الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله وإن مات أو قتل على ردته ورث كسب إسلامه وارثه المسلم بعد قضاء دين إسلامه وكسب ردته فيء بعد قضاء دين ردته ) بيان لميراث المرتد بعد موته حقيقة وحاصله أن ما كان كسبا له زمن إسلامه فهو ميراث لورثته المسلمين اتفاقا ولا يكون فيئا عندنا خلافا للأئمة الثلاثة لأنه مات كافرا والمسلم لا يرث الكافر وهو مال حربي لا أمان له فكان فيئا ولنا أن ملكه بعد الردة باق فينتقل بموته إلى ورثته مستندا إلى ما قبيل ردته إذ الردة سبب للموت فيكون توريث المسلم من المسلم والاستناد لازم له على قول الأئمة الثلاثة أيضا لأن أخذ المسلمين له إذا لم يكن له وارث بطريق الوراثة وهو يوجب الحكم باستناده شرعا إلى ما قبيل ردته وإلا كان توريثا للكافر من المسلم ومحمل الحديث الكافر الأصلي الذي لم يسبق له إسلام فساوت قرابته المسلمين في ذلك فترجحت قرابته بجهة القرابة وتمامه في فتح القدير واستدل في البدائع بأن عليا رضي الله عنه لما قتل المستورد العجلي بالردة قسم ماله بين ورثته للمسلمين وكان بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم من غير إنكار فكان إجماعا وأشار بقوله وارثه إلى أن المعتبر وجود الوارث عند الموت أو القتل أو الحكم باللحاق وهو رواية محمد عن الإمام وهو الأصح كما في النهاية وفتح القدير لأن الحادث بعد انعقاد السبب قبل تمامه كالحادث قبل انعقاده بمنزلة الولد الحادث من المبيع قبل القبض وذكر في الهداية فيه ثلاث روايات .

                                                                                        وحاصله كما في النهاية أن على رواية الحسن يشترط الوصفان وهما كونه وارثا وقت الردة وكونه باقيا إلى وقت الموت أو القتل حتى لو كان وارثا وقت الردة ثم مات قبل موت المرتد أو حدث وارث بعد الردة فإنهما لا يرثان وعلى رواية أبي يوسف يشترط الوصف الأول دون الثاني وعلى رواية محمد يشترط الوصف الثاني دون الأول ا هـ .

                                                                                        فعلى الأصح لو كان من بحيث يرثه كافرا أو عبدا يوم ارتد فعتق بعد الردة قبل أن يموت أو يلحق أو أسلم ورثه كذا في فتح القدير وكذا لو ولد له ولد من علوق حادث بعد الردة إذا كان مسلما تبعا لأمه بأن علق من أمة مسلمة له وفي الخانية مسلم ارتد أبوه فمات الابن وله معتق ثم مات الأب وله معتق مسلم فإن ميراث الأب لمعتقه لا لمعتق ابنه لأن الابن إنما يرث من أبيه المرتد عند موت المرتد فإذا مات الابن قبل موت الأب لم يرثه الابن ا هـ .

                                                                                        وهو مفرع على غير رواية أبي يوسف أما عليها فالمال لمعتق الابن كما لا يخفى وأطلق الوارث فشمل المرأة فترثه امرأته المسلمة إذا مات أو قتل وهي في العدة لأنه يصير فارا إن كان صحيحا وقت الردة كذا في الهداية والتحقيق أن يقال أنه بالردة كأنه مرض مرض الموت باختياره بسبب المرض ثم هو بإصراره على الكفر مختارا في الإصرار الذي هو سبب القتل حتى قتل بمنزلة المطلق في مرض موته ثم يموت قتلا أو حتف أنفه أو بلحاقه فيثبت حكم [ ص: 142 ] الفرار كذا في فتح القدير .

                                                                                        ثم اعلم أن اشتراط قيام العدة لإرثها إنما هو على غير رواية أبي يوسف أما عليها فترثه وإن كانت منقضية العدة لكونها وارثة وقت الردة وهو مروي أيضا ثم اعلم أن اشتراط قيام العدة يقتضي أنها موطوءة فلا ترث غير المدخولة وهو كذلك وذلك لأن بمجرد الردة تبين غير المدخولة لا إلى عدة فتصير أجنبية ولما لم تكن الردة موتا حقيقيا حتى أن المدخولة إنما تعتد فيها بالحيض لا بالأشهر لم تنتهض سببا للإرث إذا لم يكن عند موت الزوج أو لحاقه أثر من آثار النكاح لأن الإرث وإن استند إلى الردة لكن يتقرر عند الموت وبهذا أيضا لا ترث المنقضية عدتها كذا في فتح القدير وينبغي أن يكون مفرعا أيضا على غير رواية أبي يوسف أما عليها فلا فرق بين المدخولة وغيرها وقيد الوارث بالإسلام لأن الكافر لا يرث المرتد وفي البدائع ولو ارتد الزوجان معا ثم جاءت بولد ثم قتل الأب على ردته فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت الردة يرثه لأنه علم أن العلوق حصل في حالة الإسلام قطعا وإن جاءت به لستة أشهر فصاعدا من وقت الردة لم يرثه لأنه يحتمل أنه علق في حالة الردة فلا يرث مع الشك ولو ارتد الزوج دون المرأة أو كانت له أم ولد مسلمة ورثه مع ورثته المسلمين .

                                                                                        وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر لأن الأم مسلمة فكان الولد على حكم الإسلام تبعا لأمه فيرث أباه ا هـ .

                                                                                        وأما ما كان كسبا له زمن ردته ففيه اختلاف فقالا هو كالأول ميراث لأن ملكه باق بعد الردة فينتقل بموته إلى ورثته مستندا إلى ما قبيل ردته وقال الإمام أنه فيء يوضع في بيت مال المسلمين كاللقطة لأنه إنما يمكن الاستناد في كسب الإسلام لوجوده قبل الردة ولا يمكن الاستناد في كسب الردة لعدمه قبلها ومن شرط استناد التوريث وجوده قبلها وحاصله أنه لا ملك له فيما اكتسبه زمن ردته حيث مات أو قتل وما ليس بمملوك له لا يورث عنه وهما لما قالا بأن أملاكه لا تزول بردته قالا بأن كسبه زمنها مملوك له فيورث عنه فالخلاف هنا مبني على الخلاف السابق في زوال أملاكه بالردة وفي القاموس الفيء ما كان شمسا فينسخه الظل والغنيمة والخراج والقطعة من الطير والرجوع ا هـ .

                                                                                        فله خمسة معان لغة وأما اصطلاحا فما يوضع في بيت مال المسلمين .

                                                                                        وأما حكم ديونه فأفاد أن ديون إسلامه تقضى من كسب إسلامه وأن دين ردته يقضى من كسب ردته وحاصله أن على قولهما تقضى ديونه من الكسبين لأنهما جميعا ملكه حتى يجري الإرث فيهما وأما على قول الإمام ففيه روايتان ففي رواية أبي يوسف عنه أنه في كسب الردة إلا أن لا يفي به فيقضي الباقي من كسب الإسلام وفي رواية الحسن عنه أنه في كسب الإسلام إلا أن لا يفي به فيقضي الباقي من كسب الردة وهو الصحيح لأن دين الإنسان يقضى من ماله لا من مال غيره وكذا دين الميت يقضى من ماله لا من مال وارثه وماله كسب الإسلام فأما كسب الردة فمال جماعة المسلمين فلا يقضى منه الدين إلا لضرورة فإذا لم يف به كسب الإسلام تحققت الضرورة فيقضى الباقي منه كذا في البدائع وهكذا صحح الولوالجي فقد علمت أن ما في المتن ليس على قول من الأقوال الثلاثة وإنما ذكره في البدائع قولا للحسن وزفر فقال وقال الحسن دين الإسلام في كسب الإسلام ودين الردة في كسب الردة وهو قول زفر ا هـ .

                                                                                        والحق أنها رواية زفر عن الإمام أيضا كما في النهاية وقوله في الهداية أنها رواية عن أبي حنيفة أي رواية زفر عنه لكنها ضعيفة كما علمت وظاهر الولوالجية أنه لو لم يكن له إلا أحد النوعين يقضي الدينان منه اتفاقا وسنوضحه من بعد إن شاء الله تعالى وقدمنا أن الكلام إنما هو في الحر .

                                                                                        وأن المكاتب خارج عن هذه الأحكام فلذا قال في الجوهرة أن ما اكتسبه المكاتب في حال ردته لا يكون فيئا وإنما يكون لمولاه لتعلق حقه به وسنوضحه من بعد إن شاء الله تعالى وقيد بالمرتد لأن المرتدة كسباها لورثتها [ ص: 143 ] لأنه لا حراب منها فلم يوجد سبب الفيء بخلاف المرتد عند أبي حنيفة ويرثها زوجها المسلم إن ارتدت وهي مريضة لقصدها إبطال حقه وإن كانت صحيحة لا يرثها لأنها لا تقتل فلم يتعلق حقه بما لها بالردة بخلاف المرتد .

                                                                                        والحاصل أن زوجة المرتد ترث منه مطلقا وزوج المرتدة لا يرثها إلا إذا ارتدت مريضة والكسب بفتح الكاف وكسرها الجمع كسبة جمعه كذا في القاموس وقد قدمنا حكم المرتدة في النكاح والعدة بأن نكاح الكافر .

                                                                                        [ ص: 140 - 141 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 140 - 141 ] قوله وإلا كان توريثا للكافر من المسلم ) كذا رأيته في الفتح والعبارة مقلوبة تأمل ( قوله فساوت قرابته المسلمين في ذلك ) كذا في النسخ والظاهر أنه سقط قبل هذا كلام وعبارة فتح القدير ومحمل الحديث الكافر الأصلي الذي لم يسبق له إسلام أو نقول استحقاق المسلمين له بسبب الإسلام والورثة ساووا المسلمين في ذلك وترجحوا بجهة القرابة ( قوله عند الموت أو القتل أو الحكم بلحاقه ) سيأتي قبيل قول المتن وتوقف مبايعته إلخ أن اعتبار كونه وارثا عند الحكم باللحاق قول أبي يوسف وأن محمدا اعتبر وقت اللحاق تأمل وفي شرح السير الكبير في ظاهر الرواية يعتبر من كان وارثا له يوم لحاقه ثم قال وفي رواية أخرى عن أبي حنيفة يعتبر من كان وارثا له يوم قضاء القاضي بلحاقه والأصح ما ذكر في ظاهر الرواية ( قوله بمنزلة الولد الحادث من المبيع قبل القبض ) قال في الفتح ألا ترى أن الولد الذي يحدث من المبيع بعد البيع قبل القبض يجعل كالموجود عند ابتداء العقد في أنه يصير معقودا عليه ويكون له حصة من الثمن إلا أنها غير مضمونة حتى لو هلك في يد البائع قبل القبض بغير فعل أحد هلك بغير شيء وبقي الثمن كله على البائع ( قوله الوصف الأول ) وهو كونه وارثا وقت الردة وقوله الوصف الثاني [ ص: 142 ] وهو كونه وارثا عند موت المرتد أو قتله أو القضاء بلحاقه وقوله فعلى الأصح وهي رواية عن محمد .




                                                                                        الخدمات العلمية