ولما جاءت " مسألة القرآن " وأنه كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود   : نازع بعضهم في كونه منه بدأ وإليه يعود وطلبوا تفسير ذلك فقلت : أما هذا القول : فهو المأثور والثابت عن السلف   . مثل ما نقله عمرو بن دينار  قال : أدركت الناس منذ سبعين سنة يقولون : الله الخالق وما سواه مخلوق ; إلا القرآن فإنه كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود . 
ومعنى منه بدأ أي هو المتكلم به وهو الذي أنزله من لدنه ليس هو كما تقوله الجهمية  أنه خلق في الهواء أو غيره وبدأ من غيره . وأما إليه يعود : فإنه يسري به في آخر الزمان من المصاحف والصدور  [ ص: 199 ] فلا يبقى في الصدور منه كلمة ولا في المصاحف منه حرف . ووافق على ذلك غالب الحاضرين . 
فقلت : هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " { ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه  } " : يعني القرآن . 
وقال خباب بن الأرت   : يا هنتاه تقرب إلى الله بما استطعت ; فلن يتقرب إلى الله بشيء أحب إليه مما خرج منه . 
وقلت : وأن الله تكلم به حقيقة ، وأن هذا القرآن الذي أنزله الله على محمد  صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة ; لا كلام غيره ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة ; بل إذا قرأ الناس القرآن أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة . فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا . لا إلى من قاله مبلغا مؤديا . فامتعض بعضهم من إثبات كونه كلام الله حقيقة بعد تسليمه أن الله تكلم به حقيقة ثم إنه سلم ذلك لما بين له أن المجاز يصح نفيه ; وهذا لا يصح نفيه وأن أقوال المتقدمين المأثورة عنهم وشعر الشعراء المضاف إليهم هو كلامهم حقيقة . 
ولما ذكرت فيها أن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا لا إلى من قاله مبلغا استحسنوا هذا الكلام وعظموه . وذكرت ما أجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته ; لا يحتاج إلى تحريف ولكن يصان عن الظنون الكاذبة  [ ص: 200 ] وليس معنى قوله { وهو معكم أين ما كنتم   }  أنه مختلط بالخلق فإن هذا لا توجبه اللغة وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة  وخلاف ما فطر الله عليه الخلق بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته ; وهو موضوع في السماء وهو مع المسافر أينما كان . 
				
						
						
