ذكرنا الله تعالى بما كان عليه المؤمنون في مكة ؛ إذ كانوا عددا قليلا مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس، وقد بين أشد ما دبروه، وهو ما أعقبه الهجرة؛ ليتذكروا شدتهم في رخائهم، ولذا قالوا: إن تسع آيات مكية جاءت لهذا التذكير، ومنها قوله تعالى:
المكر لأبلغ الإيذاء
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون
في هذه الآية يذكر الله سبحانه وتعالى ما كانوا يبيتونه للنبي - صلى الله عليه وسلم - قبيل أن يهاجر، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدبر للهجرة من قبل ذلك، فقد أخذ يعرض نفسه على [ ص: 3111 ] القبائل، حتى وجد قبل الهجرة بما يقارب سنتين الأوس والخزرج، فأخذ يدبر أمر الهجرة إليهم في يثرب، ويعد العدة لذلك، ويهيئ المتبوأ، ويتم الرسالة، بلاغا وتبيينا، وقد هاجر من هاجر قبل ذلك إلى الحبشة، وهاجر إلى المدينة من يحفظ القرآن ويعلم الإسلام، فهل كانت الهجرة فرارا من الإيذاء وطلبا للأمن؟
لا شك أن فرار الذين هاجروا إلى الحبشة كان من الأذى والفتنة في الدين، وينطبق عليهم قوله تعالى: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله
أما هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فما كانت فرارا من الأذى بل كانت نظاما لتأسيس دولة، ولأنه نظام يجب أن يتحقق، ولأن الإسلام جاء لإقامة دولة تحكم بأمر الله ونهيه، وتقيم العدل، وترفع الجور، وما كانت تتمكن من ذلك وهي خاضعة لعبدة الأوثان، بل كان لا بد من الهجرة حيث تكون القوة، وحيث يتمكن من إقامة الدولة، وقد اختار الله تعالى من الأرض أرضا ينتشر منها خبر الدعوة المحمدية في كل ربوع البلاد العربية، فكانت أرض البيت الحرام، وقد مكث محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عشرة سنة يدعو، دخل خلالها في دينه بعض قريش، وبعض القبائل، وعرف العرب دعوته، حتى إذا تكونت الجماعة التي كانت النواة الأولى مهد لإنشاء الدولة، فسافر إلى المدينة مهاجرا.
وبينما هو يعد العدة، أو أعدها ومهد الأرض وعبد المقام - كانوا يفكرون في الإيذاء، ولذا لا نقول هاجر فرارا، بل كان الاتفاق الزمني وهم يفرغون جعبتهم، وقد أفرغوها وراشوها ، ولم يجدوا موضوعا لفعلهم.
[ ص: 3112 ] وإذ يمكر بك الذين كفروا (إذ) ظرف وقائعه في الماضي، وهو متعلق بمحذوف، تقديره: اذكر، أي اذكر يا محمد ومن معك الوقت الذي بلغ الأذى أقصاه، وهم يمكرون ويدبرون ويحكمون، ويتجادلون في أنجع طريق لسد الطريق على دعوتك، أيحبسونك أو يقتلونك أو يخرجونك، وقد اجتمعوا، ويقول الله تعالى مشيرا إلى آرائهم: ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك و(يثبتونك) معناها يحبسونك فيمنعونك الحركة، أو يقتلوك، أو يخرجوك.
ولنضرب بكلمة موجزة، لقد ثبت بإسناد صحيح أن الملأ من قريش اجتمعوا في دار ندوتهم ليتشاوروا في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد صار على أمر عظيم عليهم، خالفهم، وسفه أحلامهم، وعاب آلهتهم، فتقاولوا في أمره ماذا يصنعون؟ أيثبتونه أي يمنعونه من الحركة بالحبس، أم يقتلونه، أم يخرجونه.
قال قائل منهم: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون، حتى يهلك كما هلك من قبله، فلم يرتضوا هذا رأيا، وقال قائلهم: والله ليخرجنه أصحابه فليوشكن أن يثبتوا يأخذونه من أيديكم فيمنعونه منكم.
قال قائل منهم: أخرجوه من بين أظهركم، فتستريحوا منه، فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع، وكان أمره في غيركم.
فقال قائل: ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذه القلوب بما تسمع من حديثه؟! والله لئن فعلتم ليجتمعن عليه، ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم، ويقتل أشرافكم.
وقال أبو جهل: والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، لا أرى غيره; قالوا: وما هو؟ قال: تأخذون من كل قبيلة غلاما شابا وسطا نهدا، ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها، فإنهم إن رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا.
[ ص: 3113 ] قبلوا ذلك الرأي واستطابوه وهموا لتنفيذه، واجتمعوا حول داره لينفذوا الخطة، وأتوا بالشباب الأنهاد، ولكن الله تعالى كان يدبر لرسوله ورسالته، ولقد جاء سيف الحق - ونام مكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم مصطفون حول الدار وقبض قبضة من الرماد وقال: " علي - كرم الله وجهه " ويروى أنه تلا قوله تعالى: شاهت الوجوه وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون
هذا تدبيرهم ومكرهم، وإنه في هذا الوقت الذي كانوا يمكرون فيه كان الله يدبر فيه لرسوله ولرسالته، فكان يدبر أمر هجرته، وابتدأت بهجرة كبراء الصحابة - رضي الله عنه - كعمر وغيرهما من كبار الصحابة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتجز وأبي عبيدة لصحبته، فكان له فضل الصحبة في الغار. أبا بكر
وسمي تدبير الله تعالى مكرا من قبيل المشاكلة اللفظية، كقوله تعالى: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فدفع الاعتداء ليس اعتداء.
والله تعالى خير الماكرين أي: خير من يدبر وينظم ويحمي نبيه ورسالته؛ لأن تدبيره سبحانه وتعالى خير، ولا يمكن إلا أن يكون خيرا وهو نافذ ومنتج ومؤد إلى غاية هي خير غاية.
وقد ترتب على تدبير الله أن قامت دولة الإسلام وظهر في الوجود أفضل مدنية كانت للفضيلة ونشأت بالفضيلة، وقد ذكر الله استهزاء الكافرين بآيات الله تعالى، وكيف يتلقون آيات الله بإهمال وسخرية فقال: وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين
[ ص: 3114 ] نزلت هذه الآية في مكة، وهي تتلى في سورة أكثرها نزل بالمدينة؛ لتذكرهم بما نزل بهم من المشركين بمكة إذ كانوا يستهينون بأمرهم، ويستضعفونهم، وقد امتد أمر استهانتهم إلى الحجج القارعة، مع عجزهم عن أن يأتوا بمثله القرآن، يقول تعالى: