القول في تأويل قوله تعالى : 
[ 161 ] وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون   
وما كان لنبي أن يغل  قرئ بالبناء للمعلوم ، أي : ما صح وما تأتى لنبي من الأنبياء أن يخون في المغنم ، بعد مقام النبوة وعصمة الأنبياء عن جميع الرذائل ، وعن تأثير دواعي النفس والشيطان فيهم ؛ وبالبناء للمجهول ، أي : ما صح أن ينسـب إلى الغلول ويخون . روى  أبو داود   والترمذي  عن  ابن عباس  قال : نزلت هذه الآية : وما كان لنبي أن يغل   في قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر  ، فقال بعض الناس : لعل رسول الله أخذها ، فأنزل الله : وما كان لنبي  الآية  . قال  الترمذي :  حسن غريب . ورواه  ابن مردويه  عن  ابن عباس  أيضا ، ولفظه : اتهم المنافقون رسول الله بشيء فقد ، فأنزل الله تعالى : وما كان لنبي  الآية . وهذا تنزيه لمقامه - صلى الله عليه وسلم - الرفيع ، وتنبيه على عصمته . ثم أشار إلى وعيد الغلول بقوله : ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة  أي : بعينه ، حاملا له على ظهره ، ليفتضح في المحشر ، كما روى الشيخان عن  أبي هريرة  قال : قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ، فذكر الغلول ، فعظمه وعظم أمره ، ثم قال : « لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ،  [ ص: 1025 ] لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك - لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك - لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقاع تخفق ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئا قد بلغت »  . لفظ  مسلم .  وروى  البخاري  عن  عبد الله بن عمرو بن العاص  قال : كان على ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل يقال له :  ( كركرة )  فمات ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، هو في النار ، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها . وعن زيد بن خالد الجهني  أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي يوم خيبر ، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : « صلوا على صاحبكم » ، فتغيرت وجوه الناس لذلك ، فقال : إن صاحبكم غل في سبيل الله ، ففتشـنا متاعه ، فوجدنا خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين - أخرجه  أبو داود   والنسائي   - وروى  عبد الله ابن الإمام أحمد  عن  عبادة بن الصامت  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ الوبرة من جنب البعير من المغنم فيقول : « ما لي فيه إلا مثل ما لأحدكم منه . إياكم والغلول ، فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة ، أدوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد في الحضر والسفر . فإن الجهاد باب من أبواب الجنة . إنه لينجي الله تبارك وتعالى به من الهم والغم ، وأقيموا حدود الله في  [ ص: 1026 ] القريب والبعيد ، ولا تأخذكم في الله لومة لائم »  . وروى ابن ماجة  بعضه . وروى الإمام  أحمد  عن  عبد الله بن عباس  قال : حدثني  عمر بن الخطاب  قال : لما كان يوم خيبر ، أقبل نفر من صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : فلان شهيد . فلان شهيد . حتى أتوا على رجل فقالوا : فلان شهيد . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « كلا إني رأيته في النهار في بردة غلها أو عباءة » . ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « يا ابن الخطاب ! اذهب فناد في الناس إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون » ، قال : فخرجت فناديت : ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون . وكذا رواه  مسلم   والترمذي .  وروى  أبو داود  عن  سمرة بن جندب  قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غنم غنيمة أمر  بلالا  فينادي في الناس ، فيجوزوا بغنائمهم فيخمسه ويقسمه ، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال : يا رسول الله هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة . فقال : « أسمعت بلالا  ينادي ثلاثا ؟ » قال : نعم . قال : « فما منعك أن تجيء ؟ » فاعتذر . فقال : « كن أنت تجيء به يوم القيامة ، فلن أقبله منك »  . 
تنبيه : 
من المفسرين من جعل الإتيان بالغلول يوم القيامة مجازا عن الإتيان بإثمه تعبيرا بما غل عما لزمه من الإثم مجازا . قال أبو مسلم :  المراد أن الله تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه لأنه لا يخفى عليه خافية . وقال  أبو القاسم الكعبي :  المراد أنه يشتهر بذلك ، مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء . وناقشهما الرازي  بأن هذا التأويل يحتمل ، إلا أن الأصل المعتبر في علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة ، إلا إذا قام دليل يمنعه منه ، وههنا لا مانع من الظاهر ، فوجب إثباته - انتهى . ومما يؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم - : « له رغاء ، له حمحمة ... »  ... إلخ الظاهر في الحقيقة زيادة في النكال . 
 [ ص: 1027 ] ثم توفى كل نفس ما كسبت  تعطى جزاء ما كسبت وافيا ، وإنما عمم الحكم ولم يقل : ثم يوفى ما كسب ، ليكون كالبرهان على المقصود ، والمبالغة فيه ، فإنه إذا كان كل كاسب مجزيا بعمله ، فالغال ، مع عظم جرمه بذلك أولى : وهم  أي : الناس المدلول عليهم بكل نفس : لا يظلمون  فلا ينقص ثواب مطيعهم ، ولا يزاد في عقاب عاصيهم . 
				
						
						
