الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله وطف مضطبعا وراء الحطيم آخذا عن يمينك مما يلي الباب سبعة أشواط ) لفعله عليه السلام كذلك لما رواه أبو داود ، وهو أن يدخل ثوبه تحت يده اليمنى ويلقيه على عاتقه الأيسر يقال اضطبع بثوبه وتأبط به وقولهم اضطبع رداءه سهو ، وإنما الصواب بردائه كذا في المغرب وهو سنة مأخوذ من الضبع وهو العضد ; لأنه يبقى مكشوفا وينبغي أن يفعله قبل الشروع في الطواف بقليل ، وأما إدخال الحطيم في طوافه فهو واجب ; لأن الحطيم ثبت كونه من البيت بخبر الواحد حتى لو تركه يؤمر بإعادة الطواف من الأصل أو إعادته على الحطيم ما دام بمكة ، ولو لم يعد لزمه دم ولو استقبل الحطيم وحده لا تجوز صلاته ; لأن فرضية التوجه ثبتت بنص الكتاب فلا تتأدى بما ثبت بخبر الواحد احتياطا ، وله ثلاث أسام حطيم وحظيرة وحجر وهو اسم لموضع متصل بالبيت من الجانب الغربي بينه وبين البيت فرجة وسمي به ; لأنه حطم من البيت أي كسر فعيل بمعنى مفعول كالقتيل بمعنى المقتول ; أو لأن من دعا على من ظلمه فيه حطمه الله كما جاء في الحديث فهو بمعنى فاعل كذا في كشف الأسرار ، وليس كله من البيت بل مقدار ستة أذرع من البيت برواية مسلم عن عائشة وفي غاية البيان أن فيه قبر هاجر وإسماعيل عليهما السلام ، وأما أخذه عن يمينه مما يلي الباب فهو واجب أيضا حتى لو طاف منكوسا صح ، وأثم لتركه الواجب ويجب إعادته ما دام بمكة فإن رجع قبل إعادته فعليه دم ، والحكمة في كونه يجعل البيت عن يساره أن الطائف بالبيت مؤتم به ، والواحد مع الإمام يكون الإمام على يساره وقيل لأن القلب في الجانب الأيسر ، وقيل ليكون الباب في أول طوافه لقوله تعالى { وأتوا البيوت من أبوابها } .

                                                                                        وأشار بقوله مما يلي الباب أن الافتتاح من الحجر الأسود واجب ; لأنه عليه السلام لم يتركه قط ، وقيل شرط حتى لو افتتح من غيره لا يجزئه ; لأن الأمر بالطواف في الآية مجمل في حق الابتداء فالتحق فعله عليه السلام بيانا له كذا في فتح القدير هنا وفي باب الجنايات ذكر أن [ ص: 353 ] ظاهر الروايات أنه سنة ، وذكر في المحيط أنه سنة عند عامة المشايخ حتى لو افتتح من غير الحجر جاز ويكره ، وذكر محمد في الرقيات أنه لم يجز ذلك القدر وعليه الإعادة ، وإليه أشار في الأصل فقد جعل البداية منه فرضا ا هـ .

                                                                                        والأوجه الوجوب للمواظبة والافتراض بعيد عن الأصول للزوم الزيادة على القطعي بخبر الواحد ، ولعل صاحب المحيط أراد بالسنة السنة المؤكدة التي بمعنى الواجب ، وتكون الكراهة تحريمية ، ولما كان الابتداء من الحجر واجبا كان الابتداء من الطواف من الجهة التي فيها الركن اليماني قريبا من الحجر الأسود متعينا ليكون مارا بجميع بدنه على جميع الحجر الأسود ، وكثير من العوام شاهدناهم يبتدئون الطواف وبعض الحجر خارج عن طوافهم فاحذره ، وقوله سبعة أشواط بيان للواجب لا للفرض في الطواف فإنا قدمنا أن أقل الأشواط السبعة واجبة تجبر بالدم فالركن أكثر الأشواط ، واختلف فيه فقيل أربعة أشواط وهو الصحيح نص عليه محمد في المبسوط ، وذكر الجرجاني أنه ثلاثة أشواط وثلثا شوط ، وخالف المحقق ابن الهمام أهل المذهب ، وجزم بأن السبعة ركن فإنه لا يجزئ أقل منها ، وأن هذا ليس من قبيل ما يقام فيه الأكثر مقام الكل ، وأطال الكلام فيه في الجنايات ، وهذا التقدير أعني السبعة مانع للنقصان اتفاقا ، واختلفوا في منعه للزيادة حتى لو طاف ثامنا ، وعلم أنه ثامن اختلفوا فيه

                                                                                        والصحيح أنه يلزم إتمام الأسبوع ; لأنه شرع فيه ملتزما بخلاف ما إذا ظن أنه سابع ثم تبين له أنه ثامن فإنه لا يلزمه الإتمام ; لأنه شرع فيه مسقطا لا ملتزما كالعبادة المظنونة كذا في المحيط ، وبهذا علم أن الطواف خالف الحج فإنه إذا شرع فيه مسقطا يلزمه إتمامه بخلاف بقية العبادات ، والأشواط جمع شوط وهو جري مرة إلى الغاية كذا في المغرب وفي الخانية من الحجر إلى الحجر شوط ، واعلم أن مكان الطواف داخل المسجد الحرام حتى لو طاف بالبيت من وراء زمزم أو من وراء السواري جاز ومن خارج المسجد لا يجوز وعليه أن يعيد ; لأنه لا يمكنه الطواف ملاصقا لحائط البيت فلا بد من حد فاصل بين القريب والبعيد فجعلنا الفاصل حائط المسجد ; لأنه في حكم بقعة [ ص: 354 ] واحدة فإذا طاف خارج المسجد فقد طاف بالمسجد لا بالبيت ; لأن حيطان المسجد تحول بينه وبين البيت كذا في المحيط

                                                                                        وقد علمت مما قدمناه من واجبات الحج أن الطهارة فيه من الحدثين واجب ، وكذا ستر العورة فلو طاف مكشوف العورة قدر ما لا تجوز الصلاة معه لزمه دم كذا في الظهيرية ، وأما الطهارة من الخبث فمن السنة لا يلزمه بتركها شيء كما صرح به في المحيط وغيره لكن صرح في الفتاوى الظهيرية بأنه لو طاف طواف الزيارة في ثوب كله نجس فهذا وما لو طاف عريانا سواء فإن كان من الثوب قدر ما يواري عورته طاهرا والباقي نجسا جاز طوافه ولا شيء عليه ، وأطلق الطواف فأفاد أنه لا يكره في الأوقات التي تكره الصلاة فيها ; لأن الطواف ليس بصلاة حقيقة ، ولهذا أبيح الكلام فيه كما ورد في الحديث ، ولا تبطله المحاذاة ، وقالوا لا بأس بأن يفتي في الطواف ويشرب ويفعل ما يحتاج إليه ، لكن يكره إنشاد الشعر فيه والحديث لغير حاجة والبيع ، وأما قراءة القرآن فيه فمباحة في نفسه ولا يرفع بها صوته كما في المحيط ، والمعروف في الطواف إنما هو مجرد ذكر الله روى ابن ماجه عن أبي هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول { من طاف بالبيت سبعا ولم يتكلم إلا بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله محيت عنه عشر سيئات وكتبت له عشر حسنات ورفع له بها عشر درجات }

                                                                                        وفي المحيط لو خرج من طوافه إلى جنازة أو مكتوبة أو تجديد وضوء ثم عاد بنى .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قول المصنف وطف مضطبعا ) قال العلامة رحمه الله السندي تلميذ ابن الهمام في مناسكه المختصرة والمنلا علي القاري في شرحها : ويضطبع أي في جميع الأشواط إن أراد أن يسعى بعده أي يقدم السعي عقبه وإلا لا أي وإن لم يرد أن يسعى بعد هذا الطواف ، وأراد أن يؤخر السعي إلى ما بعد الطواف الفرض فلا يرمل ولا يضطبع حينئذ هنا بل يؤخرهما إلى طواف الزيارة فيرمل فيه ، وكذا يضطبع إن لم يكن لابسا ا هـ .

                                                                                        وقال المنلا علي في شرح اللباب وهو شرح المنسك المتوسط من لبس المخيط لعذر هل يسن في حقه التشبه به لم يتعرض له أصحابنا ، وذكر بعض الشافعية أن الاضطباع إنما يسن لمن لم يلبس المخيط ، وأما من لبسه من الرجال فيتعذر في حقه الإتيان بالسنة أي على وجه الكمال فلا ينافي ما ذكره بعضهم من أنه قد يقال يشرع له جعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن وطرفه على الأيسر وإن كان المنكب مستورا بالمخيط للعذر . قال في عمدة المناسك : وهذا لا يبعد لما فيه من التشبه بالمضطبع عند العجز عن الاضطباع وإن كان غير مخاطب فيما يظهر قلت : الأظهر فعله فإن ما لا يدرك كله لا يترك كله ومن تشبه بقوم فهو منهم ا هـ .

                                                                                        واعلم أن المحرم إن كان مفردا بالحج وقع طوافه هذا للقدوم وإن كان مفردا بالعمرة أو متمتعا أو قارنا وقع عن طواف العمرة نواه له أو لغيره وعلى القارن أي استحبابا أن يطوف طوافا آخر للقدوم كذا في اللباب ، وهذا الطواف للقدوم كما سيصرح به ; لأن كلامه الآن في المفرد ، واعلم أنه لا اضطباع ولا رمل ولا سعي لأجل هذا الطواف ، وإنما يفعل فيه ذلك إذا أراد تقديم سعي الحج على وقته الأصلي الذي هو عقيب طواف الزيارة . ا هـ . لباب .

                                                                                        ( قوله حتى لو تركه ) أي لم يطف وراء الحطيم أي جدار الحجر بل دخل الفرجة التي بينه وبين البيت أي وخرج من الفرجة الأخرى فالواجب أن يعيده من الحجر ، والأفضل إعادة كله ، وصورة الإعادة على الحجر أن يأخذ عن يمينه خارج الحجر أي مبتدئا من أول أجزاء الفرجة أو قبله بقليل للاحتياط حتى ينتهي إلى آخره ثم يدخل الحجر من الفرجة ويخرج من الجانب الآخر الذي ابتدأ من طرفه أو لا يدخل الحجر بل يرجع ويبتدئ من أول [ ص: 353 ] الحجر وهو الأولى لئلا يجعل الحطيم الذي هو من الكعبة وهي أفضل المساجد طريقا إلى مقصده إلا إذا نوى دخول البيت كل مرة وطلب البركة في كل كرة ثم في الصورة الأولى من الإعادة لا يعد عوده شوطا ; لأنه منكوس وهو خلاف الشرط أو الواجب فلا يكون محسوبا ، ولهذا قال هكذا يفعل سبع مرات ويقضي حقه فيه من رمل وغيره أي من تيامن ونحوه ، وإذا أعاده سقط الجزاء ولو طاف على جدار الحجر قيل ويجوز وينبغي تقييده بما زاد على حده وهو قدر ستة أو سبعة أذرع ا هـ . من اللباب وشرحه .

                                                                                        ( قوله والأوجه الوجوب ) وبه صرح في المنهاج نقلا عن الوجيز حيث قال في عد الواجبات والبداءة بالحجر الأسود وهو الأشبه والأعدل فينبغي أن يكون هو المعول شرح اللباب ( قوله للزوم الزيادة إلخ ) أقول : فيه إن خبر الواحد إذا التحق بيانا للنص المجمل فالثابت به يكون ثابتا بالنص المجمل لا بخبر الواحد كما صرح بهالعلامة الأكمل في شرح الهداية عند الكلام على فرائض الوضوء فالأحسن في الجواب منع الإجمال ; لأن الأمر بالطواف لا يلزم منه فرضية الابتداء من مكان مخصوص بل هو مطلق يدل على الإجزاء من أي مكان وفعله عليه السلام أفاد الوجوب أو السنية فافهم هذا ما ظهر لي في الجواب ثم راجعت فتح القدير فرأيته قال ما نصه : ولو قيل إنه واجب لا يبعد ; لأن المواظبة من غير ترك دليله فيأثم به ، ويجزئ ولو كان في آية الطواف إجمال لكان شرطا كما قال محمد لكنه منتف في حق الابتداء فيكون مطلق التطوف هو الفرض وافتتاحه من الحجر واجب للمواظبة ا هـ . بحروفه .

                                                                                        ( قوله ولما كان الابتداء من الحجر واجبا إلخ ) أي بناء على ما استوجهه المؤلف هذا وما في اللباب من قوله ثم يقف أي بعد الاضطباع مستقبل البيت بجانب الحجر الأسود مما يلي الركن اليماني بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ويكون منكبه الأيمن عند طرف الحجر فينوي الطواف وهذه الكيفية مستحبة ا هـ .

                                                                                        فهو مبني على أن الافتتاح من الحجر سنة ، وهو قول عامة المشايخ ومشى عليه صاحب اللباب ، وقال إنه الصحيح لكن ما ادعاه المؤلف من لزوم المرور بجميع بدنه على الحجر غير لازم فإنه لو وقف مسامتا للحجر حصل الابتداء منه ; لأن من قام مسامتا بجسده الحجر يدخل فيه شيء من جانب الركن اليماني ; لأن الحجر وركنه لا يبلغ عرض جسد المسامت له كما في الشرنبلالية وما ادعى لزومه صرح في اللباب باستحبابه وكذا في الفتح حيث قال وينبغي أن يبدأ بالطواف من جانب الحجر الذي على الركن اليماني ليكون مارا على جميع الحجر بجميع بدنه فيخرج من خلاف من يشترط المرور كذلك عليه ا هـ .

                                                                                        ( قوله فالركن أكثر الأشواط ) الظاهر أن هذا خاص بطواف الزيارة ; لأنه ركن أما القدوم والصدر فلا لكن طواف القدوم سنة وبشروعه فيه يجب إكماله فيساوي بعد الشروع طواف الصدر فيصير الطوافان واجبين فيكون جميع أشواطهما واجبة ، ويؤيد ذلك ما سيذكره [ ص: 354 ] المؤلف قريبا في أشواط السعي حيث جعلها واجبة كلها لكن صرحوا بأنه لو ترك أكثر أشواط الصدر لزمه دم وفي الأقل لكل شوط صدقة ، وأما القدوم فلم يصرحوا بما يلزمه لو تركه بعد الشروع ، وبحث السندي في منسكه الكبير في أنه كالصدر ونازعه في شرح اللباب بأن الصدر واجب بأصله فلا يقاس عليه ما يجب بشروعه فالظاهر أنه لا يلزمه بتركه شيء سوى التوبة كصلاة النفل ا هـ ملخصا ، وهذا ما ظهر لي قبل أن أراه وسيأتي أنه لا يتحقق الترك إلا بالخروج من مكة ( قوله وقد علمت إلخ ) قال في اللباب واجبات الطواف سبعة الأول الطهارة عن الحدث الأكبر والأصغر الثاني قيل الطهارة عن النجاسة الحقيقية والأكثر على أنه سنة ، وقيل قدر ما يستر عورته من الثوب واجب أي طهارته فلو طاف وعليه قدر ما يواري العورة طاهر والباقي نجس جاز وإلا فهو بمنزلة العريان . الثالث ستر العورة فلو طاف مكشوفها وجب الدم والمانع كشف ربع العضو فما زاد كما في الصلاة وإن انكشف أقل من الربع لا يمنع ويجمع المتفرق الرابع المشي فيه للقادر فلو طاف راكبا أو محمولا أو زاحفا بلا عذر فعليه الإعادة أو الدم ، وإن كان بعذر لا شيء عليه ولو نذر أن يطوف زحفا لزمه ماشيا . الخامس التيامن السادس قيل الابتداء من الحجر الأسود السابع الطواف وراء الحطيم ا هـ .

                                                                                        قال شارحه : وأما طهارة مكان الطواف فذكر ابن جماعة عن صاحب الغاية أنه لو كان في موضع طوافه نجاسة لا يبطل طوافه ، وهذا يفيد نفي الشرط والفرضية واحتمال ثبوت الوجوب أو السنية ، والأرجح عدم الوجوب عند الشافعية . ا هـ .

                                                                                        قلت : ويزاد ثامن وهو كونه سبعة أشواط ( قوله والمعروف في الطواف إنما هو مجرد ذكر الله تعالى ) أشار إلى أنه أفضل من القراءة كما في الفتح من التجنيس ، وقال ولم نعلم خبرا روي فيه قراءة القرآن في الطواف أقول : ورأيت في السراج الوهاج أنه يستحب [ ص: 355 ] أن يقرأ في أيام الموسم ختمة في الطواف وفي شرح اللباب قد يقال إنه صلى الله عليه وسلم قرأ آية { ربنا آتنا في الدنيا حسنة } الآية بين الركنين مشيرا إلى جوازه ومشعرا بأنه عدل عن القراءة دفعا للحرج عن الأمة لئلا يتوهموا أن القراءة في الطواف شرط أو واجب كما في الصلاة ، وأما ما قيل من أن قراءة آية { ربنا } إنما كانت على قصد الدعاء دون القراءة فهو مع عدم الاطلاع على الإرادة بعيد بحسب العادة .




                                                                                        الخدمات العلمية