الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        قوله ( ومن كفل عن رجل بما ذاب له عليه أو بما قضي له عليه فغاب المطلوب فبرهن المدعي على الكفيل أن له على المطلوب ألفا لم يقبل ) لأن المكفول به مال يقضي به وهذا في لفظ القضاء ظاهر وكذا في الأخرى ; لأن معنى ذاب تقرر وهو وبالقضاء إذ المضمون مال يقضى به وهذا ماض أريد به المستقبل كقوله أطال الله بقاءك والدعوى على الكفيل غير مقيدة بأن المال وجب على الأصيل بعد الكفالة بل يحتمل أنه بعدها كما يحتمل أن يكون قبلها فلا تصح ، وحاصله أنه قضاء على الغائب وهو الأصيل من غير خصم عنه وجزمهم هنا بعدم القبول ينبغي أن يكون على الرواية الضعيفة أما على أظهر الروايتين المفتى به من نفاذ القضاء على الغائب فينبغي النفاذ ولم أر من نبه عليه هنا بقوله برهن أن له على المطلوب ; لأنه لو ادعى الوجوب بعد الكفالة بأن قال حكم لي عليه القاضي فلان بكذا بعد الكفالة وبرهن قبل لدخوله تحت الكفالة وأشار المؤلف إلى أن الكفيل لو أقر على الأصيل بألف لم تجب على الكفيل ; لأن إقراره لا يوجب على الأصيل شيئا فلم يجب به على الكفيل .

                                                                                        قوله ( ولو برهن أن له على زيد كذا وأنه كفيل عنه بأمره قضي به عليهما ولو بلا أمر قضي على الكفيل فقط ) وإنما قبل البرهان هنا لأن [ ص: 258 ] المكفول به مال مطلق ، بخلاف ما تقدم وإنما يختلف بالأمر وعدمه لأنهما يتغايران لأن الكفالة بالأمر تبرع ابتداء ومعاوضة انتهاء وبغير أمر تبرع ابتداء وانتهاء فبدعواه أحدهما لا يقضى له بالآخر ، وإذا قضي بها بالأمر يثبت أمره وهو يتضمن الإقرار بالمال فيصير مقضيا والكفالة بأمر لا تمس جانبه ; لأنه يعتمد صحتها قيام الدين في زعم الكفيل فلا يتعدى إليه في الكفالة بأمر يرجع الكفيل بما أدى على الآمر ، وقال زفر : لا يرجع لأنه لما أنكر فقد ظلم في زعمه فلا يظلم غيره ونحن نقول صار مكذبا شرعا فبطل ما زعمه قيد بقوله له على زيد كذا وإن هذا كفيل عنه يعني بهذا المقدار ; لأن الكفالة لو كانت مطلقة نحو أن يقول كفلت بمالك على فلان فإن القضاء على الكفيل قضاء على الأصيل سواء كانت بأمره أو بغير أمره ; لأن الطالب لا يتوصل إلى إثبات حقه على الكفيل إلا بعد إثباته على الأصيل لما ذكرنا أن القول قول الكفيل أنه ليس للطالب على الأصيل شيء ، وإذا كان كذلك صار الكفيل خصما عنه وإن كان غائبا والمذهب عندنا أن القضاء على الغائب لا يجوز إلا إذا ادعى على الحاضر حقا لا يتوصل إليه إلا بإثباته على الغائب قال مشايخنا وهذا طريق من أراد إثبات الدين على الغائب من غير أن يكون بين الكفيل والغائب اتصال .

                                                                                        وكذا إذا خاف الطالب موت الشاهد يتواضع مع رجل ويدعي عليه مثل هذه الكفالة فيقر الرجل بالكفالة وينكر الدين فيقيم المدعي البينة على الدين فيقضى به على الكفيل والأصيل ثم يبرئ الكفيل .

                                                                                        والحاصل أنها على أربعة أوجه مطلقة عن المقدار ومقيدة به وكل على وجهين : إما بالأمر أو بعدمه فلا تفصيل في المطلقة وهي الحيلة في القضاء على الغائب والتفصيل في المقيدة ولا تصلح للحيلة ; لأن شرط التعدي إلى الغائب كونها بأمره والحوالة على هذه الوجوه ، وفي فتاوى قاضي خان بعد أن ذكر أن الكفالة المطلقة وهي الحيلة في الإثبات على الغائب قال وليس هو القضاء على المسخر لأن المدعي صادق في دعواه على الكفيل ثم يبرئ المدعي الكفيل عن المال والكفالة ويبقى المال له على الغائب . ا هـ .

                                                                                        ومن هنا علم أن ما ذكره الشارح فيما يأتي في شرح قوله ولا يقضى على غائب إلا أن يكون ما يدعي على الغائب سببا لما يدعي على الحاضر أن من الصور الكفالة المقيدة بألف درهم إلى آخره سهو ظاهر وإنما هو في المطلقة وسيأتي التنبيه عليه في محله إن شاء الله تعالى .

                                                                                        [ ص: 257 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 257 ] ( قوله : وجزمهم هنا بعدم القبول ينبغي أن يكون على الرواية الضعيفة إلخ ) أقول : بل هو على كل الروايات لأن الكلام ليس في نفاذ القضاء بعد وقوعه ليكون مفرعا على الرواية القائلة بعدم النفاذ وإنما هو في قبول البينة وعدمه ، كذا في المنح شرح التنوير وأقره الرملي في الحاشية فليتأمل وفي النهر ولقائل أن يقول لا نسلم أن هذا البرهان لا يقضى به بل يقضى به إذ القضاء على الغائب في مثله صحيح ففي العمادية ادعى رجل أنه كفل عن فلان بما يذوب له عليه فأقر المدعى عليه بالكفالة وأنكر الحق وأقام المدعي بينة أنه ذاب له على فلان كذا فإنه يقضى به في حق الكفيل الحاضر وفي حق الغائب جميعا حتى لو حضر الغائب وأنكر لا يلتفت إلى إنكاره . ا هـ .

                                                                                        كذا في الحواشي اليعقوبية ويمكن أن يجاب بأن الكفيل يكون هناك خصما له ، بخلاف ما نحن فيه وفيه نظر إذ الموجب لكونه ليس خصما فيما نحن فيه موجود في فرع الفصول كما لا يخفى فتدبره . ا هـ .

                                                                                        أقول : وقد أجاب في الحواشي اليعقوبية بأن المانع من صحة الكفالة وقبول البينة في الصورة المذكورة عدم المطابقة لكون الدعوى مطلقة وقول صاحب الهداية والدعوى مطلقة عن ذلك صريح كما لا يخفى فليتأمل . ا هـ .

                                                                                        وما ذكره في النهر بقوله ويمكن أن يجاب أجاب به في الحواشي السعدية ، وقد يدفع ما نظر فيه وذلك أن الموجب لكونه ليس خصما فيما نحن كما قال في الفتح أنه جعل الذوب شرطا للكفالة فما لم يوجد الذوب بعدها لا يكون كفيلا والدعوى مطلقة عن ذلك لم تشهد بقضاء مال وجب بعد الكفالة فلم تقم على من اتصف بكونه كفيلا عن الغائب بل على أجنبي . ا هـ .

                                                                                        وهذا بخلاف فرع العمادية لأن المدعي هناك ادعى أنه ذاب له على فلان كذا وبرهن على ذلك ، وقد قالوا : إن ذاب بمعنى تقرر ووجب وهو بالقضاء فيساوي الفرع الذي يذكره المؤلف وهو أنه لو قال حكم لي عليه القاضي فلان بكذا بعد الكفالة وبرهن يقبل فحينئذ يكون خصما لوجود الشرط هذا ما ظهر لي فتأمله ورأيت في حاشية العلامة الواني على شرح الدرر قال بعد ذكره النقض بفرع العمادية ودفعه ظاهر فإن كلام صاحب العناية يفيد تقييد الكفالة بحق وجب بقضاء القاضي أو يجب بقضاء القاضي كأنه قال كفلت إن وجب دين بقضاء القاضي وهذا المعنى لا يتحقق بأن قضي به في ضمن القضاء بالكفالة والفرق واضح وعبارة الهداية ; لأن المكفول به مال مقضي به صريح فيما قلنا ومن لم يفهمه قال ما قال : والله أعلم بحقيقة الحال . ا هـ .

                                                                                        قلت : : وهو راجع إلى ما قلنا أي أن قوله كفلت فيما قضي لك على فلان أي بما يقضى لك عليه فلا بد من أن يقضى له عليه حتى تتحقق الكفالة ، فإذا برهن المدعي على الكفيل بأن له على المطلوب ألفا لم يكن الكفيل خصما لعدم تحقق كفالته ، ولو قلنا : إنه يثبت القضاء على الأصيل ضمنا ; لأنه يثبت بعد صحة الدعوى وهنا لم تصح فلم يثبت القضاء على الأصيل لا قصدا ولا ضمنا بخلاف مسألة الفصول فإن المدعي قد أقام بينة على أنه ذاب له على الأصيل كذا أي أنه قضى له فلان القاضي أنه ثبت له على الأصيل كذا فقد وجد شرط الكفالة وهو ثبوت المال على الأصيل بحكم ذلك القاضي الذي برهن المدعى عليه فصار الكفيل خصما لوجود شرط الكفالة وهو الحكم بالمال على الأصيل بعد الكفالة والمقصود بهذه الدعوى إلزام الكفيل بالمال بمقتضى كفالته فيلزمه المال ويتعدى الحكم [ ص: 258 ] عليه إلى الحكم على الأصيل الغائب فيكون قضاء على الغائب ضمنا لا قصدا فقد ظهر ما قاله الواني من أن الفرق واضح بين المسألتين وإنما بسطنا الكلام على ذلك لما وقع فهم هذا الموضع من الإضراب والله سبحانه أعلم بالصواب .

                                                                                        ( قوله : ونحن نقول صار مكذبا شرعا فبطل ما زعمه ) اعلم أن دعوى الخصم في الأمور التي تثبت أولا بالبينة التي كذبه الشرع بذلك صحيحة لا يعتبر فيها التناقض لتكذيب الشرع كما فيما نحن فيه ، وأما في الأمور التي يحتاج فيها ثانيا إلى الدعوى وإقامة البينة فليست بصحيحة كما لو ادعى على آخر أنه اشترى منه أمته هذه ثم قال لست أنا بائعك قط فبرهن عليه المدعي فوجد عيبا فبرهن البائع أنه باعه وبرئ من كل عيب لا تقبل بينة البراءة للتناقض ، ووجه هذا أن الإنكار معدوم من وجه موجود من وجه فيعمل بالوجهين فاعتبر عدمه فيما لا يحتاج إلى الدعوى ثانيا واعتبر وجوده فيما يحتاج إليها فليكن هذا في ذكر منك فإنه كثير النفع ، كذا في الحواشي اليعقوبية . ( قوله : والتفصيل في المقيدة إلخ ) يعني أنها تصلح للحيلة لو بالأمر وإلا فلا قال في الخانية بعد ما نقله المؤلف عنها ، ولو ادعى رجل أن له على الغائب ألف درهم وأن هذا الرجل كفل لي عن الغائب بالألف الذي لي عليه بأمره فهذا وما تقدم سواء يقضي على الحاضر ويكون ذلك قضاء على الغائب ولو لم يقبل بأمره وأنكر المدعى عليه ذلك فبرهن عليه يقضي بالألف على الحاضر ولا يكون قضاء على الغائب ، بخلاف ما لو ادعى الكفالة العامة فلا تفصيل .

                                                                                        ( قوله : ومن هنا علم أن ما ذكره الشارح فيما يأتي إلخ ) أي في كتاب القضاء قبيل باب التحكيم ، ثم إن الذي رايته فيه موافق لما هنا وهذا نصه لو ادعى على شخص دينا على أنه كفيل عن الغائب بأمره فأقر الحاضر بالكفالة وأنكر الدين فأقام المدعي البينة أن له على الغائب ألف درهم تقبل بينته في هذه الصورة ويثبت الحق على الغائب والحاضر حتى إذا حضر الغائب لزمه ولا يحتاج إلى إعادة البينة . ا هـ . ( قوله : وإنما هو في المطلقة ) في الحصر نظر بل في المقيدة بمقدار إذا كانت بالأمر كذلك كما علمت نعم يظهر التخصيص بالمطلقة إذا لم يكن له شهود على كون الكفالة بالأمر ، أما إذا كان له شهود عليها وأثبت ذلك على الكفيل يثبت على الأصيل ولو كانت مقيدة وكأنه خص المطلقة ; لأن الكلام في حيلة الإثبات [ ص: 259 ] على الغائب بالموافقة وذلك حيث لا بينة .




                                                                                        الخدمات العلمية