القول في تأويل قوله تعالى:
[75] ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون
ما المسيح أي: المعلوم حدوثه من كونه: ابن مريم بالخوارق الظاهرة على [ ص: 2102 ] يديه. إلا رسول قد خلت أي: مضت: من قبله الرسل أولو الخوارق الباهرة. فله أسوة أمثاله. كما قال تعالى: إن هو إلا عبد أنعمنا عليه أي: ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا قبله، جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها. إن أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على يده، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى وفلق بها البحر على يد موسى. وهو أعجب. وإن خلقه من غير أب فقد خلق آدم من غير أب ولا أم. وهو أغرب منه، وفي الآية وجه آخر: أي: مضت من قبله الرسل، فهو يمضي مثلهم. فالجملة - على كل - منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية: وأمه صديقة أي: مبالغة في الصدق. ووقع اسم الصديقة عليها لقوله تعالى: وصدقت بكلمات ربها وكتبه والوصف بذلك مشعر بالإغراق في العبودية والقيام بمراسمها. فمن أين لهم أن يصفوها بما يباين وصفها؟
تنبيه:
قال ابن كثير:
دلت الآية على أن مريم ليست بنبية. كما زعمه ابن حزم وغيره - ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق ونبوة أم موسى ونبوة أم عيسى - استدلالا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم وبقوله: وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه وهذا معنى النبوة. والذي عليه الجمهور قال الله تعالى: أن الله لم يبعث نبيا إلا من الرجال. وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى وقد حكى الشيخ رحمه الله، الإجماع على ذلك. انتهى. أبو الحسن الأشعري،
[ ص: 2103 ] فائدة (في حقيقة الصديق والصدق):
قال العارف القاشاني قدس الله سره في "لطائف الأعلام":
الصديق الكثير الصدق. كما يقال: سكيت وصريع إذا كثر منه ذلك.
الصديق من الناس من كان كاملا في تصديقه لما جاءت به رسل الله علما وعملا، قولا وفعلا وليس يعلو على مقام الصديقية إلا مقام النبوة. بحيث إن من تخطى مقام الصديقية حصل في مقام النبوة. قال الله تعالى: أولئك الذين أنعم الله عليهم الآية. فلم يجعل تعالى بين مرتبتي النبوة والصديقية مرتبة أخرى تتخللهما. ثم بين قدس سره صدق الأقوال، وصدق الأفعال، وصدق الأحوال.
فالأول: هو موافقة الضمير للنطق. قال الجنيد: حقيقة الصدق أن تصدق في مواطن لا ينجيك فيه إلا الكذب. وصدق الأفعال: هو الوفاء لله بالعمل من غير مداهنة. قال المحاسبي: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل إصلاح قلبه. ولا يحب اطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله. ولا يكره أن يطلع الناس على السيئ من حاله؛ لأن كراهته لذلك دليل على أنه يجب الزيادة عندهم. وليس هذا من أخلاق الصديقين.
وصدق الأحوال: اجتماع الهم على الحق، بحيث لا يختلج في القلب بفرقة عن الحق بوجه.
وقوله تعالى: كانا يأكلان الطعام استئناف مبين لما قبله من أنهما كسائر البشر في الافتقار إلى الغذاء. وفيه تبعيد عما نسب إليهما.
قال لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام، وما يتبعه من الهضم والنفض، لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة، مع شهوة وقرم وغير ذلك... مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام. الزمخشري:
[ ص: 2104 ] لطيفة:
إنما أخر في الاستدلال على بطلان مذهب النصارى، حاجتهما للطعام عما قبله من مساواتهما للرسل عليهم السلام، ترقيا في باب الاستدلال من الجلي للأجلى، على ما هو القاعدة في سوق البراهين لإلزام الخصم، حتى إذا لم يسلم في الجلي لغموضه عليه، يورد له الأجلى تعريضا بغباوته. فيضطر للتسليم، إن لم يكن معاندا ولا مكابرا.
هذا ما ظهر لي في سر التقديم والتأخير.
وأما قول الخفاجي - ملخصا كلام - في سر ذلك: أنه تعالى بين أولا أقصى مراتب كمالهما، وأنه لا يقتضي الألوهية، وقدمه لئلا يواجههما بذكر نقائص البشرية الموجبة لبطلان ما ادعوا فيهما، على حد قوله تعالى: البيضاوي عفا الله عنك لم أذنت لهم حيث قدم العفو على المعاتبة له صلى الله عليه وسلم. انتهى - فبعيد.
وقياسه على الآية قياس مع الفارق لاختلاف المقامين. فالأظهر ما ذكرناه، والله أعلم بأسرار كتابه.
انظر كيف نبين لهم الآيات أي: على توحيد الله، وبطلان الاتحاد وإلهية عيسى وأمه، وبطلان شبهاتهم!: ثم انظر أنى يؤفكون أي: كيف يصرفون عن التأمل فيها إلى الإصرار على التمسك بالشبهات الظاهرة البطلان!
قال أبو السعود: وتكرير الأمر بالنظر، للمبالغة في التعجيب من حال الذين يدعون لهما الربوبية، ولا يرعوون عن ذلك، بعد ما بين لهم حقيقة حالهما بيانا لا يحوم حوله شائبة ريب، وثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت. أي: إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه، بالغ لأقاصي الغايات القاصية من التحقيق والإيضاح. وإعراضهم عنها - مع انتفاء ما يصححه بالمرة، وتعاضد ما يوجب قبولها - أعجب وأبدع.