[ ص: 173 ] إذا تبين هذا : من هذا الباب كما قدمناه فإن من كتب مسير الشمس والقمر بحروف " أبجد " ونحوها وحسب كم مضى من مسيرها ومتى يلتقيان ليلة الاستسرار ومتى يتقابلان ليلة الإبدار ونحو ذلك فليس في هذا الكتاب والحساب من الفائدة إلا ضبط المواقيت التي يحتاج الناس إليها في تحديد الحوادث والأعمال ونحو ذلك . كما فعل ذلك فكتاب أيام الشهر وحسابه وكما يحسبون مسير الشمس والقمر : ويعدلون ذلك ويقومونه بالسير الأوسط حتى يتبين لهم وقت الاستسرار والإبدار وغير ذلك فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنا أيتها الأمة الأمية لا نكتب هذا الكتاب ولا نحسب هذا الحساب فعاد كلامه إلى نفي الحساب والكتاب فيما يتعلق بأيام الشهر الذي يستدل به على استسرار الهلال وطلوعه . غيرنا من الأمم فضبطوا مواقيتهم بالكتاب والحساب كما يفعلونه بالجداول أو بحروف الجمل
وقد قدمنا فيما تقدم أن النفي وإن كان على إطلاقه يكون عاما فإذا كان في سياق الكلام ما يبين المقصود علم به المقصود أخاص هو أم عام ؟ فلما قرن ذلك بقوله : { } و { الشهر ثلاثون } بين أن المراد به أنا لا نحتاج في أمر الهلال إلى كتاب ولا [ ص: 174 ] حساب إذ هو تارة كذلك وتارة كذلك . والفارق بينهما هو الرؤية فقط ليس بينها فرق آخر من كتاب ولا حساب كما سنبينه . الشهر تسعة وعشرون وإنما يقربوا ذلك فيصيبون تارة ويخطئون أخرى . فإن أرباب الكتاب والحساب لا يقدرون على أن يضبطوا الرؤية بضبط مستمر
وظهر بذلك أن الأمية المذكورة هنا صفة مدح وكمال من وجوه : من جهة الاستغناء عن الكتاب والحساب بما هو أبين منه وأظهر وهو الهلال . ومن جهة أن الكتاب والحساب هنا يدخلهما غلط . ومن جهة أن فيهما تعبا كثيرا بلا فائدة فإن ذلك شغل عن المصالح إذ هذا مقصود لغيره لا لنفسه وإذا كان نفي الكتاب والحساب عنهم للاستغناء عنه بخير منه وللمفسدة التي فيه كان الكتاب والحساب في ذلك نقصا وعيبا بل سيئة وذنبا فمن دخل فيه فقد خرج عن الأمة الأمية فيما هو من الكمال والفضل السالم عن المفسدة ودخل في أمر ناقص يؤديه إلى الفساد والاضطراب .
وأيضا فإنه جعل هذا وصفا للأمة . كما جعلها وسطا في قوله تعالى { جعلناكم أمة وسطا } فالخروج عن ذلك اتباع غير سبيل المؤمنين .
[ ص: 175 ] وأيضا فالشيء إذا كان صفة للأمة لأنه أصلح من غيره ; ولأن غيره فيه مفسدة : كان ذلك مما يجب مراعاته ولا يجوز العدول عنه إلى غيره لوجهين : لما فيه من المفسدة ولأن صفة الكمال التي للأمة يجب حفظها عليها . فإن كان الواحد لا يجب عليه في نفسه تحصيل المستحبات فإن كل ما شرع للأمة جميعا صار من دينها وحفظ مجموع الدين واجب على الأمة فرض عين أو فرض كفاية . ولهذا وجب على مجموع الأمة حفظ جميع الكتاب وجميع السنن المتعلقة بالمستحبات والرغائب وإن لم يجب ذلك على آحادها . ولهذا أوجب على الأمة من تحصيل المستحبات العامة ما لا يجب على الأفراد . وتحصيله لنفسه : مثل بل يجب عليه أن لا يطول الصلاة تطويلا يضر من خلفه ولا ينقصها عن سننها الراتبة : مثل قراءة السورتين الأوليين وإكمال الركوع والسجود ونحو ذلك حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي يؤم الناس في صلاته فإنه ليس له أن يفعل دائما ما يجوز للمنفرد فعله الصحابة بعزل إمام كان يصلي لبصاقه في قبلة المسجد وقال : { } - الحديث وقال : { يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة ; سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء } . إذا أم الرجل القوم وفيهم من هو خير منه لم يزالوا في سفال
ولهذا قال الفقهاء : إن الإمام المقيم بالناس حجهم عليه أن يأتي [ ص: 176 ] بكمال الحج من تأخير النفر إلى الثالث من منى ولا يتعجل في النفر الأول ونحو ذلك من سنن الحج التي لو تركها الواحد لم يأثم وليس للإمام تركها لأجل مصلحة عموم الحجيج من تحصيل كمال الحج وتمامه ولهذا } لما اجتمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدان فشهد العيد ثم رخص في الجمعة قال : إنا مجمعون فقال { أحمد في المشهور عنه وغيره : إن على الإمام أن يقيم لهم الجمعة ليحصل الكمال لمن شهدهما وإن جاز للآحاد الانصراف .
ونظائره كثيرة مما يوجب أن يحفظ للأمة - في أمرها العام في الأزمنة والأمكنة والأعمال - كمال دينها الذي قال الله فيه : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } إما على الأئمة وإما على غيرهم . فالكمال والفضل الذي يحصل برؤية الهلال دون الحساب يزول بمراعاة الحساب لو لم يكن فيه مفسدة . فما أفضى إلى نقص كمال دينها ولو بترك مستحب يفضي إلى تركه مطلقا كان تحصيله واجبا على الكفاية