الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : وإن ردت في يومها لم يبق في الغد ) يعني إذا اختارت زوجها في يومها انتهى ملكها فلا تملك اختيارها نفسها بعد ذلك وعليه الفتوى كذا في الولوالجية قيد بقوله اليوم وغدا لأنه لو قال : أمرك بيدك اليوم وأمرك بيدك غدا فهما أمران ذكره قاضي خان من غير ذكر خلاف فعزوه في الهداية هذا الفرع إلى أبي يوسف ليس لإثبات خلاف فيه وإنما هو لكونه خرجه فيتفرع عليه عدم اختيارها نفسها ليلا ، ولو قال : أمرك بيدك اليوم غدا بعد غد فهو أمر واحد في ظاهر الرواية لأنها أوقات مترادفة كقوله أمرك بيدك أبدا فيرتد بردها مرة وعن أبي حنيفة أن لها ثلاثة أمور لأنها أوقات حقيقة كذا في جامع التمرتاشي وقد علم من باب إضافة الطلاق إلى الزمان أنه لو قال : أمرك بيدك اليوم أنه يمتد إلى الغروب فقط بخلاف قوله أمرك بيدك في اليوم أنه يتقيد بالمجلس ، وقد صرح به في فتح القدير ، وفي الذخيرة : لو قال أمرك بيدك يوما أو شهرا أو سنة فلها الأمر من تلك الساعة إلى استكمال المدة المذكورة ولا يبطل بالقيام عن المجلس ولا بشيء آخر ويكون الشهر هنا بالأيام إجماعا ، ولو عرف فقال هذا اليوم أو هذا الشهر أو هذه السنة كان لها الخيار في بقية اليوم أو الشهر أو السنة ويكون الشهر هنا على الهلال وذكر الولوالجي إذا قال : أمرك بيدك إلى رأس الشهر فلها أن تطلق نفسها مرة واحدة في الشهر لأن الأمر متحد ، ولو قالت : اخترت زوجي بطل خيارها في اليوم ولها أن تختار نفسها في الغد عند أبي حنيفة [ ص: 349 ]

                                                                                        وقال أبو يوسف : خرج الأمر من يدها في الشهر كله ، ولو قال : أمرك بيدك هذه السنة فاختارت نفسها ثم تزوجها لم يكن لها خيار في باقي السنة ، ولو طلقها زوجها واحدة ولم يدخل بها ثم تزوجها في تلك السنة فلها الخيار عند أبي حنيفة لأن طلقات هذا الملك ما استوفيت بعد وقال أبو يوسف لا خيار لها لأنه إنما يكون في الملك ، وقد بطل وقدمنا في باب إضافة الطلاق إلى الزمان أنه لو قال : أمرك بيدك إلى عشرة أيام فالأمر بيدها من هذا الوقت إلى عشرة أيام تحفظ بالساعات ، ولو قال : أنت طالق إلى سنة يقع بعد السنة إلا أن ينوي الوقوع للحال ، والعتق كالطلاق وقدمنا أنواعا من هذا الجنس وهي مذكورة هنا في الخلاصة ، والبزازية ، والكل ظاهر إلا ما فيهما من أن الإبراء إلى الشهر كالطلاق إلا إذا قال : عنيت بالإبراء إلى الشهر التأخير يكون تأخيرا إليه ا هـ .

                                                                                        فإنه يقتضي صحة إضافة الإبراء ، وقد صرح في الكنز من آخر الإجارة أنه من قبيل ما لا تصح إضافته وقيد باتحاد الأمر باليد لأنه لو كرره بأن قال : أمرك بيدك وأمرك بيدك أو جعلت أمرك بيدك وأمرك بيدك كانا تفويضين لأن الواو للعطف لا للجزاء وكذلك لو قال : أمرك بيدك فأمرك بيدك لأن الفاء هنا بمعنى الواو ولأنه لا يصلح تفسيرا ، ولو قال : جعلت أمرك بيدك فأمرك بيدك فهو أمر واحد لأن معناه صار الأمر بيدك بجعل الأمر بيدك كقوله جعلتك طالقا فأنت طالق أو قال : قد طلقتك فأنت طالق طلقت واحدة .

                                                                                        ولو جمع بين تفويضين بالواو ، والفاء أو بغيرهما فإن كان بغيرهما بأن قال : أمرك بيدك طلقي نفسك فاختارت نفسها فقال : لم أرد بالأمر الطلاق يصدق قضاء مع يمينه لأنه ما وصل قوله : طلقي بالكلام المبهم لأنه لم يذكر حرف الوصل فكان كلاما مبتدأ فلم يصر تفسيرا للمبهم ، ولو كان بالعطف كقوله : أمرك بيدك واختاري فطلقي فاختارت لا يقع شيء لأنه عطف قوله فطلقي على التفويضين المبهمين فلا يكون تفسيرا لهما فبقي كلاما مبتدأ وقولها اخترت لا يصلح جوابا له فلا يقع ، وإن طلقت يقع واحدة رجعية لأنه يصلح جوابا له وكذا لو قال : أمرك بيدك واختاري فاختاري فطلقي نفسك فاختارت نفسها طلقت ثنتين مع يمينه أنه لم يرد بالأمر باليد الثلاث لأنه أتى بالتفويضين المبهمين بالعطف وهو للاشتراك فصار طلقي تفسيرا لهما وكذا لو قال : اختاري واختاري أو قال : أمرك بيدك وأمرك بيدك فطلقي نفسك فاختارت طلقت ثنتين ، ولو قال : أمرك بيدك اختاري اختاري فطلقي نفسك فاختارت نفسها وقال : لم أرد به الطلاق يقع تطليقة بائنة بالخيار الأخير لأن قوله فطلقي تفسير للأخير فقط ولو قال : أمرك بيدك فاختاري أو اختاري فأمرك بيدك فالحكم للأمر حتى إذا نوى بالثلاث يصح وإذا أنكر الثلاث وأقر بالواحدة يحلف لأن الأمر يصلح علة ، والاختيار يصلح حكما لا علة فصار الحكم للأمر تقدم أو تأخر .

                                                                                        وكذلك لو قال : أمرك بيدك فطلقي نفسك أو طلقي نفسك فأمرك بيدك ، ولو قال : أمرك بيدك فاختاري فطلقي فاختارت بانت بواحدة بالأمر لأن قوله فاختاري تفسير للأمر ، وقوله : فطلقي تفسير لقوله فاختاري ، ولو قال : أمرك بيدك فاختاري طلقي نفسك فاختارت لم يقع شيء إذا لم يرد بالأمر ، والتخيير طلاقا فإن طلقت نفسها وقعت رجعية وتمامه في المحيط وسيأتي إن شاء الله الجمع بين التفويضين لأجنبي ، وفي الجامع لو قال : أنت طالق اليوم ورأس الشهر يقع واحدة قيل تأويله أن يكون رأس الشهر غدا أما إذا كان بينهما حائل وقع طلاقان في وقتين وقيل ما وقع في الجامع قول محمد وهو يعتبر الفاصل وعند أبي يوسف تطليقتان ، ولو قال : أمرك بيدك اليوم فعن محمد إلى الغروب ، ولو قال في اليوم تقيد بالمجلس ذكره القدوري ، ولو قال في هذا الشهر فردته بطل عندهما لأنه تمليك واحدة وعند أبي يوسف بطل في ذكر المجلس لا في غيره كما لو قامت من مجلسها وقيل الخلاف بالقلب ، ولو قال اليوم أو شهرا فردته لم يبطل خيارها فيما بقي من المدة عند [ ص: 350 ] أبي حنيفة خلافا لهما لأن هذا تفويض واحد فيرتد بالرد وقال هو تمليك نصا تعليق معنى فمتى لم يذكر الوقت فالعبرة للتمليك ومتى ذكره فالعبرة للتعليق كذا في المعراج .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله : ولها أن تختار نفسها في الغد عند أبي حنيفة ) قال في النهر : أنت خبير بأن الفرع لا يخلو عن احتياج إلى تأمل وجهه إذ مقتضى كونه أمرا واحدا أن يبطل خيارها في الغد كما قاله المصنف ثم رأيته في الدراية وجه قول الإمام بأن الأمر باليد تمليك نصا تعليق معنى فمتى لم يذكر الوقت فالعبرة للتمليك ومتى ذكره فالعبرة للتعليق انتهى كلام النهر قال بعض الفضلاء ومثال ما إذا لم يذكر الوقت أمرك بيدك ومثال ما إذا ذكره أمرك بيدك اليوم وغدا أو أمرك بيدك إلى رأس الشهر لكن هذا يقتضي أن يبقى الأمر بيدها في الغد إن اختارت زوجها اليوم في أمرك بيدك اليوم وغدا وليس كذلك فالتناقض بحاله فتأمل ا هـ .

                                                                                        قلت : ووجهه في البدائع بأنه جعل الأمر بيدها في جميع الوقت فإعراضها في بعضه لا يبطل خيارها في الجميع كما إذا قامت عن مجلسها أو اشتغلت بأمر يدل على الإعراض ثم ذكر بعد هذا ما نصه : ولو قال أمرك بيدك اليوم وغدا أو قال أمرك بيدك هذين اليومين فلها الأمر في الوقتين تختار نفسها في أيهما شاءت ولا يبطل بالقيام عن المجلس ما بقي شيء من الوقتين وهل يبطل خيارها زوجها فهو على ما مر من الاختلاف ا هـ .

                                                                                        فقد أفاد أن الاختلاف جار في المسألتين فلا [ ص: 349 ] تناقض وممن صرح بالخلاف في مسألة اليوم ، وغدا الولوالجي في فتاويه فذكر أنها لو ردت الأمر في اليوم يبقى في الغد ، وفي الجامع الصغير لا يبقى وعليه الفتوى ( قوله : وقال أبو يوسف خرج الأمر ) قال في التتارخانية : وفي الخانية أو ردت الأمر أو قالت لا أختار الطلاق خرج الأمر من يدها في قول أبي حنيفة ومحمد وعلى قول أبي يوسف يبطل الأمر في ذلك المجلس لا في مجلس آخر ، وفي بعض الروايات ذكر الخلاف على عكس هذا ، والصحيح هو الأول ا هـ .

                                                                                        فما هنا من حكاية الخلاف على غير الصحيح وذكر في البدائع مثل ما مر غير أنه لم يذكر التصحيح ، وقد قدمنا عبارته ( قوله : فإنه يقتضي صحة إضافة الإبراء ) قال المقدسي في شرحه أقول : بعد أن ذكر أنه تأجيل معنى وليس بإبراء محض لا برد ذلك .




                                                                                        الخدمات العلمية