الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        قوله ( ولو اشترى مكيلا كيلا حرم بيعه ، وأكله حتى يكيله ) أي حتى يعيد كيله لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان صاع البائع وصاع المشتري ، ولأنه يحتمل أن يزيد على المشروط ، وذلك للبائع ، والتصرف في مال الغير حرام فيجب التحرز عنه ، قيد بقوله كيلا أي بشرط الكيل لأنه لو اشتراه مجازفة لا يحرم البيع ، والأكل قبل الكيل لأن الكل له ، ولم يذكر المؤلف فساد البيع ، ونص في الجامع الصغير على فساده لأن سبب النهي أمر راجع إلى المبيع ، ولكن النص إنما هو في البيع فألحقوا به منع الأكل قبل الكيل وكل تصرف يبنى على الملك كالهبة والوصية ، وألحقوا بالمكيل الموزون ، وفي فتح القدير ، وينبغي إلحاق المعدود الذي لا يتفاوت كالجوز والبيض إذا اشتري بالعدد ، وبه قال أبو حنيفة في أظهر الروايتين عنه فأفسد البيع قبل العد . ا هـ .

                                                                                        ولا يلزم من حرمة أكله قبل الإعادة كون الطعام حراما فقد نص في الجامع الصغير أنه لو أكله وقد قبضه بلا كيل لا يقال إنه أكل حراما لأنه أكل ملك نفسه إلا أنه يأثم لتركه ما أمر به من الكيل فكان هذا الكلام أصلا في سائر المبيعات بيعا فاسدا إذا قبضها فملكها فأكلها .

                                                                                        وتقدم أنه لا يحل أكل ما اشتراه فاسدا ، وهذا يبين أن ليس كل ما لا يحل أكله إذا أكله أن يقال فيه أكل حراما كذا في فتح القدير ، وقد ليس يقال هذا كأكل المبيع بيعا فاسدا لتعلق حق البائع بجميع المبيع ، ووجوب فسخه ، وأما هنا فلا يملك البائع الفسخ ، ولم يتعلق حق البائع إلا بالزيادة الموهومة فيمكن أن يقال في المبيع فاسدا أكل حراما ، ولكن رأيت في الخلاصة في الأيمان من الثاني عشر في الأكل قال وفي فوائدشمس الأئمة الحلواني لو أكل من الكرم الذي دفع معاملة ، وهو قد حلف لا يأكل حراما لا يحنث أما عندهما لا يشكل ، وعند أبي حنيفة كذلك لأن ذلك عقد فاسد عنده فقد أكل ملك نفسه ا هـ .

                                                                                        فالحق ما في فتح القدير ، وإنما ذكر المؤلف كيل المشتري وحده دون كيل البائع مع أن الحديث اشترط الصاعين لأن صاع البائع ليس بلازم لكل بيع لأن البائع إذا ملكه بالإرث أو المزارعة أو كان شراؤه مجازفة أو استقرض حنطة على أنها كر ثم باعها فالحاجة إلى كيل المشتري ، وإن كان الاستقراض تمليكا بعوض كالشراء لكنه شراء صورة عارية حكما لأن ما يرده عين المقبوض حكما ، ولهذا لم يجب قبض بدله في مال الصرف فكان تمليكا بلا عوض حكما .

                                                                                        ولو اشترى مكايلة ثم باع مجازفة قبل الكيل ، وبعد القبض في ظاهر الرواية لا يجوز لاحتمال اختلاط ملك البائع بملك بائعه ، وفي نوادر ابن سماعة يجوز ، وإنما يحتاج إلى كيل البائع إذا كان البائع اشتراه مكايلة ، وظاهر كلام المصنف يدل على أن كيل البائع لا يكفي عن كيل المشتري ، وهو محمول على ما إذا كاله البائع قبل [ ص: 129 ] البيع مطلقا أو بعده في غيبة المشتري أما إذا كاله في حضرته فإنه يغني عن كيله ، وهو الصحيح لأن المبيع صار معلوما بكيل واحد ، وتحقق معنى التسليم ، ومحمل الحديث اجتماع الصفقتين على ما نبين في السلم إن شاء الله تعالى كذا في الهداية ، ومن هنا ينشأ فرع ، وهو ما لو كيل طعام بحضرة رجل ثم اشتراه في المجلس ثم باعه مكايلة قبل أن يكتاله بعد شرائه لا يجوز هذا البيع سواء اكتاله للمشتري منه أو لا لأنه لما لم يكتل بعد شرائه هو لم يكن قابضا فبيعه بيع ما لم يقبض كذا في فتح القدير قوله ( ومثله الموزون والمعدود ) أي مثل المكيل شراء الموزون وزنا ، والمعدود عددا فلا يجوز البيع والأكل حتى يعيد الوزن والعد ، وهو مقيد بغير الدراهم والدنانير أما هما فيجوز التصرف فيهما بعد القبض قبل الوزن كذا في الإيضاح ، وقيد بالمبيع لما في المحيط لو كان المكيل أو الموزون ثمنا يجوز التصرف فيه قبل الكيل ، والوزن لأنه إذا جاز قبل القبض فقبل الكيل أولى ، وهذا كله في غير بيع التعاطي أما هو فقال في القنية ، ولا يحتاج في بيع التعاطي في الموزونات إلى وزن المشتري ثانيا لأنه صار بيعا بالقبض بعد الوزن . ا هـ . وفي الخلاصة ، وعليه الفتوى

                                                                                        قوله ( لا المذروع ) أي لا يحرم بيعه ، والتصرف فيه قبل إعادة الذرع بعد القبض ، وإن كان اشتراه بشرط الذرع لأن الزيادة له إذ الذرع وصف في الثوب ، واحتمال النقص إنما يوجب خياره ، وقد أسقطه ببيعه بخلاف القدر ، وظاهر كلامهم أنه لو أفرد لكل ذراع ثمنا صار كالموزون ، وقد صرح به العيني في شرح الكنز .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله ولم يذكر المؤلف فساد البيع ) أي بيع المشتري لما قاله نوح أفندي أي يحرم عليه بيعه وأكله حتى يكيله أو حتى يعيد الكيل فلو باعه بلا إعادة الكيل يكون البيع فاسدا نص عليه في الجامع الصغير ، وقال بقولنا هذا مالك والشافعي وأحمد . ا هـ .

                                                                                        ومقتضى هذا أن البيع الأول انعقد صحيحا ، ولكن حل التصرف فيه من أكل أو بيع موقوف على الكيل ، وكذا صحة البيع الثاني موقوفة على الكيل ، ووجه ذلك كما دل عليه الفرع الآتي آخرا عن فتح القدير أن صحة القبض موقوفة على الكيل ، ولو قبضه بيده لاحتمال الزيادة فإذا باعه قبل كيله فكأنه باع قبل القبض ، والتصرف في المنقول قبل قبضه لا يصح كما مر فكانت هذه المسألة من فروع المسألة التي قبلها فلذا أعقبها بها قبل ذكر التصرف في الثمن فتدبر ( قوله وينبغي إلحاق المعدود إلخ ) ليس هذا بحثا فيما لا نقل فيه في المذهب لنا فإنه لقوله ، وبه قال أبو حنيفة ، ولأنه سيأتي متنا ، وإنما هو استظهار لوجه الحلقة [ ص: 129 ] بالمنصوص عليه في الحديث كما هو أظهر الروايتين .

                                                                                        ( قوله أما إذا كان في حضرته فإنه يغني عن كيله ) أي عن كيل المشتري فيما يظهر ، وعليه فصورة المسألة اشتراه مكايلة وكاله لنفسه ثم باعه كذلك ، وكاله بحضرة المشتري منه أغنى ذلك المشتري عن كيله ، ويحتمل عود الضمير إلى البائع ، وصورته اشتراه مكايلة ، ولم يكله لنفسه حتى باعه من آخر ، وكاله بحضرة المشتري منه فإنه يغني عن كيله أي كيل البائع ، ويدل على هذا التعليل بقوله لأن المبيع صار معلوما بكيل واحد هذا هو المتبادر من كلام الهداية فراجعه لكن ينافيه قوله ومن هنا ينشأ فرع إلخ فإن قوله سواء اكتاله للمشتري منه أو لا يدل على أن كيله للمشتري منه قبل كيله لنفسه لا يغني عن كيله اللهم إلا أن يحمل على أن كيله للمشتري منه وقع في غيبة ذلك المشتري أو يقال إن اللام في قوله للمشتري منه زائدة من تحريف النساخ ، وأصلها همزة الوصل ، وأقول : المراد بالحضرة أعم من أن يراه أو لا قال في القنية بعد ما رقم ( مح ) يشتري من الخباز خبزا كذا منا فيزنه ، وكفة سنجات ميزانه في دربنده فلا يراه المشتري أو من البائع كذا منا فيزنه في حانوته ثم يخرجه إليه موزونا لا يجب عليه إعادة الوزن ، وكذا إذا لم يعرف عدد سنجاته قال رضي الله تعالى عنه فعرف بهذا أنه إذا عرف المشتري وزن السنجات ورآها أن يكتفي بذلك خلاف ما دل عليه ظاهر { نهي النبي عليه السلام عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان صاع البائع ، وصاع المشتري } ا هـ .




                                                                                        الخدمات العلمية