الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( باب القسم ) بيان لحكم من أحكام النكاح وأخره لأنه لا يلزم إلا عند تعدد المنكوحات ، والنكاح لا يستلزمه ولا هو غالب فيه ، والقسم بفتح القاف مصدر قسم ، وفي القاموس : والقسم العطاء ولا يجمع ، والرأي ، والشك ، والغيث ، والماء ، والقدر وهذا ينقسم قسمين بالفتح إذا أريد المصدر وبالكسر إذا أريد النصيب ا هـ .

                                                                                        والمراد به هنا التسوية بين المنكوحات ، والأصل فيه أن الزوج مأمور بالعدل في القسمة بين النساء [ ص: 234 ] بالكتاب قال الله تعالى { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل } معناه لن تستطيعوا العدل ، والتسوية في المحبة فلا تميلوا في القسم قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال تعالى : { وعاشروهن بالمعروف } وغايته القسم .

                                                                                        وقال تعالى : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } ، وفي فتح القدير فاستفدنا أن حل الأربع مقيد بعدم خوف عدم العدل وثبوت المنع عن أكثر من واحدة عند خوفه فعلم إيجابه عند تعددهن ا هـ .

                                                                                        وظاهره أنه إذا خاف عدم العدل حرم عليه الزيادة على الواحدة ، وفي البدائع أي : { إن خفتم ألا تعدلوا } في القسم ، والنفقة في المثنى ، والثلاث ، والأربع فواحدة ندب إلى نكاح الواحدة عند خوف ترك العدل في الزيادة وإنما يخاف على ترك الواجب فدل على أن العدل بينهن في القسم ، والنفقة واجب ا هـ .

                                                                                        وظاهره أنه إذا خاف عدم العدل يستحب له أن لا يزيد لا أنه يحرم فإن قلت قد تقدم أنه إذا خاف الجور حرم التزوج فكيف يكون مستحبا قلت العدل بمعنى ترك الجور ليس بمراد هنا لأنه واجب للمرأة الواحدة وإنما المراد به التسوية بين المنكوحات وهذا إنما يحرم تركه بعد وجوبه لا التزوج إذا خاف عدمه ، وقد اختلف في تفسير قوله تعالى { ذلك أدنى ألا تعولوا } أي الاقتصار على الواحدة ، والمملوكات أقرب إلى أن لا تعولوا ففسر الأكثر العول بالجور يقال عال الميزان إذا مال وعال الحاكم إذا جار وفسره الشافعي بكثرة العيال ورد بأنه لو كان كذلك لقال أن لا تعيلوا لأنه من أعال يعيل

                                                                                        وأجيب عنه بأنه لغوي لا يعترض عليه بكلام غيره وبأنه ثبت في اللغة عال الرجل إذا كثرت مؤنته فتفسيره بكثرة العيال تفسير باللازم لأنه يلزم من كثرة العيال كثرة المؤن وبالحديث المروي في البخاري : { ابدأ بنفسك ثم بمن تعول } .

                                                                                        والحاصل أن العدل في الكتاب مبهم يحتاج إلى البيان لأنه أوجبه وصرح به بأنه مطلقا لا يستطاع فعلم أن الواجب منه شيء معين ، وكذا السنة جاءت مجملة فيه فإن قوله المروي في السنن الأربعة { كان عليه السلام يقسم فيعدل ويقول اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك } يعني القلب أي زيادة المحبة فظاهره أن ما عداه داخل تحت ملكه وقدرته في التسوية ، ومنه عدد الوطآت ، والقبلات ، والتسوية فيها غير لازمة بالإجماع وكذا ما رواه الإمام أحمد { من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل } أي مفلوج ولم يبين فيه المراد قال في فتح القدير : لكن لا نعلم خلافا في أن العدل الواجب في البيتوتة ، والتأنيس في اليوم ، والليلة وليس المراد أن يضبط زمان النهار فبقدر ما عاشر فيه إحداهما يعاشر الأخرى بقدره بل ذلك في البيتوتة وأما النهار ففي الجملة ا هـ .

                                                                                        والحاصل : أن التسوية في المحبة لما بين الشارع سقوطها بقي ما أجمعوا عليه مرادا وهو البيتوتة ، وظاهر كلامهم أن لا تجب التسوية فيما عداها ولذا قال في الهداية : والتسوية المستحقة في البيتوتة لا في المجامعة لأنه يبتنى على النشاط ا هـ .

                                                                                        وفي البدائع يجب عليه التسوية بين الحرتين أو الأمتين في المأكول ، والمشروب ، والملبوس ، والسكنى ، والبيتوتة ا هـ .

                                                                                        وهكذا ذكر الولوالجي ، والحق أنه على قول من اعتبر حال الرجل وحده في النفقة فالتسوية فيها واجبة أيضا وأما على قول المفتى به من اعتبار [ ص: 235 ] حالهما فلا لأن إحداهما قد تكون غنية ، والأخرى فقيرة فلا يلزمه التسوية بينهما مطلقا في النفقة ، وفي الغاية : اتفقوا على التسوية في النفقة قال الشارح : وفيه نظر فإنه في النفقة يعتبر حالهما على المختار فكيف يدعي الاتفاق فيها على التسوية ولا يتأتى ذلك إلا على قول من يعتبر حال الرجل وحده ا هـ .

                                                                                        ( قوله : والبكر كالثيب ، والجديدة كالقديمة ، والمسلمة كالكتابية فيه ) أي في القسم لإطلاق ما تلونا وما روينا ولأن القسم من حقوق النكاح ولا تفاوت بينهما في ذلك وما روي في الحديث { للبكر سبع وللثيب ثلاث } { وقوله : عليه السلام لأم سلمة إن شئت سبعت لك وسبعت لنسائي ، وإن شئت ثلثت لك ودرت } فالمراد التفضيل في البداءة بالجديدة دون الزيادة ولا شك أن الأحاديث محتملة فلم تكن قطعية الدلالة فوجب تقديم الدليل القطعي ، والأحاديث المطلقة وحينئذ فلا معنى لتردده في فتح القدير في القطعية وكما لا فرق بين ما ذكر ومقابليهن لا فرق بين المجنونة التي لا يخاف منها ، والمريضة ، والصحيحة ، والرتقاء ، والحائض ، والنفساء ، والصغيرة التي يمكن وطؤها ، والمحرمة ، والمظاهر منها ومقابلاتهن وأما المطلقة رجعيا فإن قصد رجعتها قسم لها وإلا لا كما في البدائع من باب الرجعة وأما الناشزة فلا حق لها في القسم وحيث علم أن وجوب القسم إنما هو للصحة ، والمؤانسة دون المجامعة فلا فرق بين زوج وزوج فالمجبوب ، والعنين ، والخصي كالفحل وكذا الصبي إذا دخل بامرأتيه لأن وجوبه لحق النساء وحقوق العباد تتوجه على الصبيان عند تقرر السبب ، وفي فتح القدير : وقال مالك ويدور ولي الصبي به على نسائه فظاهره أنه لم يطلع فيه على شيء عندنا وإذا قلنا بوجوبه على الصبي وتركه فهل يأثم الولي إذا لم يأمره بذلك ولم يدر به وينبغي أن يأثم

                                                                                        وفي المحيط : وإن لم يدخل الصغير بها فلا فائدة في كونه معها ا هـ . وظاهره أن القسم على البالغ لغير المدخول بها لأن في كونه معها فائدة ولذا إنما قيدوا بالدخول في امرأة الصبي ، وفي الجوهرة ولا يجامع المرأة في غير يومها ولا يدخل بالليل على التي لا قسم لها ولا بأس بأن يدخل عليها بالنهار لحاجة ويعودها في مرضها في ليلة غيرها فإن ثقل مرضها فلا بأس بأن يقيم عندها حتى تشفى أو تموت ا هـ .

                                                                                        وفي الهداية ، والاختيار في مقدار الدور إلى الزوج لأن المستحق هو التسوية دون طريقه ا هـ .

                                                                                        وفي فتح القدير واعلم أن هذا الإطلاق لا يمكن اعتباره على صرافته فإنه لو أراد أن يدور سنة سنة ما يظن إطلاق ذلك له بل لا ينبغي له أن يطلق له مقدار مدة الإيلاء وهو أربعة أشهر وإذا كان وجوبه للتأنيس ودفع الوحشة وجب أن تعتبر المدة القريبة وأظن أكثر من جمعة مضارة إلا أن يرضيا به ا هـ .

                                                                                        والظاهر الإطلاق لأنه لا مضارة حيث كان على وجه القسم لأنها مطمئنة بمجيء نوبتها ، والحق له في البداءة بمن شاء وحيث علم أن الوطء لا يدخل تحت القسم فهل هو واجب للزوجة ، وفي البدائع : وللزوجة أن تطالب زوجها بالوطء لأن حله لها حقها كما أن حلها له حقه وإذا طالبته يجب على الزوج ويجبر عليه في الحكم مرة واحدة ، والزيادة على ذلك تجب فيما بينه وبين الله تعالى ولا تجب عليه في الحكم عند بعض أصحابنا وعند بعضهم تجب عليه في الحكم ا هـ .

                                                                                        ولم يبين حد الزيادة على المرة ولا يمكن أن يقال كلما طلبت لأنه موقوف على شهوته لها ، وفي فتح القدير ويجب عليه وطؤها أحيانا ، وفي المعراج ولو أقام عند إحداهما شهرا فخاصمته الأخرى في ذلك قضى عليه أن يستقبل العدل بينهما وما مضى هدر غير أنه أثم فيه لأن القسمة تكون فيه بعد الطلب ولو عاد بعدما نهاه القاضي أوجعه عقوبة وأمره بالعدل لأنه أساء الأدب وارتكب ما هو حرام عليه وهو الجور فيعزر في ذلك ا هـ .

                                                                                        وحاصله أنه لا يعزر في المرة الأولى وإذا عزر فتعزيره بالضرب ، وفي الجوهرة : لا يعزر بالحبس لأنه لا يستدرك الحق فيه بالحبس لأنه يفوت بمضي الزمان ا هـ . وهذا مستثنى من قولهم إن للقاضي .

                                                                                        [ ص: 236 ] الخيار في التعزير بين الضرب ، والحبس .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( باب القسم ) [ ص: 234 ] ( قوله : فعلم إيجابه عند تعددهن ) قال في النهر : وكان ينبغي أن يكون فرضا لظاهر الآية فتدبر ا هـ .

                                                                                        وفيه أن الفرضية لا تثبت إلا بقطعي الثبوت ، والدلالة على ما تقرر في الأصول وهنا قوله تعالى : { فواحدة } يحتمل أن يكون المراد فالواجب واحدة أو المفروض واحدة أو المطلوب واحدة فليس صريحا بفرضية تزوج الواحدة فمن أين يؤخذ فرضية القسم ، وإن قلنا إنه خبر بمعنى الأمر فالأمر ليس نصا في الفرض القطعي بل يعم الظني كما صرحوا به وهذا بناء على أنه للوجوب وإلا فيحتمل الندب ، والإباحة وغيرهما فليس قطعي الدلالة على المراد وهذا إن أخذ من قوله تعالى { فواحدة } كما هو ظاهر كلام الفتح ، وإن أخذ من قوله تعالى { فإن خفتم } على ما يأتي فالأمر أظهر فتدبر ( قوله : وظاهره أنه إذا خاف عدم العدل يستحب أن لا يزيد . . . إلخ ) صرح به القهستاني حيث قال : مستدركا على ما في الخلاصة وغيرها من عدم الجواز لكن في شرح التأويلات جاز له ذلك فإن الأمر في قوله تعالى { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } أي الزموها محمول على الندب لا الحتم ا هـ .

                                                                                        وبه اندفع ما في شرح المقدسي من حمل الندب في كلام البدائع على اللغوي

                                                                                        ( قوله : وإنما المراد به التسوية بين المنكوحات ) لا يخفى أنه إذا وجبت عليه التسوية وتركها كان جورا وقد قالوا يحرم التزوج عند خوف الجور وتخصيص ما هنا بأنه يحرم بعد وجوبه يقال في غيره وإلا فما الفرق بين جور وجور تأمل ( قوله : لا التزوج إذا خاف عدمه ) انظر ما وقع هذا الكلام ولعله معطوف على قوله يحرم تركه ، والمعنى أنه يحرم تركه بعد وجوبه لا يحرم التزوج قبل وجوبه إذا خاف عدمه [ ص: 235 ] ( قوله : وظاهره أن القسم على البالغ ) الجار ، والمجرور متعلق بمحذوف أي واجب على البالغ ( قوله : والظاهر الإطلاق ) قال في النهر في نفي المضارة مطلقا نظر لا يخفى ا هـ .

                                                                                        لكن نقل في المنح عن الخلاصة التقييد بثلاثة أيام وكذا قال في الرمز للمقدسي ظاهره أنه لم يطلع على قدر عين فيه ، وفي الخلاصة ومنع الزيادة على الثلاثة الأيام إلا بإذن الأخرى ا هـ .

                                                                                        قلت لكن في القهستاني له أن يقيم عند امرأة ثلاثة أو سبعة وعند أخرى كذلك كما في قاضي خان ، والسراجية وغيرهما ا هـ .

                                                                                        وهو مؤيد لما بحثه في الفتح ويؤيده أيضا ما في كافي الحاكم حيث قال فإنه يكون عند كل واحدة منهما يوما وليلة فإن شاء أن يجعل لكل واحدة منهما ثلاثة أيام فعل وروي عن الأشعث عن الحكم عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه { قال لأم سلمة حين دخل بها إن شئت سبعت لك وسبعت لهن } ا هـ .

                                                                                        [ ص: 236 ] فإن مقتضى ذكره الحديث بعد التثليث أن له التسبيع ولم يذكر زيادة عليه .




                                                                                        الخدمات العلمية