الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        وحيث انتهينا من التفاريع المذكورة في الكتب نرجع إلى بيان الدلائل للأئمة فنقول استدل [ ص: 83 ] الإمام مالك رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه واستدل الإمام الشافعي رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم إذا بلغ الماء قلتين لا يحمل خبثا واستدل أبو حنيفة على ما ذكره الرازي في أحكام القرآن بقوله تعالى { ويحرم عليهم الخبائث } والنجاسات لا محالة من الخبائث فحرمها الله تحريما مبهما ولم يفرق بين حال اختلاطها وانفرادها بالماء فوجب تحريم استعمال كل ما تيقنا به جزءا من النجاسة ، وتكون جهة الحظر من طريق النجاسة أولى من جهة الإباحة ; لأن الأصل أنه إذا اجتمع المحرم والمبيح قدم المحرم وأيضا لا نعلم بين الفقهاء في سائر المائعات إذا خالطه اليسير من النجاسة كاللبن والأدهان أن حكم اليسير في ذلك كحكم الكثير وأنه محظور عليه أكل ذلك وشربه فكذا الماء بجامع لزوم اجتناب النجاسات ، ويدل عليه من السنة قوله صلى الله عليه وسلم { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من الجنابة } وفي لفظ آخر { ولا يغتسلن فيه من جنابة } ومعلوم أن البول القليل في الماء الكثير لا يغير لونه ولا طعمه ولا رائحته وقد منع منه النبي صلى الله عليه وسلم

                                                                                        ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم { إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها الإناء ، فإنه لا يدري أين باتت يده } فأمر بغسل اليد احتياطا من نجاسة أصابته من موضع الاستنجاء ومعلوم أنها لا تغير الماء ولولا أنها مفسدة عند التحقيق لما كان للأمر بالاحتياط معنى وحكم النبي صلى الله عليه وسلم بنجاسة ولوغ الكلب بقوله { طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبعا } ، وهو لا يغير ا هـ فالحاصل أنه حيث غلب على الظن وجود نجاسة في الماء لا يجوز استعماله أصلا بهذه الدلائل لا فرق بين أن يكون قلتين أو أكثر أو أقل تغير أو لا ، وهذا مذهب أبي حنيفة والتقدير بشيء دون شيء لا بد فيه من نص ولم يوجد وفي بعض هذا الاستدلال كلام نذكره إن شاء الله تعالى ، وأما ما استدل به مالك رضي الله عنه فهو مع الاستثناء ضعيف برشدين بن سعد صرح بضعفه جماعة منهم النووي في شرح المهذب ، وأما بدون الاستثناء فقد ورد من رواية أبي داود والترمذي من حديث الخدري { قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة ، وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال صلى الله عليه وسلم الماء طهور لا ينجسه شيء } وحسنه الترمذي وقال الإمام أحمد هو حديث صحيح ورواه البيهقي عن أبي يحيى قال دخلت على سهل بن سعد في نسوة فقال لو أني أسقيتكم من بئر بضاعة لكرهتم ذلك وقد والله سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي منها قلنا هذا ورد في بئر بضاعة بكسر الباء وضمها كذا في الصحاح وفي المغرب بالكسر لا غير وماؤها كان جاريا في البساتين على ما أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار بسنده إلى الواقدي قال البيهقي الواقدي لا يحتج بما يسنده فضلا عما يرسله قلنا قد أثنى عليه الدراوردي وأبو بكر بن العربي وابن الجوزي وجماعة والدليل على أنه كان جاريا أن الماء الراكد إذا وقع فيه عذرة الناس والجيف والمحائض والنتن تغير طعمه وريحه ولونه ويتنجس بذلك إجماعا وليس في الحديث استثناء فدل ذلك على جريان مائها

                                                                                        فإن قيل نقل النووي في شرح المهذب عن أبي داود أنه قال مددت ردائي على بئر بضاعة ثم ذرعتها فإذا عرضها ستة أذرع وسألت الذي فتح لي باب البستان هل غير بناؤها عما كان عليه فقال لا قال رأيت فيها ماء متغيرا قلنا ما ذكره الطحاوي إثبات وما نقل أبو داود عن البستاني نفي والإثبات مقدم على النفي والبستاني الذي فتح الباب مجهول الشخص والحال عنده فكيف يحتج بقوله ; ولأن أبا داود توفي بالبصرة في النصف من شوال سنة خمس وسبعين ومائتين فبينه وبين زمن النبي صلى الله عليه وسلم مدة كثيرة ودليل التغير غالب ، وهو مضي السنين المتطاولة [ ص: 84 ] قال النووي : في شرح المهذب وهذه صفتها في زمن أبي داود ولا يلزم أن تكون كانت هكذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قال الخطابي : قد توهم بعضهم أن إلقاء العذرة والجيف وخروق الحيض في بئر بضاعة كان عادة وتعمدا ، وهذا لا يظن بذمي ولا وثني فضلا عن مسلم فلم يزل من عادة الناس قديما وحديثا مسلمهم وكافرهم تنزيه الماء وصونه عن النجاسات فكيف يظن بأهل ذلك الزمان وهم أعلى طبقات أهل الدين وأفضل جماعات المسلمين والماء ببلادهم أعز والحاجة إليه أمس من أن يكون هذا صنيعهم بالماء وامتهانهم له وقد { لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تغوط في موارد الماء ومشارعه } فكيف من اتخذ عيون الماء ومنابعه مطرح الأنجاس ، وإنما كان ذلك من أجل أن هذه البئر موضعها في حدور من الأرض وكانت السيول تمسح هذه الأقذار من الطرق والأفنية وتحملها فتلقيها فيه ، وكان الماء لكثرته وغزارته لا يؤثر فيه ، وكان جوابه عليه السلام لهم إن الماء الكثير الذي صفته هذه في الكثرة والغزارة لا تؤثر فيه النجاسة ; لأن السؤال إنما وقع عن ذلك ، والجواب إنما يقع عنه ا هـ .

                                                                                        وقال الإمام أبو نصر البغدادي المعروف بالأقطع لا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتوضأ من بئر هذه صفتها مع نزاهته وإيثاره الرائحة الطيبة ونهيه عن الامتخاط في الماء ، فدل أن ذلك كان يفعل في الجاهلية فشك المسلمون في أمرها فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا أثر لذلك مع كثرة النزح ا هـ .

                                                                                        وقال الطحاوي : إن معنى قوله الماء لا ينجسه شيء والله أعلم .

                                                                                        أنه لا يبقى نجسا بعد إخراج النجاسة منه بالنزح ، وليس هو على حال كون النجاسة فيها ، وإنما سألوا عنه ; لأنه موضع مشكل ; لأن حيطان البئر لم تغسل وطينها لم يخرج فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك يعفى للضرورة مثل قوله : صلى الله عليه وسلم { المؤمن لا ينجس } ليس معناه أنه لا يتنجس ، وإن أصابته النجاسة ، فإن قيل العبرة لعموم اللفظ وهو لا ينجسه شيء لا لخصوص السبب ، وهو بئر بضاعة فكيف خص هذا العموم بوروده في بئر بضاعة قلنا إنما لا يخص عموم اللفظ بسببه إذا لم يكن المخصص مثله في القوة ، وهاهنا قد ورد ما يخصصه ، وهو يساويه في القوة ، وهو حديث المستيقظ ، وحديث { لا يبولن أحدكم } ، وإنما خصصناه بهذين الحديثين دفعا للتناقض فكان من باب الحمل لدفع التناقض لا من باب التخصيص بالسبب ; ولأنا ما خصصناه ببئر بضاعة بل عدينا حكمه منها إلى ما هو في معناها من الماء الجاري ، وترك عموم ظاهر الحديث لدفع التناقض واجب كذا ذكره السراج الهندي وصاحب المعراج وتعقبه في فتح القدير بأنه لا تعارض ; لأن حاصل النهي عن البول في الماء الدائم تنجس الماء الدائم في الجملة لا كل ماء إذ ليست اللام فيه للاستغراق للإجماع على أن الكثير لا ينجس إلا بتغيره بالنجاسة ، وحاصله أن الماء طهور لا ينجسه شيء و عدم تنجس الماء إلا بالتغير بحسب ما هو المراد المجمع عليه ، وإلا تعارض بين مفهومي هاتين القضيتين ، وأما حديث المستيقظ من منامه ، فليس فيه تصريح بتنجس الماء بتقدير كون اليد نجسة بل ذلك تعليل منا للنهي المذكور ، وهو غير لازم أعني تعليله بتنجس الماء عينا بتقدير نجاستهما لجواز كونه أعم من النجاسة والكراهة فنقول : نهي لتنجيس الماء بتقدير كونها متنجسة بما يغير أو للكراهة بتقدير كونها بما لا يغير وأين هو من ذلك الصريح الصحيح لكن يمكن إثبات المعارض بقوله صلى الله عليه وسلم { طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب } الحديث ، فإنه يقتضي نجاسة الماء ولا يغير بالولوغ فتعين ذلك الحمل والله سبحانه وتعالى أعلم . ا هـ .

                                                                                        وقد يقال : إن اللام في حديث { لا يبولن أحدكم في الماء } للعموم حتى حرم البول في الماء القليل والكثير جميعا فاختصت القضية الثانية بالقليل بدليل يوجب تخصيصها حتى لم يحرم الاغتسال في الماء الدائم [ ص: 85 ] الكثير مثل الغدير العظيم هكذا ذكر في معراج الدراية معزيا إلى شيخه العلامة فعلى هذا حاصل النهي عن البول في الماء تنجس كل ماء راكد فعارض قوله لا ينجسه شيء وكون الإجماع أن الكثير لا يتنجس إلا بالتغير أمر آخر خارج عن مفهوم الحديث ، وإثبات التعارض إنما هو باعتبار المفهومين وممن صرح بأن ماء بئر بضاعة كان كثيرا الشافعي رضي الله عنه ، وأما ما استدل به الشافعي فرواه أصحاب السنن الأربعة عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو { يسأل عن الماء يكون في الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب فقال : إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث } . وأخرجه ابن خزيمة والحاكم في صحيحيهما قلنا هذا الحديث ضعيف ، وممن ضعفه الحافظ ابن عبد البر والقاضي إسماعيل بن إسحاق وأبو بكر بن العربي المالكيون ، ونقل ضعفه في البدائع عن ابن المديني وقال أبو داود : ولا يكاد يصح لواحد من الفريقين حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تقدير الماء ويلزم منه تضعيف حديث القلتين .

                                                                                        وإن كان رواه في كتابه وسكت عنه وكذا ضعفه الغزالي في الإحياء والروياني في البحر والحلية قال في البحر هو اختياري واختيار جماعة رأيتهم بخراسان والعراق ذكره النووي كما نقله عنه السراج الهندي .

                                                                                        وقال الزيلعي : المخرج ، وقد جمع الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في كتاب الإمام طرق هذا الحديث ورواياته واختلاف ألفاظه وأطال في ذلك إطالة لخص منها تضعيفه له فلذلك أضرب عن ذكره في كتاب الإلمام مع شدة الاحتياج إليه ، ووجهه أن الاضطراب وقع في سنده ومتنه ومعناه أما الأول ، فإنه اختلف على أبي أسامة فمرة يقول عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر ومرة عنه عن محمد بن جعفر بن الزبير ومرة يروى عن عبد الله بن عبد الله بن عمر ومرة يروى عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر .

                                                                                        وقد أجاب النووي عن هذا بأنه ليس اضطرابا ; لأن الوليد رواه عن كل من المحمدين فحدث مرة عن أحدهما ، ومرة عن الآخر ، ورواه أيضا عبد الله وعبيد الله ابنا عبد الله بن عمر عن أبيهما وهما أيضا ثبتان وأما الاضطراب في متنه ففي رواية الوليد عن محمد بن جعفر بن الزبير { لم ينجسه شيء } . ورواية محمد بن إسحاق بسنده { سئل عن الماء يكون في الفلاة فترده السباع والكلاب فقال : إذا كان الماء قلتين لا يحمل الخبث } قال البيهقي : وهو غريب .

                                                                                        وقال إسماعيل بن عياش عن محمد بن إسحاق الكلاب والدواب ورواه يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة فقال الحسن بن الصباح : عنه عن حماد عن عاصم هو ابن المنذر قال دخلت مع عبيد الله بن عبد الله بن عمر بستانا فيه مقر ماء فيه جلد بعير ميت ، فتوضأ منه فقلت : أتتوضأ منه وفيه جلد بعير ميت فحدثني عن أبيه { عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا بلغ الماء قلتين أو ثلاثا لم ينجسه شيء } . وروى الدارقطني وابن عدي والعقيلي في كتابه عن القاسم بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغ الماء أربعين قلة ، فإنه لا يحمل الخبث وضعفه الدارقطني بالقاسم .

                                                                                        وروي بإسناد صحيح من جهة روح بن القاسم عن ابن المنكدر عن ابن عمر قال إذا بلغ الماء أربعين قلة لم ينجس وأخرج عن أبي هريرة من جهة بشر بن السري عن ابن لهيعة قال إذا كان الماء قدر أربعين قلة لم يحمل خبثا قال الدارقطني : كذا قال وخالفه غير واحد رووه عن أبي هريرة فقالوا أربعين غربا ومنهم من قال أربعين دلوا وهذا الاضطراب يوجب الضعف ، وإن وثقت الرجال .

                                                                                        وأجاب النووي عن هذا الاضطراب أما عن الشك في قوله قلتين أو ثلاثا ، فهي رواية شاذة غير ثابتة ، فهي متروكة ، فوجودها كعدمها لكن الطحاوي أثبتها بإسناده في شرح معاني الآثار .

                                                                                        وأما ما روي من أربعين قلة أو أربعين غربا فغير صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما نقل أربعين قلة عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأربعين غربا أي دلوا عن أبي هريرة وحديث النبي صلى الله عليه وسلم مقدم [ ص: 86 ] على غيره قال النووي : وهذا ما نعتمده في الجواب .

                                                                                        وأما الاضطراب في معناه فذكر شمس السرخسي وتبعه في الهداية أن معنى قوله لم يحمل خبثا أنه يضعف عن النجاسة فيتنجس كما يقال هو لا يحمل الكل أي لا يطيقه ، وهذا مردود من وجهين ذكرهما النووي في شرح المهذب الأول أنه ثبت في رواية صحيحة لأبي داود { إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس } فتحمل الرواية الأخرى عليها فمعنى لم يحمل خبثا لم ينجس ، وقد قال العلماء أحسن تفسير غريب الحديث أن يفسر بما جاء في رواية أخرى لذلك الحديث الثاني أنه صلى الله عليه وسلم جعل القلتين حدا فلو كان كما زعم هذا القائل لكان التقييد بذلك باطلا فإن ما دون القلتين يساوي القلتين في هذا زاد عليه في فتح القدير وقال هذا إن اعتبر مفهوم شرطه

                                                                                        وأما إن لم يعتبر مفهوم شرطه فيلزم عدم إتمام الجواب ، فإنه حينئذ لا يفيد حكمه إذا زاد على القلتين والسؤال عن ذلك الماء كيفما كان والنووي إنما اقتصر على ما ذكره ; لأنه يقول بأن مفهوم الشرط حجة لكن قال الخبازي : ومعنى قوله إذا بلغ الماء قلتين يعني انتقاصا لا ازديادا ، فإن قيل فما فوق القلتين ما لم يبلغ عشرا في عشر ، فهو أيضا يضعف عن احتمال النجاسة فما الفائدة في تخصيصه بالقلتين قيل له من الجائز أنه كان يوحي إليه بأن مجتهدا سيجيء ويقول بأن الماء إذا بلغ قلتين لا يحتمل النجاسة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ردا لذلك القول ا هـ .

                                                                                        وهو كما ترى في غاية البعد قال المحقق في فتح القدير : فالمعول عليه الاضطراب في معنى القلة ، فإنه مشترك يقال على الجرة والقربة ورأس الجبل وما فسر به الشافعي منقطع للجهالة ، فإنه قال في مسنده : أخبرني مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج بإسناد لا يحضرني { أنه صلى الله عليه وسلم قال إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثا وقال في الحديث بقلال هجر } قال ابن جريج رأيت قلال هجر فالقلة تسع قربتين أو قربتين وشيئا قال الشافعي : رحمه الله تعالى فالاحتياط أن تجعل قربتين ونصفا فإذا كان خمس قرب كبار كقرب الحجاز لم ينجس إلا أن يتغير وهجر بفتح الهاء والجيم قرية بقرب المدينة فثبت بهذا أن حديث القلتين ضعيف ، فإن قلت : قد صححه ابن ماجه وابن خزيمة والحاكم وجماعة من أهل الحديث قلت من صححه اعتمد بعض طرقه ولم ينظر إلى ألفاظه ومفهومها إذ ليس هذا وظيفة المحدث والنظر في ذلك من وظيفة الفقيه إذ غرضه بعد صحة الثبوت الفتوى والعمل بالمدلول ، وقد بالغ الحافظ عالم العرب أبو العباس بن تيمية في تضعيفه وقال يشبه أن يكون الوليد بن كثير غلط في رفع [ ص: 87 ] الحديث وعزوه إلى ابن عمر ، فإنه دائما يفتي الناس ويحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم والذي رواه معروف عند أهل المدينة وغيرهم لا سيما عند سالم ابنه ونافع مولاه ، وهذا لم يروه عنه لا سالم ولا نافع ولا عمل به أحد من علماء المدينة وذكر عن التابعين ما يخالف هذا الحديث ثم قال فكيف تكون هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عموم البلوى فيها ، ولا ينقلها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان إلا رواية مختلفة مضطربة عن ابن عمر لم يعمل بها أحد من أهل المدينة ولا أهل البصرة ولا أهل الشام ولا أهل الكوفة وأطال رحمه الله تعالى الكلام بما لا يحتمله هذا الموضع ولا يضر الحافظ ما أخرجه الدارقطني عن سالم عن أبيه لضعفه وقول النووي بأن حدها هو ما حده رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوجب الله طاعته وحرم مخالفته وحدهم يعني الحنفية مخالف حده صلى الله عليه وسلم مع أنه حد بما لا أصل له ولا ضبط فيه مدفوع بأن ما استدللتم به ضعيف كما تقدم ، وما صرنا إليه يشهد له الشرع والعقل أما الشرع فقد قدمنا الأحاديث الواردة في ذلك

                                                                                        وأما العقل ، فإنا نتيقن بعدم وصول النجاسة إلى الجانب الآخر أو يغلب على ظننا والظن كاليقين فقد استعملنا الماء الذي ليس فيه نجاسة يقينا وأبو حنيفة لم يقدر ذلك بشيء بل اعتبر غلبة ظن المكلف ، فهذا دليل عقلي مؤيد بالأحاديث الصحيحة المتقدمة ، فكان العمل به متعينا ; ولأن دليلنا ، وهو حديث النهي عن البول في الماء الراكد ثابت في الصحيحين من رواية أبي هريرة وإسلامه متأخر وحديث القلتين حديث ابن عمر وإسلامه متقدم والمتأخر ينسخ المتقدم لو ثبت .

                                                                                        وقال الشافعي : وأحمد لو زال تغير القلتين بنفسه طهر الماء مع بقاء البول والعذرة وغيرهما من النجاسات ، فيكون حينئذ نجاسة البول والعذرة والخمر باعتبار الرائحة واللون والطعم لا لذاتها ، وهذا لا يعقل ولا تشهد له أصول الشرع ولو أضيفت قلة نجسة إلى قلة نجسة عادتا طاهرتين عندهم وهذا يؤدي إلى تنجس الماء الطاهر بقليل النجاسة دون كثيرها ; لأنهم نجسوا القلة الطاهرة برطل ماء نجس ، ولم ينجسوها بقلة نجسة من الماء بل طهروها بها ، ويؤدي أيضا إلى تولد طاهر باجتماع نجسين ، وهذا مما تحيله العقول .

                                                                                        [ ص: 84 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 84 ] ( قوله : فإن قيل العبرة لعموم اللفظ إلخ ) منشأ السؤال قوله فيما مر قلنا هذا ورد في بئر بضاعة إلخ ( قوله : فاختصت القضية الثانية بالقليل ) المراد بالقضية الثانية تتمة حديث { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم } ، وهي قوله صلى الله عليه وسلم { ولا يغتسلن فيه من الجنابة } كما في معراج الدراية وتقدم أيضا [ ص: 85 ] ( قوله : فعلى هذا حاصل النهي إلخ ) مراده رد ما قدمه عن فتح القدير من أنه لا تعارض بين الحديثين بناء على تخصيصهما بالإجماع وحاصله أن التعارض بالنظر إلى مفهوميهما مع قطع النظر عن الإجماع تأمل ( قوله : أما الأول ، فإنه اختلف على أبي أسامة إلخ ) قال أبو بكر ابن العربي : في شرح الترمذي مداره على مطعون عليه أو مضطرب في الرواية أو موقوف حسبك أن الشافعي رحمه الله رواه عن الوليد بن كثير هو إباضي منسوب إلى عبد الله بن أباض من غلاة الروافض واضطرابه في الرواية أنه روي قلتين أو ثلاثا وروي أربعون قلة وروي أربعون غربا فلا يصير حجة علينا ولئن صح فهو محمول على ما ذكرنا وقد ترك جماعة من أصحابه مذهبه فيه لضعفه كالغزالي والروياني وغيرهما كذا في معراج الدراية [ ص: 86 ]

                                                                                        ( قوله : زاد عليه في فتح القدير ) أي زاد وجها آخر على الوجهين اللذين ذكرهما النووي ، وهو أنه إذا لم يعتبر مفهوم شرط يلزم عدم إتمام الجواب ، وأما الوجه الأول أعني اعتبار مفهوم الشرط فهو حاصل الوجه الثاني الذي ذكره النووي ، وإنما لم يذكر الوجه الثاني الذي ذكره في الفتح لكون النووي يقول بحجية مفهوم الشرط هكذا يستفاد من هذا الكلام وفيه بحث ; لأن مفهوم الشرط فيما زاد على القلتين لا فيما دونهما كما هو مبنى اعتراض النووي :

                                                                                        الثاني : فإن ما دونهما ينجس بدلالة النص كما في قوله تعالى { فلا تقل لهما أف } فإذا تنجس ما كان قلتين فبالأولى تنجس ما دونهما فليس داخلا تحت مفهوم الشرط بل الداخل فيه الزائد عليهما أي يفهم منه ثم ما زاد لا ينجس فلا يناسب الحنفي الحمل على المعنى المذكور أعني أنه يضعف عن النجاسة إذ لا يقول بعدم نجاسة ما زاد على القلتين ما لم يكن غديرا ، وهذا كما ترى غير ما ذكره النووي فقوله هذا إن اعتبر مفهوم شرطه إشارة إلى ما ذكره النووي غير صواب فكان عليه بيانه وجها مستقلا ولا بأس بذكر عبارة الفتح توضيحا لما قلنا فنقول قال في الفتح معترضا على ما في الهداية هذا يستلزم أحد أمرين إما عدم إتمام الجواب إن لم يعتبر مفهوم شرطه ، فإنه حينئذ لا يفيد حكمه إذا زاد على القلتين والسؤال عن ذلك الماء كيف كان ، وأما اعتبار المفهوم ليتم الجواب والمعنى حينئذ إذا كان قلتين تنجس لا إن زاد

                                                                                        فإن وجب اعتباره هنا لقيام الدليل عليه ، وهو كي لا يلزم إخلاء السؤال عن الجواب المطابق كان الثابت به خلاف المذهب إذ لم نقل بأنه إذا زاد على قلتين شيئا ما لا ينجس ما لم يتغير ا هـ .

                                                                                        وبهذا تعلم أيضا أن الإيراد باعتبار مفهوم الشرط ليس مبنيا على القول بحجيته مطلقا بل مبني على اعتباره هنا لدليل قام عليه علمته فتبصر ( قوله : لكن قال الخبازي إلخ ) يعني أن الماء إذا كان كثيرا ثم انتقص ، وصار قلتين ضعف عن حمل النجاسة فيتنجس وأنت خبير أنه ليس في الكلام السابق ما يصلح أن يكون هذا استدراكا عليه نعم يصلح استدراكا على ما رد به صاحب الفتح الوجه الثاني الواقع في كلامه من أنه يلزم أن يكون الثابت به خلاف المذهب ويكون ما به الاستدراك مستفادا من قوله فإن قيل إلخ وحاصله أن ما زاد على القلتين لا يرد علينا أنه يلزم أن لا يكون نجسا حيث فهم ذلك من تخصيص النجاسة بالقلتين ; لأن التخصيص بذلك لفائدة الرد على من سيقول بعدم النجاسة ، والذي أوقع الشارح في هذا كله اختصاره عبارة الفتح .




                                                                                        الخدمات العلمية