( فصل ) إذا عرف هذا . فنقول : آدم وموسى أن موسى لم يلم آدم إلا من جهة المصيبة التي أصابته وذريته بما فعل لا لأجل أن تارك الأمر مذنب عاص ; ولهذا قال : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ لم يقل : لماذا خالفت الأمر ولماذا عصيت ؟ والناس مأمورون عند المصائب التي تصيبهم بأفعال الناس أو بغير أفعالهم بالتسليم للقدر وشهود الربوبية كما قال تعالى : { الصواب في قصة ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه } قال ابن مسعود أو غيره : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم ، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم { } . فأمره بالحرص على ما ينفعه وهو طاعة الله ورسوله فليس للعباد أنفع من طاعة الله ورسوله وأمره إذا أصابته مصيبة مقدرة أن لا ينظر إلى القدر ولا يتحسر بتقدير لا يفيد ويقول : قدر الله وما شاء فعل ولا يقول : لو أني فعلت لكان كذا فيقدر ما لم يقع يتمنى أن لو كان وقع ; فإن ذلك إنما يورث حسرة وحزنا لا يفيد احرص على [ ص: 320 ] ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان هو الذي ينفعه كما قال بعضهم : الأمر أمران أمر فيه حيلة فلا تعجز عنه . والتسليم للقدر
وأمر لا حيلة فيه فلا تجزع منه . وما زال أئمة الهدى من الشيوخ وغيرهم يوصون الإنسان بأن يفعل المأمور ويترك المحظور ويصبر على المقدور وإن كانت تلك المصيبة بسبب فعل آدمي .
فلو أن رجلا أنفق ماله في المعاصي حتى مات ولم يخلف لولده مالا أو ظلم الناس بظلم صاروا لأجله يبغضون أولاده ويحرمونهم ما يعطونه لأمثالهم لكان هذا مصيبة في حق الأولاد حصلت بسبب فعل الأب فإذا قال أحدهم لأبيه : أنت فعلت بنا هذا قيل للابن هذا كان مقدورا [ ص: 321 ] عليكم وأنتم مأمورون بالصبر على ما يصيبكم والأب عاص لله فيما فعله من الظلم والتبذير ملوم على ذلك لا يرتفع عنه ذم الله وعقابه بالقدر السابق ; فإن كان الأب قد تاب توبة نصوحا وتاب الله عليه وغفر له لم يجز ذمه ولا لومه بحال لا من جهة حق الله ; فإن الله قد غفر له ولا من جهة المصيبة التي حصلت لغيره بفعله إذ لم يكن هو ظالما لأولئك فإن تلك كانت مقدرة عليهم .
وهذا مثال " قصة آدم " : فإن آدم لم يظلم أولاده بل إنما ولدوا بعد هبوطه من الجنة وإنما هبط آدم وحواء ولم يكن معهما ولد حتى يقال : إن ذنبهما تعدى إلى ولدهما ثم بعد هبوطهما إلى الأرض جاءت الأولاد فلم يكن آدم قد ظلم أولاده ظلما يستحقون به ملامه وكونهم صاروا في الدنيا دون الجنة أمر كان مقدرا عليهم لا يستحقون به لوم آدم وذنب آدم كان قد تاب منه . قال الله تعالى : { وعصى آدم ربه فغوى } { ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى } وقال : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه } فلم يبق مستحقا لذم ولا عقاب .
وموسى كان أعلم من أن يلومه لحق الله على ذنب قد علم أنه تاب منه فموسى أيضا قد تاب من ذنب عمله وقد قال موسى : { أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين } . وآدم أعلم من أن يحتج بالقدر على أن المذنب لا ملام عليه فكيف وقد علم أن إبليس لعنه الله بسبب [ ص: 322 ] ذنبه ; وهو أيضا كان مقدرا عليه وآدم قد تاب من الذنب واستغفر فلو كان الاحتجاج بالقدر نافعا له عند ربه لاحتج ولم يتب ويستغفر .
وقد روي في الإسرائيليات أنه احتج به وهذا مما لا يصدق به لو كان محتملا فكيف إذا خالف أصول الإسلام بل أصول الشرع والعقل .
نعم إن كان ذكر القدر مع التوبة فهذا ممكن ; لكن ليس فيما أخبر الله به عن آدم شيء من هذا ولا يجوز إلا ما ثبت نقله بكتاب الله أو سنة رسوله فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال : { الاحتجاج في الدين بالإسرائيليات } . و ( أيضا فلو كان إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم نافعا له فلماذا أخرج من الجنة وأهبط إلى الأرض . فإن قيل : وهو قد تاب فلماذا بعد التوبة أهبط إلى الأرض ؟ . الاحتجاج بالقدر
قيل : التوبة قد يكون من تمامها عمل صالح يعمله فيبتلى بعد التوبة لينظر دوام طاعته قال الله تعالى : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } في التائب من الردة وقال في كاتم العلم : { إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم } وقال : { أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم } وقال في القذف : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } وقال : { إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما } { ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا } وقال : { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى }
. { ولما تاب كعب بن مالك وصاحباه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بهجرهم - حتى نسائهم - ثمانين ليلة } . { الغامدية لما رجمها ؟ لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله } . وقد أخبر الله عن توبته على بني إسرائيل حيث قال لهم موسى : { وقال النبي صلى الله عليه وسلم في يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم }
. وإذا كان الله تعالى قد يبتلي العبد من الحسنات والسيئات والسراء والضراء بما يحصل معه شكره وصبره أم كفره وجزعه وطاعته أم معصيته فالتائب أحق بالابتلاء فآدم أهبط إلى الأرض ابتلاء له ووفقه الله في هبوطه لطاعته فكان حاله بعد الهبوط خيرا من حاله قبل الهبوط وهذا بخلاف ما لو كان الاحتجاج بالقدر نافعا له فإنه لا يكون عليه ملام ألبتة ; ولا هناك توبة تقتضي أن يبتلى صاحبها ببلاء . و " أيضا " فإن الله قد أخبر في كتابه بعقوبات الكفار : مثل قوم [ ص: 324 ] نوح وهود وصالح وقوم لوط وأصحاب مدين وفرعون وقومه ما يعرف بكل واحدة من هذه الوقائع أن لا حجة لأحد في القدر ; وأيضا فقد شرع الله من عقوبة المحاربين من الكفار وأهل القبلة وقتل المرتد وعقوبة الزاني والسارق والشارب ما يبين ذلك .