( فصل : إن قتل محرم صيدا أو دل عليه من قتله فعليه الجزاء ) لقوله تعالى { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } الآية ، ولحديث أبي قتادة السابق الدال على تحريم الإشارة والأمر فألحقت بالقتل استحسانا باعتبار تفويت الأمن وارتكاب محظور إحرامه ، وليس زيادة على الكتاب بخبر الواحد ; لأن الكتاب إنما نص على القتل ، وتخصيص الشيء بالذكر لا ينفي الحكم عما عداه ، وحقيقة الصيد حيوان ممتنع متوحش بأصل الخلقة سواء كان بقوائمه أو بجناحه فدخل الظبي المستأنس ، وإن كانت ذكاته بالذبح وخرج البعير والشاة إذا استوحشا ، وإن كانت ذكاتهما بالعقر ; لأن المنظور إليه في الصيدية أصل الخلقة ، وفي الذكاة الإمكان وعدمه ، وخرج الكلب والنسور مطلقا أهليا كان أو وحشيا ، وإنما لم يذكر المصنف تعريفه ; لأنه علم من إباحته بعد ذلك الشاة والبقر ، وما عطف عليه فعلم أن الصيد هو ما ذكر ثم هو على نوعين بري وبحري فالبري ما يكون توالده في البر ، ولا عبرة بالمثوى أي المكان ، والمائي ما يكون توالده في الماء ، ولو كان مثواه في البر ; لأن التوالد أصل والكينونة بعده عارض فكلب الماء والضفدع مائي ، وأطلق قاضي خان في الضفدع ، وقيده في فتح القدير بالمائي لإخراج الضفدع البري قال : ومثله السرطان [ ص: 29 ] والتمساح والسلحفاة والمائي حلال للمحرم والبري حرام عليه للآية { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } ، وهو بعمومه متناول لما يؤكل منه ، وما لا يؤكل فيجوز للمحرم اصطياد الكل ، وهو الصحيح كما في المحيط والبدائع وغيرهما ، وبه يظهر ضعف ما في مناسك الكرماني من أنه لا يحل إلا ما يؤكل ، وهو السمك خاصة فالمراد بالصيد في المختصر صيد البر إلا ما يستثنيه بعد ذلك من الذئب والغراب والحدأة وبقية السباع أما الذئب والغراب والحدأة فلا شيء في قتلها أصلا ، وأما بقية السباع ففيها تفصيل نذكره ، وليس هذا الحكم المذكور هنا يشملها ، وأما بقية الفواسق فليست بصيود فلا حاجة إلى استثنائها ، وأطلق في الصيد فشمل ما يؤكل ، وما لا يؤكل حتى الخنزير كما في المحيط ، وفيه طير البحر لا يحل قتله ; لأن مبيضه ، ومفرخه في الماء ويعيش في البر والبحر فكان صيد البر من وجه فلا يجوز للمحرم .
وشمل الصيد المملوك وغيره فإذا قتل المحرم صيدا مملوكا لزمه قيمتان قيمة لمالكه وجزاؤه حقا لله تعالى كذا ذكره في المحيط في مسألة الهبة ، وأطلق في القتل فشمل ما إذا كان عن اضطرار أو اختيار كما سياتي وشمل ما إذا كان مباشرة أو بتسبب لكن في المباشرة لا يشترط التعدي فلو انقلب نائم على صيد فقتله يجب عليه الجزاء كما في المحيط وغيره ، وأما التسبب فلا بد من التعدي فلو نصب شبكة للصيد أو حفر بئرا للصيد فعطب ضمن ; لأنه متعد ، ولو نصب فسطاطا لنفسه فتعقل به فمات أو حفر حفيرة للماء أو لحيوان مباح قتله كالذئب فعطب فيها لا شيء عليه ، وكذا لو أرسل كلبه إلى حيوان مباح فأخذ ما يحرم أو أرسل إلى صيد في الحل ، وهو حلال فجاوز إلى الحرم فقتل صيدا لا شيء عليه ; لأنه غير متعد في السبب بخلاف ما لو رمى إلى فهد في الحل فأصابه في الحرم عليه الجزاء ; لأنه مباشرة ، ولا يشترط فيها التعدي حتى لو رمى إلى صيد فتعدى إلى آخر فقتلهما ضمن قيمتهما . وكذا لو ضرب بالسهم فوقع على بيض أو فرخ فأتلفهما ضمنهما ، وعلى هذا فما في المحيط من أن أربعة نزلوا بيتا بمكة ثم خرجوا إلى منى فأمروا أحدهم أن يغلق الباب ، وفيه حمام وغيرها فلما رجعوا وجدوها ماتت عطشا فعلى كل واحد منهم جزاؤها ; لأن الآمرين جمع آمر تسببوا بالأمر ، والمغلق بالإغلاق . انتهى .
محمول على ما إذا علموا بالطيور في البيت ; لأنه لا يكون تعديا إلا به ، وإلا فلا شيء عليهم لفقد شرط التسبب ، وأراد بالدلالة الإعانة على قتله سواء كانت دلالة حقيقية بالإعلام بمكانه ، وهو غائب أو لا وشرطوا في وجوب الجزاء على الدال المحرم خمسة شروط [ ص: 30 ] وإن كان آثما مطلقا أن يتصل القتل بدلالته فلا شيء على الدال لو لم يقتل المدلول ، وأن لا يكون المدلول عالما بمكان الصيد ، وأن يصدقه في الدلالة ، وأن يبقى الدال محرما إلى أن يقتله المدلول ، وأن لا ينفلت الصيد ; لأنه إذا انفلت صار كأنه جرحه ثم اندمل فتفرع على الشرط الثالث ما في المحيط لو أخبر المحرم بالصيد فلم يره حتى أخبره محرم آخر فإن كذب الأول لم يكن عليه جزاء ، وإن لم يكذبه ، ولم يصدقه فعلى كل واحد منهما جزاء كامل ; لأنه بخبر الأول وقع العلم بمكان الصيد غالبا وبالثاني استفاد علم اليقين فكان لكل واحد منهما دلالة على الصيد ، وإن أرسل محرم إلى محرم فقال : إن فلانا يقول لك أن في هذا الموضع صيدا فذهب فقتله فعلى الرسول والمرسل والقاتل الجزاء ; لأن الدلالة وجدت منهما وظهر بالشرط الثاني ضعف ما في المحيط معزيا إلى المنتقى من أنه لو قال : خذ أحد هذين ، وهو يراهما فقتلهما كان على الدال جزاء واحد ، وإن كان لا يراهما فعليه جزاءان . ا هـ .
لأنه إذا كان يراهما كان عالما بمكانهما ، وقد شرط وأعدم العلم بمكانه ولهذا لم يذكروا هنا الإشارة كما ذكروها في باب الإحرام ; لأنها خاصة بالحاضر وشرط وجوب الجزاء عدم العلم بالمكان فالحاصل أن الإشارة والدلالة سواء في منع المحرم منهما لكن الدلالة موجبة للجزاء بشروطها والإشارة لا توجب الجزاء اللهم إلا أن يقال : إن الأمر بالأخذ ليس من قبيل الدلالة فيوجب الجزاء مطلقا ويدل عليه ما في فتح القدير وغيره لو أمر المحرم غيره بأخذ صيد فأمر المأمور آخر فالجزاء على الآمر الثاني ; لأنه لم يمتثل أمر الأول ; لأنه لم يأتمر بالأمر بخلاف ما لو دل الأول على الصيد ، وأمره فأمر الثاني ثالثا بالقتل حيث يجب الجزاء على الثلاثة ، وكذا الإرسال كما ذكرناه آنفا فقد فرقوا بين الأمر المجرد والأمر مع الدلالة .
ودخل تحت الإعانة ما ذكره في المحيط محرم رأى صيدا في موضع لا يقدر عليه فدله محرم آخر على الطريق إليه أو رأى صيدا دخل غارا فلم يعرف باب الغار فدله محرم آخر على بابه فذهب إليه فقتله فعلى الدال الجزاء أيضا ; لأنه حين دله على الطريق والباب كأنه دله على الصيد ، وكذلك محرم رأى صيدا في موضع لا يقدر عليه إلا أن يرميه [ ص: 31 ] بشيء فدله محرم على قوس ونشاب أو دفع ذلك إليه فرماه فقتله فعلى كل واحد جزاء كامل . ا هـ .
مع أنه في هذه المسائل مشاهد للصيد فعلم أن الدلالة إذا فقد شرط منها لا يمتنع وجوب الجزاء بسبب الإعانة ، واختلفوا في إعارة السكين أو القوس أو النشاب هل هي إعارة موجبة للجزاء على المعير فصريح عبارة الأصل أنه لا جزاء على صاحب السكين ، وإن كان مكروها فحمله أكثر المشايخ على ما إذا كان مع القاتل سلاح أما إذا لم يكن معه ما يقتل به فالجزاء واجب ; لأن التمكن بإعارته وجزم به في المحيط ، وإليه أشار في السير وصحح السرخسي في مبسوطه أنه لا جزاء على المعير على كل حال ; لأن الإعارة ليست إتلافا حقيقة ، ولا حكما بخلاف الدلالة فإنها إتلاف معنى ، والظاهر ما عليه الأكثر من التفصيل لما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة { هل أعنتم } ، ولا شك أن إعارة السكين إعانة عليه .
ثم اعلم أن هذا الجزاء كفارة وبدل عندنا أما كونه كفارة فلوجود سببها ، وهو الجناية على الإحرام بارتكاب محظور إحرامه ولهذا قال : { أو كفارة طعام مساكين } ، وأما كونه بدلا فلوجود سببه ، وهو إتلاف صيد متقوم ولهذا اعتبرت المماثلة بين المقتول والجزاء ولهذا ذكر المصنف آخر الباب أنه لو اجتمع محرمان في قتل صيد تعدد الجزاء ; لأن الواجب كفارة في حق الجاني وجب جزاء على فعله ، وفعل كل واحد جناية على حدة بخلاف الحلالين كما سيأتي .
ثم اعلم أيضا أن الجزاء يتعدد بتعدد المقتول إلا إذا قصد به التحلل ورفض إحرامه كما صرح به في الأصل فقال : اصطاد المحرم صيدا كثيرا على قصد الإحلال والرفض لإحرامه فعليه لذلك كله دم ; لأنه قاصد إلى تعجيل الإحلال لا إلى الجناية على الإحرام ، وتعجيل الإحلال يوجب دما واحدا كما في المحصر كذا في المبسوط ، وقد يقال لا يصح القياس لما أن تعجيل الإحلال في المحصر مشروع بخلافه هنا ولهذا كان قصده باطلا ، ولا يرتفض به الإحرام فوجوده ، وعدمه سواء .


