونقل عن أبي مسلم الأصفهاني ما توسع به البحث فانظره إن شئت .

                                                                                                                                                                                                                                      فصل

                                                                                                                                                                                                                                      وكتب الأستاذ الإمام مفتي مصر ، الشيخ محمد عبده رحمه الله في هذه الآية مقالة بديعية ، نقتبس منها شذرات .

                                                                                                                                                                                                                                      قال : يعلم كل ناظر في كتابنا الإلهي (" القرآن " ) ما رفع الإسلام من شأن الأنبياء والمرسلين ، والمنزلة التي أحلهم من حيث هم حملة الوحي وقدوة البشر ، في الفضائل وصالح الأعمال . وتنزيهه إياهم عما رماهم به أعداؤهم وما نسبه إليهم المعتقدون بأديانهم . ولا يخفى على أحد من أهل النظر ، في هذا الدين القويم ، أنه قد قرر عصمة الرسل كافة من الزلل في التبليغ ، والزيغ عن الوجهة التي وجه الله وجوههم نحوها من قول أو عمل . وخص خاتمهم محمدا صلى الله عليه وسلم فوق ذلك بمزايا فصلت في ثنايا الكتاب العزيز . وعصمة الرسل في التبليغ عن الله ، أصل من أصول الإسلام . شهد به الكتاب وأيدته السنة ، وأجمعت عليه الأمة . وما خالف فيه بعض الفرق ، فإنما هو في غير الإخبار عن الله وإبلاغ وحيه إلى خلقه . ذلك الأصل الذي اعتمدت عليه الأديان ، حق لا يرتاب فيه ملي يفهم ما معنى الدين . ومع ذلك لم يعدم الباطل فيه أعوانا يعملون على هدمه وتوهين ركنه . أولئك عشاق الرواة [ ص: 4363 ] وعبدة النقل . نظروا نظرة في قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي وفيما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن تمنى بمعنى قرأ والأمنية القراءة ) فعمي عليهم وجه التأويل ، على فرض صحة الرواية عن ابن عباس ، فذهبوا يطلبون ما به يصح التأويل في زعمهم . فقيض لهم من يروي في ذلك أحاديث تختلف طرقها وتتباين ألفاظها وتتفق في أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بلغ منه أذى المشركين ما بلغ ، وأعرضوا عنه ، وجفاه قومه وعشيرته ، لعيبه أصنامهم وزرايته على آلهتهم ، أخذه الضجر من إعراضهم . ولحرصه على إسلامهم تمنى ألا ينزل عليه ما ينفرهم ، لعله يتخذ ذلك طريقا إلى استمالتهم . فاستمر به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة (والنجم ) إلى آخر ما رواه ابن جرير أولا . وقد شايعه عليه كثير من المفسرين ، وفي طباع الناس إلف الغريب ، والتهافت على العجيب . فولعوا بهذه التفاسير ، ونسوا ما رآه جمهور المحققين في تأويلها . وذهب إليه الأئمة في بيانها .

                                                                                                                                                                                                                                      جاء في صحيح البخاري : وقال ابن عباس في : إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته . ويقال : (أمنيته قراءته ) : إلا أماني يقرؤون ولا يكتبون . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      فتراه حكى تفسير الأمنية بالقراءة بلفظ (يقال ) بعدما فسرها بالحديث رواية عن ابن عباس . وهذا يدل على المغايرة بين التفسيرين . فما يدعيه الشراح أن الحديث في رأي ابن عباس بمعنى التلاوة يخالف ظاهر العبارة . ثم حكاية تفسير الأمنية بمعنى القراءة بلفظ (يقال ) يفيد أنه غير معتبر عنده . وسيأتي أن المراد بالحديث حديث النفس .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال صاحب الإبريز : إن تفسير (تمنى ) بمعنى : (قرأ ) ، و(الأمنية ) بمعنى : (القراءة ) مروي عن ابن عباس في نسخة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . ورواها علي بن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . وقد علم ما للناس [ ص: 4364 ] في ابن أبي صالح كاتب الليث ، وأن المحققين على تضعيفه . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا ما في الرواية عن ابن عباس وهي أصل هذه الفتنة وقد رأيت أن المحققين يضعفون راويها . وأما قصة الغرانيق ، فمع ما فيها من الاختلاف ، فقد طعن فيها غير واحد من الأئمة ، حتى قال ابن إسحاق : إنها من وضع الزنادقة . كما تقدم عن الرازي ، ونحوه عن القاضي عياض رحمه الله ، من وهنها وسقوطها من عدة أوجه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما ما ذكره ابن حجر من أن القصة رويت مرسلة من طرق على شرط الصحيح ، وأنه يحتج بها من يرى الاحتجاج بالمرسل ، فقد ذهب عليه كما قال في الإبريز ; أن العصمة من العقائد التي يطلب فيها اليقين . فالحديث الذي يريد خرمها ونقضها ، لا يقبل على أي وجه جاء . وقد عد الأصوليون الخبر الذي يكون على تلك الصفة ، من الأخبار التي يجب القطع بكذبها . هذا لو فرض اتصال الحديث ، فما ظنك بالمراسيل ؟ وإنما الخلاف في الاحتجاج بالمرسل وعدم الاحتجاج به ، فيما هو من قبيل الأعمال وفروع الأحكام ، لا في أصول العقائد ومعاقد الإيمان بالمرسل وما جاءوا به . فهي هفوة من ابن حجر يغفرها الله له .

                                                                                                                                                                                                                                      هذا ما قاله الأئمة ، جزاهم الله خيرا ، في بيان فساد هذه القصة ، وأنها لا أصل لها . ولا عبرة برأي من خالفهم . فلا يعتد بذكرها في بعض كتب التفسير ، وإن بلغ أربابها من الشهرة ما بلغوا . وشهرة المبطل في بطله ، لا تنفخ القوة في قوله . ولا تحمل على الأخذ برأيه .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال الأستاذ رحمه الله : والآن أرجع إلى تفسير الآيات على الوجه الذي تحتملها ألفاظها وتدل عليه عباراتها . والله أعلم :

                                                                                                                                                                                                                                      لا يخفى على كل من يفهم اللغة العربية ، وقرأ شيئا من القرآن ، أن قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الآيات ، يحكي قدرا قدر للمرسلين كافة ، لا يعدونه ولا يقفون دونه . ويصف شنشنة عرفت فيهم ، وفي أممهم . فلو صح ما قال أولئك المفسرون لكان المعنى : أن جميع الأنبياء والمرسلين قد سلط الشيطان عليهم فخلط في الوحي المنزل [ ص: 4365 ] إليهم . ولكنه بعد هذا الخلط ينسخ الله كلام الشيطان ويحكم الله آياته إلخ ، وهذا من أقبح ما يتصور متصور في اختصاص الله تعالى لأنبيائه ، واختيارهم من خاصة أوليائه ! فلندع هذا الهذيان ، ولنعد إلى ما نحن بصدده .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية