وإنما الكلام الآن في شروط الواقفين فقد أفادوا هنا أنه ليس كل شرط يجب اتباعه فقالوا هنا إن اشتراطه أن لا يعزله القاضي شرط باطل مخالف للشرع وبهذا علم أن قولهم شرط الواقف كنص الشارع ليس على عمومه قال العلامة قاسم في فتاواه أجمعت الأمة أن من شروط الواقفين ما هو صحيح معتبر يعمل به ومنها ما ليس كذلك ونص أبو عبد الله الدمشقي في كتاب الوقف عن شيخه شيخ الإسلام : قول الفقهاء : نصوصه كنص الشارع يعني في الفهم والدلالة لا في وجوب العمل مع أن التحقيق أن لفظه ولفظ الموصي والحالف والناذر وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها وافقت لغة العرب ولغة الشرع أم لا ولا خلاف أن من وقف على صلاة أو صيام أو قراءة أو جهاد غير شرعي ونحوه لم يصح . ا هـ .
قال العلامة قاسم قلت : وإذا كان المعنى ما ذكر فما كان من عبارة الواقف من قبيل المفسر لا يحتمل تخصيصا ولا تأويلا يعمل به وما كان من قبيل الظاهر كذلك وما احتمل وفيه قرينة حمل عليها وما كان مشتركا لا يعمل به لأنه لا عموم له عندنا ولم يقع فيه نظر المجتهد لترجح أحد مدلوليه وكذلك ما كان من قبيل المجمل إذا مات الواقف وإن كان حيا يرجع إلى بيانه هذا معنى ما أفاده . ا هـ .
قلت : فعلى هذا إذا ترك صاحب الوظيفة مباشرتها في بعض الأوقات المشروط عليه فيها العمل لا يأثم عند [ ص: 266 ] الله تعالى غايته أنه لا يستحق المعلوم ومن الشروط المعتبرة ما صرح به الخصاف لو شرط أن لا يؤجر المتولي الأرض فإن إجارتها باطلة وكذا اشترط أن لا يعامل على ما فيها من نخل وأشجار وكذا إذا شرط أن المتولي إذا أجرها فهو خارج عن التولية فإذا خالف المتولي صار خارجا ويوليها القاضي من يثق بأمانته وكذا إذا شرط أنه إن أحدث أحد من أهل هذا الوقف حدثا في الوقف يريد إبطاله كان خارج اعتبر فإن نازع البعض وقال أردت تصحيح الوقف وقال سائر أهل الوقف إنما أردت إبطاله نظر القاضي في القوم الذين تنازعوا فإن كانوا يريدون تصحيحه فلهم ذلك وإن كانوا يريدون إبطاله أخرجهم وأشهدهم على إخراجهم .
ولو شرط أن من نازع القيم وتعرض له ولم يقل لإبطاله فنازعه البعض وقال منعني حقي صار خارجا ولو كان طالبا حقه اتباعا للشرط كما لو شرط أن من طالبه بحقه فللمتولي إخراجه فلو أخرجه ليس له إعادته بدون الشرط ومنها ما لو وقف على أولاده وشرط أن من انتقل إلى مذهب المعتزلة صار خارجا فانتقل منهم واحد صار خارجا فإن ادعى على واحد منهم بأنه صار معتزليا فالبينة على المدعي والقول للمنكر وكذا لو كان الواقف من المعتزلة وشرط أن من انتقل إلى مذهب أهل السنة صار خارجا اعتبر شرطه ولو شرط أن من انتقل من مذهب أهل السنة إلى غيره فصار خارجيا أو رافضيا خرج فلو ارتد والعياذ بالله تعالى عن الإسلام خرج المرأة والرجل سواء فلو شرط أن من خرج من مذهب الإثبات إلى غيره خرج فخرج واحد ثم عاد إلى مذهب الإثبات لا يعود إلى الوقف إلا بالشرط وكذلك لو عين الواقف مذهبا من المذاهب وشرط أنه إن انتقل عنه خرج اعتبر شرطه .
وكذا لو شرط أن من انتقل من قرابته من بغداد فلا حق له اعتبر لكن هنا إذا عاد إلى بغداد رد إلى الوقف ولو شرط وقفه على العميان والشرط باطل وتكون الغلة للمساكين لأن فيهم الغني والفقير وهم لا يحصون وكذا على العوران والعرجان والزمنى . ا هـ .
مختصرا ومنها ما في قاضي خان لو وقف على أمهات أولاده وشرط عدم تزوجهن كان الشرط صحيحا فعلى هذا لو شرط في حق الصوفية بالمدرسة عدم التزوج كما بالمدرسة الشيخونية بالقاهرة اعتبر شرطه ومنها ما في الفتاوى أيضا لو شرط الواقف أن لا تؤاجر أكثر من سنة والناس لا يرغبون في استئجارها وكانت إجارتها أكثر من سنة أنفع للفقراء فليس للقيم أن يؤاجرها أكثر من سنة ولكنه يرفع الأمر إلى القاضي حتى يؤاجرها القاضي أكثر من سنة لأن للقاضي ولاية النظر على الفقراء وعلى الميت أيضا ولو شرط أن لا تؤجر أكثر من سنة إلا إذا كان أنفع للفقراء كان للقيم أن يؤاجرها بنفسه أكثر من سنة إذا كان رأى ذلك خيرا ولا يحتاج إلى القاضي . ا هـ .
وبهذا ظهر أن الشرائط الراجعة إلى الغلة وتحصيلها لا يقدر المتولي على مخالفتها ولو كان أصلح للوقف وإنما يخالفها القاضي وهذا بخلاف ما لم ترجع إلى الغلة فإنه لا يجوز مخالفة القاضي كما قدمناه في تقرير القاضي فراشا للمسجد بغير شرط الواقف فإنه غير جائز وفي القنية وقف على المتفقهة حنطة فيدفعها القيم دنانير [ ص: 267 ] فلهم طلب الحنطة ولهم أخذ الدنانير إن شاءوا . ا هـ .
وبهذا يعلم أن الخيار للمستحقين في أخذ الخبز المشروط لهم أو قيمته وظاهره أنه لا خيار للمتولي وأنه يجبر على دفع ما شاءوا وفي القنية يجوز صرف شيء من وجوه مصالح المسجد إلى الإمام إذا كان يتعطل لو لم يصرف إليه يجوز صرف الفاضل عن المصالح إلى الإمام الفقير بإذن القاضي لا بأس بأن يعين شيئا من مسبلات المصالح للإمام زيد في وجه الإمام من مصالح المسجد ثم نصب إمام آخر فله أخذه إن كانت الزيادة لقلة وجود الإمام وإن كان لمعنى في الإمام الأول نحو فضيلة أو زيادة حاجة فلا تحل للثاني قال الإمام للقاضي إن مرسومي المعين لا يفي بنفقتي ونفقة عيالي فزاد القاضي في مرسومه من أوقاف المسجد بغير رضا أهل المحلة و الإمام مستغن وغيره يؤم بالمرسوم المعهود تطيب له الزيادة إذا كان عالما تقيا . ا هـ .
ثم قال إذا شرط الواقف أن يعطي غلتها من شاء أو قال على أن يضعها حيث شاء فله أن يعطي الأغنياء وفيها من باب الوقف الذي مضى زمن صرفه ولم يصرفه إلى المصرف ماذا يصنع به وقف مستغلا على أن يضحي عنه بعد موته من غلته كذا شاة كل سنة وقفا صحيحا ولم يضح القيم عنه حتى مضت أيام النحر يتصدق به وفيها باب تصرفات القيم من التبديل وتغيير الشروط ونحوها قال أبو نصر الدبوسي رحمه الله إذا جعل الوقف على شراء الخبز والثياب والتصدق بها على الفقراء يجوز عندي بأن يتصدق بعين الغلة من غير شراء خبز ولا ثوب لأن التصدق هو المقصود حتى جاز التقرب بالتصدق دون الشراء .
ولو وقف على أن يشتري بها الخيل والسلاح على محتاجي المجاهدين جاز التصدق بعين الغلة كالخبز والثياب وإن شرط أن يسلمه الخيل والسلاح فيجاهد من غير تمليك ويسترد ممن أحب ثم يدفع إلى من أحب جاز الوقف ويستوي فيه الغني والفقير ولا يجوز التصدق بعين الغلة ولا بالسلاح بل يشتري الخيل والسلاح ويبذلها لأهلها على وجهها لأن الوقف وقع للإباحة لا للتمليك وكذا لو وقف على شراء النسم وعتقها جاز ولم يجز إعطاء الغلة وكذا لو وقف ليضحي أو ليهدي إلى مكة فيذبح عنه في كل سنة جاز وهو دائم أبدا وكذا كل ما كان من هذا الجنس يراعى فيه شرط الواقف كما لو نذر بعتق عبده أو بذبح شاته أضحية لم يتصدق بقيمته وعليه الوفاء بما سمى ولو نذر أن يتصدق بعبده على الفقراء أو شاته أو ثوبه جاز التصدق بعينه أو بقيمته .
ولو وقف على محتاجي أهل العلم أن يشتري لهم الثياب والمداد والكاغد ونحوها من مصالحهم جاز الوقف وهو دائم لأن للعلوم طلابا إلى يوم القيامة ويجوز مراعاة الشرط ويجوز التصدق عليهم بعين الغلة ولو وقف ليشتري به الكتب ويدفع إلى أهل العلم فإن كان تمليكا جاز التصدق بعين الغلة وإن كان إباحة وإعارة فلا وقف على من يقرأ القرآن كل يوم منا من الخبز وربعا من اللحم فللقيم أن يدفع إليهم قيمة ذلك ورقا ولو وقف على أن يتصدق بفاضل غلة الوقف على من يسأل في مسجد كذا كل يوم .
فللقيم أن يتصدق به على السؤال في غير ذلك المسجد أو خارج المسجد أو على فقير لا يسأل قال رضي الله عنه الأولى عندي أن يراعى في هذا الأخير شرط الواقف . ا هـ .
فإن قلت : هل الوصف في الموقوف عليهم كصريح الشرط كما لو وقف على إمام حنفي قلت : نعم فلا يجوز [ ص: 268 ] تقرير غير الحنفي .
قال في القنية وقف ضيعته على أولاده الفقهاء وأولاد أولاده إن كانوا فقهاء ثم مات أحدهم عن ابن صغير تفقه بعد سنين لا يوقف نصيبه ولا يستحق قبل حصول تلك الصفة وإنما يستحق الفقيه وإن كان واحدا . ا هـ .
والله أعلم .


