الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وقد ذكر - سبحانه وتعالى -: فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم ؛ الآيتان متصلتان؛ وهذه الآية تفريع على الآية السابقة؛ فالسابقة فرض فيها الإذن بعد الاستئناس والسلام؛ وإن كان فيها أناس استأذنوا؛ واستأنسوا؛ وسلموا عليهم؛ وهذه الآية مفروضة في جزء منها في حال إذا لم يجدوا أحدا؛ والجزء الثاني مفروض فيه إذا لم يكن إذن؛ بل كان الأمر بالمنع والرجوع.

                                                          فأما الجزء الأول فقد قال (تعالى): فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم ؛ فاصبروا حتى يوجد أو يحضر من يأذن لكم من أهل البيت؛ وقد يقال: إنه لا أحد يخشى الاطلاع على المستور من عوراته؛ وقد أجاب الزمخشري على ذلك الاعتراض بقوله: ذلك أن الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة؛ ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط؛ إنما شرع لئلا يقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم؛ ويتحفظون من اطلاع أحد عليها؛ ولأنه تصرف في ملك غيرك؛ فلا بد أن يكون برضاه؛ وإلا أشبه الغصب والتغلب.

                                                          الفرض الأخير هو حال الرجوع؛ بين - سبحانه - حال الإذن؛ وحال خلو البيت؛ وبقيت حال الرد؛ وطلب الرجوع؛ وعدم الدخول؛ وهذا كما ترى متشعب عن الاستئناس؛ فقال (تعالى): وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم ؛ والفاء واقعة في جواب الشرط؛ و " أزكى " ؛ معناها: أطهر وأكرم; لأنها لا تصح اللجاجة؛ فإن ذلك يكون خسة بكم؛ ولا يليق بكرامة الكريم.

                                                          ويقول الزمخشري عند قوله (تعالى): وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا ؛ ألا تلحوا في إطلاق الإذن؛ ولا تلحوا في تسهيل الحجاب؛ ولا تقفوا على الأبواب منتظرين; [ ص: 5178 ] لأن هذا ما يجلب الكراهة؛ ويقدح في قلوب الناس؛ وخصوصا إذا كانوا ذوي مروءة؛ ومرتاضين بالآداب الحسنة؛ وإذا نهي عن ذلك لأدائه إلى الكراهة؛ وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إلى ذلك بعنف؛ والتصييح بصاحب الدار؛ وغير ذلك مما يدخل من لم يتهذب من الناس.

                                                          وقوله (تعالى): هو أزكى لكم ؛ بمعنى الطهر؛ أي: هو أطهر لكم؛ وأكرم؛ وأنمى لمروءتكم؛ ثم قال (تعالى): والله بما تعملون عليم ؛ أي: الله (تعالى) يعلم ما فيه خيركم وطهركم وأليق بكرمائكم؛ وما يبعد المنافرة بين جماعتكم؛ وأنتم لا تعلمون خيركم؛ ولا ما فيه طهارتكم وسموكم؛ ومعرفة الفاضل من أموركم؛ أي: الله (تعالى) يعلم ما تعملون من خير وشر؛ ولائق وغير لائق؛ عليم به؛ وقدم " بما تعملون " ؛ على " عليم " ؛ للأهمية وللاختصاص؛ وقبل الكلام في معاني هذه الآية الحكيمة وما قبلها نقول: إنه - سبحانه - لم يقل: " فإن لم يأذنوا " ؛ بل قال: وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا ؛ للإشارة إلى أن عدم الإذن يتضمن الأمر بالرجوع؛ يفهمه ذو الإحساس المرهف المدرك المنفذ لما يكون فيه حفظ للمروءة؛ وصون للكرامة؛ وذلك يشير إلى منع اللجاجة؛ وألا يدخلوا بيوتا لا يرغب في دخولهم أصحابها؛

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية