الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه:

                                                                                                                                                                                                                                      يشتمل قوله تعالى: فدية مسلمة تسليمها حالة ومؤجلة، إلا أن الإجماع قد وقع على أن دية الخطأ مؤجلة على العاقلة ، ولكن اختلفوا في مقدار الأجل، فذهب الأكثر إلى أن الأجل ثلاث سنين، وقال ربيعة: إلى خمس.

                                                                                                                                                                                                                                      وحكى في "البحر" عن بعض الناس بعد حكايته للإجماع السابق أنها تكون حالة؛ إذ لم يرو عنه - صلى الله عليه وسلم - تأجيلها، قال في "البحر" قلنا: روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين ، وقاله عمر وابن عباس ، ولم ينكر. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشافعي في "المختصر": لا أعلم مخالفا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الرافعي : تكلم أصحابنا في ورود الخبر بذلك، فمنهم من قال: ورد، ونسبه إلى رواية علي - عليه السلام - ومنهم من قال: ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدية على العاقلة ، وأما التأجيل فلم يرد به الخبر، وأخذ ذلك من إجماع الصحابة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن المنذر : ما ذكره الشافعي لا نعرفه أصلا من كتاب ولا سنة، وقد سئل عن ذلك أحمد بن حنبل فقال: لا نعرف فيه شيئا، فقيل: إن أبا عبد الله - يعني الشافعي - رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لعله سمعه من ذلك المدني، فإنه كان حسن الظن به [ ص: 1448 ] يعني إبراهيم بن أبي يحيى، وتعقبه ابن الرفعة: بأن من عرف حجة على من لم يعرف.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى البيهقي من طريق ابن لهيعة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب، قال: من السنة أن تنجم الدية في ثلاث سنين، وقد وافق الشافعي على نقل الإجماع الترمذي في "جامعه" وابن المنذر ، فحكى كل واحد منهما الإجماع. كذا في "نيل الأوطار".

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: إلا أن يصدقوا أي: إلا أن يتصدق أولياء المقتول بالدية على القاتل فلا تجب عليه، وسمي العفو عنها صدقة؛ حثا عليه وتنبيها على فضله.

                                                                                                                                                                                                                                      قال السيوطي في "الإكليل": فيها (أي: هذه الآية) تعظيم قتل المؤمن والإثم فيه، ونفيه عن الخطأ، وأن في قتل الخطأ كفارة ودية لا قصاص، وأن الدية مسلمة إلى أهل المقتول، إلا أن يصدقوا بها، أي: يبرؤوا منها، ففيه جواز الإبراء من أهل الدية، مع أنها مجهولة.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله (مسلمة) دون (يسلمها) إشارة إلى أنها على عاقلة القاتل، ذكره سعيد بن جبير ، أخرجه ابن أبي حاتم ، واستدل بقوله: إلى أهله على أن الزوجة ترث منها؛ لأنها من جملة الأهل خلافا للظاهرية، واحتج بها من أجاز إرث القاتل منها؛ لأنه من أهله، واحتج الظاهرية بقوله: إلا أن يصدقوا على أن المقتول ليس له العفو عن الدية؛ لأن الله جعل ذلك لأهله خاصة، وعموم الآية شامل للإمام إذا قتل خطأ، خلافا لمن قال: لا شيء عليه ولا على عاقلته، واستدل بعمومها أيضا من قال: إن في قتل العبد الدية والكفارة، وإن على الصبي والمجنون إذا قتلا الكفارة، وإن المشارك في القتل عليه كفارة كاملة. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن كان أي: المقتول خطأ من قوم عدو لكم أي: محاربين وهو مؤمن فلم يعلم به القاتل لكونه بين أظهر قومه بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم، أو بأن أتاهم بعدما فارقهم لمهم من المهمات.

                                                                                                                                                                                                                                      فتحرير رقبة مؤمنة أي: فعلى قاتله الكفارة، لحق الله دون الدية، فإنها ساقطة، إذ لا إرث بينه وبين أهله؛ لأنهم محاربون.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام زيد بن علي بن الحسين - عليهم السلام -: لا تؤدى الدية إليهم؛ لأنهم يتقوون بها، ومعلوم أن سقوط الدية لمن هذه حاله أخذا من إيجاب الله تعالى على قاتله الكفارة، ولم يذكر الدية كما ذكرها في أول الآية [ ص: 1449 ] وآخرها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى الحاكم وغيره، عن ابن عباس في هذه الآية قال: كان الرجل يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يرجع إلى قومه وهم مشركون: فيصيبه المسلمون في سرية أو غزاة، فيعتق الذي يصيبه رقبة.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن كان أي: المقتول خطأ من قوم أي: كفرة بينكم وبينهم ميثاق أي: عهد من هدنة أو أمان، أي: كان على دينهم ومذهبهم فدية أي: فعلى قاتله دية مسلمة إلى أهله إذ هم كالمسلمين في الحقوق.

                                                                                                                                                                                                                                      وتحرير رقبة مؤمنة لحق الله تعالى، وتقديم الدية ههنا مع تأخيرها فيما سلف؛ للإشعار بالمسارعة إلى تسليم الدية؛ تحاشيا عن توهم نقض الميثاق.

                                                                                                                                                                                                                                      قال السيوطي : روى الحاكم وغيره، عن ابن عباس في قوله تعالى: وإن كان من قوم بينكم إلخ: هو الرجل يكون معاهدا ويكون قومه أهل عهد، فتسلم إليهم الدية، ويعتق الذي أصابه رقبة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال السيوطي : ففيه أن المقتول إذا كان من أهل الذمة والعهد ففيه دية مسلمة إلى أهله مع الكفارة، وفيه رد على من قال: لا كفارة في قتل الذمي ، والذين قالوا ذلك قالوا: إن الآية في المؤمن الذي أهله أهل عهد، وقالوا: إنهم أحق بديته لأجل عهدهم، ويرده تفسير ابن عباس المذكور، وأنه تعالى لم يقل فيه: وهو مؤمن، كما قال في الذي قبله. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية