الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : وتنكح المهاجرة الحائل بلا عدة ) أي التي ليست بحامل وهذا بيان لحكم آخر جزئي من جزئيات موضوع المسألة السابقة فإن منها ما إذا خرجت المرأة مسلمة أو ذمية وتركت زوجها في دار الحرب فأفاد أنها إذا بانت فلا عدة عليها إن لم تكن حاملا فتتزوج للحال عند الإمام وقالا عليها : العدة لأن الفرقة وقعت بعد الدخول في دار الإسلام فيلزمها حكم الإسلام ولأبي حنيفة أنها أثر النكاح المتقدم ووجبت إظهارا لخطره ولا خطر لملك الحربي ولهذا لا تجب على المسبية ، وقد تأيد ذلك بقوله تعالى { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } ، والعصم جمع عصمة بمعنى المنع ، والكوافر جمع كافرة ثم اختلفا لو خرج زوجها بعدها وهي بعد في هذه العدة فطلقها هل يلحقها طلاق قال أبو يوسف لا يقع عليها ، وقال محمد يقع ، والأصل أن الفرقة إذا وقعت بالتنافي تصير المرأة محلا للطلاق عند أبي يوسف وعند محمد تصير وهو أوجه إلا أن تكون محرمه لعدم فائد الطلاق على ما بيناه وثمرته تظهر فيما لو طلقها ثلاثا لا يحتاج زوجها في تزوجها إذا أسلم إلى زوج آخر [ ص: 230 ] عند أبي يوسف وعند محمد يحتاج إليه كذا في فتح القدير وأراد بالمهاجرة التاركة لدار الحرب إلى دار الإسلام على عزم عدم العود وذلك بأن تخرج مسلمة أو ذمية أو صارت كذلك وقيد بالحائل لأن الحامل لا يصح العقد عليها حتى تضع حملها وظاهر مفهوم الكتاب أن ذلك لأجل العدة وليس كذلك كما في غاية البيان ، والتبيين

                                                                                        وروى الحسن عن أبي حنيفة أن العقد صحيح ، والوطء حرام حتى تضعه لأنه لا حرمة لماء الحربي كماء الزاني وصحح الشارحون الأول لأن النسب ثابت فكان الرحم مشغولا بحق الغير فكان الاحتياط في منع العقد كالوطء بخلاف الحمل من الزنا وصحح الأقطع رواية الصحة ، والأكثر على الأول وهو الأظهر لأنه إذا ظهر الفراش في حق النسب يظهر في حق المنع من النكاح احتياطا ( قوله : وارتداد أحدهما فسخ في الحال ) يعني فلا يتوقف على مضي ثلاثة قروء في المدخول بها ولا على قضاء القاضي لأن وجود المنافي يوجبه كالمحرمية بخلاف الإسلام لأنه غير مناف للعصمة أطلقه فشمل ارتداد المرأة وهو ظاهر الرواية وبعض مشايخ بلخ ومشايخ سمرقند أفتوا بعدم الفرقة بردتها حسما لباب المعصية ، والحيلة للخلاص منه وعامة مشايخ بخارى أفتوا بالفرقة لكنها تجبر على الإسلام ، والنكاح مع زوجها الأول لأن الحسم يحصل بهذا الخبر فلا ضرورة إلى إسقاط اعتبار المنافي وتعقبهم في جامع الفصولين بأن جبر الحرة البالغة مناف للشرع أيضا فلزمهم ما هربوا منه من إسقاط اعتبار المنافي ا هـ .

                                                                                        وهو مردود لأن الجبر على النكاح عهد في الشرع في الجملة للضرورة كما في العبد ، والأمة ، والحر الصغير ، والحرة الصغيرة فجاز ارتكابه في غيرهم للضرورة ولم يعهد بقاء النكاح مع المنافي له فافترقا قالوا : ولكل قاض أن يجدد النكاح بمهر يسير ولو بدينار رضيت أو لا وتعزر خمسة وسبعين ا هـ .

                                                                                        وهو اختيار ; لقول أبي يوسف في التعزير هنا فإن نهايته في تعزير الحر عنده خمسة وسبعون وعندهما تسعة وثلاثون مع أن القدسي في الحاوي قال بعد قول أبي يوسف المذكور وبه نأخذ فعلى هذا المعتمد في نهاية التعزير قول أبي يوسف سواء كان في تعزير المرتدة أو لا وصحح في المحيط ، والخزانة ظاهر الرواية من وقوع الفرقة ، والجبر على تجديد النكاح من الأول وعدم تزوجها بغيره بعد إسلامها ، وقال الولوالجي : وعليه الفتوى ولا يخفى أن محله ما إذا طلب الأول ذلك أما إذا رضي بتزوجها من غيره فهو صحيح لأن الحق له وكذلك لو لم يطلب تجديد النكاح واستمر ساكتا لا يجدده القاضي حيث أخرجها من بيته ، وفي القنية المرتدة ما دامت في دار الإسلام فإنها لا تسترق في ظاهر الرواية ، وفي النوادر عن أبي حنيفة أنها تسترق ولو كان الزوج عالما استولى عليها بعد الردة تكون فيئا للمسلمين عند أبي حنيفة ثم يشتريها من الإمام أو يصرفها إليه إن كان مصرفا فلو أفتى مفت بهذه الرواية حسما لهذا الأمر لا بأس به قلت ، وفي زماننا بعد فتنة التتر العامة صارت هذه الولايات التي غلبوا عليها وأجروا أحكامهم فيها [ ص: 231 ] كخوارزم وما وراء النهر وخراسان ونحوها صارت دار الحرب في الظاهر فلو استولى عليها الزوج بعد الردة يملكها ولا يحتاج إلى شرائها من الإمام فيفتي بحكم الرق حسما لكيد الجهلة ومكر المكرة على ما أشار إليه في السير الكبير ا هـ .

                                                                                        ما في القنية وهكذا في خزانة الفتاوى ونقل قوله فلو أفتى مفت بهذه الرواية عن شمس الأئمة السرخسي ثم اعلم أن على هذه الرواية للزوج أن يبيعها بعد الاستيلاء لأنه صار مالكا لها وينبغي أن يمتنع بيعها إذا كانت ولدت منه قبل الردة تنزيلا لها منزلة أم ولده ، وقد ذكر في الخانية أن أم الولد إذا ارتدت ولحقت بدار الحرب ثم سبيت ثم ملكها السيد يعود كونها أم ولده وأمية الولد تتكرر بتكرار الملك ، وفي الخانية من باب الردة : رجل تزوج امرأة فغاب عنها قبل الدخول بها فأخبره مخبر أنها ارتدت ، والمخبر حر أو مملوك أو محدود في قذف وهو ثقة عنده وسعه أن يصدقه ويتزوج أربعا سواها وكذا إذا كان غير ثقة وأكبر رأيه أنه صادق ، وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لا يتزوج أكثر من ثلاث ، وإن أخبرت المرأة أن زوجها قد ارتد لها أن تتزوج بآخر بعد انقضاء العدة في رواية الاستحسان

                                                                                        وفي رواية السير ليس لها أن تتزوج قال شمس الأئمة السرخسي الأصح رواية الاستحسان ا هـ .

                                                                                        وإنما كانت ردته فسخا وإباؤه طلاقا عند أبي حنيفة لأن الردة منافية للنكاح لكونها منافية للعصمة ، والطلاق رافع فتعذر أن يجعل طلاقا بخلاف الإباء فإنه يفوت الإمساك بالمعروف فيجب التسريح بالإحسان ولذا يتوقف على القضاء في الإباء دونها وقال محمد إن ردته طلاق كإبائه وأبو يوسف مر على أصله من أن إباءه فسخ فردته كذلك وأفاد بقوله فسخ أنه لا ينقص العدد ولذا قال في الخانية : رجل ارتد مرارا وجدد الإسلام في كل مرة وجدد النكاح على قول أبي حنيفة تحل امرأته من غير إصابة زوج ثان ولم يذكر المؤلف وجوب العدة عليها ولا شك في وجوبها قال في جامع الفصولين وتعتد بثلاث حيض لو حرة ممن تحيض وبثلاثة أشهر لو آيسة أو صغيرة وبوضع الحمل لو حاملا لو دخل سواء ارتد أو ارتدت ولا نفقة لها في العدة ولو ارتد هو لا تجبر المرأة على التزوج ا هـ . وفي الخلاصة : إذا ارتدت لا نفقة لها في العدة ولها السكنى وبه يفتى ذكره في ألفاظ التكفير ، وفي الخانية ولزوج المرتدة أن يتزوج بأختها وأربع سواها إذا لحقت بالدار كأنها ماتت فإن خرجت إلى دار الإسلام مسلمة بعد ذلك لا يفسد نكاح أختها إذا ارتدت المعتدة ولحقت بدار الحرب ثم قضى القاضي بلحاقها بطلت عدتها لتباين الدارين وانقطاع العصمة كأنها ماتت فإن رجعت إلينا بعد ذلك مسلمة قبل انقضاء مدة العدة ، والحيض قال أبو يوسف : لا تعود معتدة وقال محمد : تعود معتدة ا هـ .

                                                                                        ثم اعلم أن الرجل المسلم يرث من امرأته المرتدة إذا ماتت قبل انقضاء العدة استحسانا ولا يرث قياسا وهو قول زفر كذا في الخانية ثم قال فيها : مسلم أسر في دار الحرب وخرج إلى دار الإسلام ومعه امرأته فقالت المرأة ارتددت في دار الحرب فإن أنكر الزوج ذلك كان القول قوله ، وإن قال تكلمت بالكفر مكرها وقالت المرأة لم تكن مكرها كان القول قول المرأة فإن صدقته المرأة فيما قال فالقاضي لا يصدقه ا هـ .

                                                                                        وهكذا في الظهيرية إلا أنه لم يقيده بكونها معه وظاهر التقييد أنه لا يقبل قولها إذا لم تكن معه وله وجه ظاهر لأنه لا علم لها بذلك وصرح في التتارخانية أنه لا يقبل قوله : في دعوى [ ص: 232 ] الإكراه إلا ببينة ولو شهدوا على الإكراه إلا أنهم قالوا لا ندري أكفر أم لا ، وقال الأسير إنما أجريت كلمة الكفر عند الإكراه لا قبله ولا بعده فالقول قول الأسير ولو قالت للقاضي سمعته يقول المسيح ابن الله تعالى فقال الزوج إنما حكيت قول النصارى فإن أقر أنه لم يتكلم إلا بهذه الكلمة بانت امرأته ، وإن قال وصلت بكلامي فقلت النصارى يقولون وكذبته المرأة فالقول قوله : مع اليمين ولا يحكم بكفره ، وإن نكل عن اليمين حكم به ا هـ .

                                                                                        وهو مشكل إن صحت النسخة لأن النكول شبهة ، والتكفير لا يثبت مع الشبهة ويمكن أن يقال إنها تبين بالنكول ولا يثبت كفره

                                                                                        وإن قيل لا تبين أيضا فمشكل لأنه حينئذ لا فائدة في التحليف مع أنه لرجاء النكول ( قوله : فللموطوءة المهر ) لتأكده به أطلقه ارتداده وارتدادها ، والخلوة بها لأنها وطء حكما ( قوله : ولغيرها النصف إن ارتد ) لأن الفرقة من قبله قبل الدخول موجبة لنصف المهر عند التسمية وللمتعة عند عدمها ( قوله : ، وإن ارتدت لا ) أي ليس لها شيء لأن الفرقة جاءت من قبلها أطلقه فشمل الحرة ، والأمة الكبيرة ، والصغيرة ، وقد قدمنا التصريح بذلك في باب نكاح الرقيق في شرح قوله ويسقط المهر بقتل السيد أمته لا بقتل الحرة نفسها ولم أر من صرح به هنا للاكتفاء بما ذكروه هناك وحكم نفقة العدة كحكم المهر قبل الدخول فإن كان هو المرتد فلها نفقة العدة ، وإن ارتدت فلا نفقة لها ( قوله : والإباء نظيره ) أي إن إباء أحد الزوجين عن الإسلام بعد إسلام الآخر نظير الارتداد فإن كان بعد الدخول فلها كل المهر ، وإن كان قبله فلها النصف إن كان هو الآبي عن الإسلام ، وإن كانت هي الآبية فلا شيء لها كما لا نفقة لها في العدة .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله : ما إذا خرجت مسلمة أو ذمية ) وكذا إذا أسلمت في دارنا أو صارت ذمية [ ص: 230 ] ( قوله : وظاهر مفهوم الكتاب . . . إلخ ) قال الباقاني في شرح الملتقى هذا الخلاف يتحقق في الحائل ، والحامل في وجوب العدة وعدم وجوبها أما أنه هل يجوز نكاح الحامل عنده مع عدم العدة ففي ظاهر الرواية لا يجوز ذكره في الحقائق نقلا عن المبسوط فمن استثنى الحامل فقد توهم ومنشؤه قول الهداية : وإن كانت حاملا لم تزوج حتى تضع ففهم أن المانع عنده وجوب العدة كما صرح به ابن فرشتة وغيره ، والحال أن آخر عبارة الهداية تؤذن بأن المانع إنما هو ثبوت النسب فافهم ( قوله : مع أن القدسي في الحاوي قال . . . إلخ ) يعني أن قول أبي يوسف ليس مختارا هنا فقط ( قوله : أو يصرفها إليه إن كان مصرفا ) أي يصرفها الإمام إليه وظاهره أنه ليس له الاستيلاد عليها بلا شراء أو صرف وقد نقل في القنية عن الوبري أن من له حظ في بيت المال ظفر بماله وجه لبيت المال فله أن يأخذه ديانة ونظمه ابن وهبان في منظومته ، وفي البزازية قال الإمام الحلواني : إذا كان عنده وديعة فمات المودع بلا وارث له أن يصرف الوديعة إلى نفسه في زماننا هذا لأنه لو أعطاها لبيت المال لضاعت لأنهم لا يصرفونه مصارفه فإذا كان من أهله صرفه إلى نفسه وإلا صرفه إلى المصرف ( قوله : فلو أفتى مفت بهذه الرواية . . . إلخ ) قال تلميذ المؤلف في منحه : ومن تصفح أحوال نساء زماننا وما يقع منهن من موجبات الردة مكررا في كل يوم لم يتوقف في الإفتاء بهذه الرواية ا هـ .

                                                                                        وفي النهر : ولا يخفى أن الإفتاء بما اختاره بعض أئمة بلخ أولى من الإفتاء بما في النوادر ولقد شاهدنا من المشاق في تجديدها فضلا عن جبرها بالضرب ونحوه ما لا يعد ولا يحد ، وقد كان بعض مشايخنا من علماء العجم ابتلي بامرأة تقع فيما يوجب الكفر كثيرا ثم تنكر وعن التجديد تأبى ، ومن القواعد : المشقة تجلب التيسير ، والله تعالى الميسر لكل عسير ا هـ .

                                                                                        لكن ما ذكره يفيد أن ما اختاره أئمة بلخ أولى مما اختاره أئمة بخارى لا مما [ ص: 231 ] في النوادر تأمل ( قوله : يملكها . . . إلخ ) أي على ظاهر الرواية حيث كان الدار دار حرب ( وقوله : وتعتد بثلاث حيض . . . إلخ ) أقول : ويلحقها الطلاق لو أوقعه في العدة إلا إذا لحق بدار الحرب لما سيأتي قبيل باب تفويض الطلاق عن البدائع ونصه : وإذا ارتد ولحق بدار الحرب وطلقها في العدة لم يقع لانقطاع العصمة فإن عاد إلى دار الإسلام وهي في العدة وقع وإذا ارتدت ولحقت لم يقع عليها طلاقه فإن عادت قبل الحيض لم يقع كذلك عند أبي حنيفة لبطلان العدة باللحاق ثم لا تعود بخلاف المرتد كذا في البدائع ا هـ .

                                                                                        ( قوله : يرث من امرأته المرتدة . . . إلخ ) هذا إذا كانت ردتها في مرضها قال في الخانية : من فصل المعتدة التي ترث إذا ارتد الرجل ، والعياذ بالله تعالى فقتل أو لحق بدار الحرب أو مات في دار الإسلام على الردة ورثته امرأته ، وإن ارتدت المرأة ثم ماتت أو لحقت بدار الحرب إن كانت الردة في الصحة لا يرثها الزوج ، وإن كانت في المرض ورثها الزوج استحسانا ، وإن ارتدا معا ثم أسلم أحدهما إن مات المسلم منهما لا يرثه المرتد ، وإن مات المرتد إن كان هو الزوج ورثته المسلمة ، وإن كانت المرتدة قد ماتت فإن كان ردتها في المرض ورثها الزوج المسلم ، وإن كانت في الصحة لم يرث ا هـ .

                                                                                        قلت : والفرق أن ردته في معنى مرض الموت لأنه يقتل إن أبى عن العود إلى الإسلام فلا فرق بين ردته في المرض أو في الصحة فيكون فارا فترثه إذا مات وهي في العدة بخلاف ردتها في الصحة لأنها لا تقتل فلم تكن في معنى الفارة .




                                                                                        الخدمات العلمية