فصل [ العذر بالنسيان    ] 
وأما من أكل في صومه ناسيا  فمن قال : " عدم فطره ومضيه في صومه على خلاف القياس " ظن أنه من باب ترك المأمور ناسيا ، والقياس أنه يلزمه الإتيان بما تركه ، كما لو أحدث ونسي حتى صلى  ، والذين قالوا : " بل هو على وفق القياس " حجتهم أقوى ; لأن قاعدة الشريعة أن من فعل محظورا ناسيا فلا إثم عليه ، كما دل عليه قوله تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا    } وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه استجاب هذا الدعاء ، وقال : قد فعلت ; وإذا ثبت أنه غير آثم فلم يفعل في صومه محرما فلم يبطل صومه ، وهذا محض القياس ; فإن العبادة إنما تبطل بفعل محظور أو ترك مأمور . 
وطرد هذا القياس أن من تكلم في صلاته ناسيا  لم تبطل صلاته . 
وطرده أيضا أن من جامع في إحرامه أو صيامه ناسيا  لم يبطل صيامه ولا إحرامه . 
وكذلك من تطيب أو لبس أو غطى رأسه أو حلق رأسه أو قلم ظفره ناسيا  فلا فدية عليه ، بخلاف قتل الصيد ، فإنه من باب ضمان المتلفات فهو كدية القتيل . 
وأما اللباس والطيب فمن باب الترفه ، وكذلك الحلق والتقليم ليس من باب الإتلاف فإنه لا قيمة له في الشرع ولا في العرف . 
وطرد هذا القياس أن من فعل المحلوف  [ ص: 25 ] عليه ناسيا  لم يحنث ، سواء حلف بالله أو بالطلاق أو بالعتاق أو غير ذلك ; لأن القاعدة أن من فعل المنهي عنه ناسيا لم يعد عاصيا ، والحنث في الأيمان كالمعصية في الإيمان . 
فلا يعد حانثا من فعل المحلوف عليه ناسيا . 
وطرد هذا أيضا أن من باشر النجاسة في الصلاة ناسيا  لم تبطل صلاته ، بخلاف من ترك شيئا من فروض الصلاة ناسيا أو ترك الغسل من الجنابة أو الوضوء أو الزكاة أو شيئا من فروض الحج ناسيا  فإنه يلزمه الإتيان به ; لأنه لم يؤد ما أمر به ، فهو في عهدة الأمر . 
وسر الفرق أن من فعل المحظور ناسيا يجعل وجوده كعدمه ، ونسيان ترك المأمور لا يكون عذرا في سقوطه ، كما كان فعل المحظور ناسيا عذرا في سقوط الإثم عن فاعله . 
فإن قيل : فهذا الفرق حجة عليكم ; لأن ترك المفطرات في الصوم من باب المأمورات ، ولهذا تشترط فيه النية ، ولو كان فعل المفطرات من باب المحظور لم يحتج إلى نية كفعل سائر المحظورات . 
قيل : لا ريب أن النية في الصوم شرط ، ولولاها لما كان عبادة ، ولا أثيب عليه ; لأن الثواب لا يكون إلا بالنية ; فكانت النية شرطا في كون هذا الترك عبادة ، ولا يختص ذلك بالصوم ، بل كل ترك لا يكون عبادة ولا يثاب عليه إلا بالنية ، ومع ذلك فلو فعله ناسيا لم يأثم به ، فإذا نوى تركها لله ثم فعلها ناسيا لم يقدح نسيانه في أجره ، بل يثاب على قصد تركها لله ، ولا يأثم بفعلها ناسيا ، وكذلك الصوم . 
وأيضا فإن فعل الناسي غير مضاف إليه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : { من أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه ; فإنما أطعمه الله وسقاه   } فأضاف فعله ناسيا إلى الله لكونه لم يرده ولم يتعمده ، وما يكون مضافا إلى الله لم يدخل تحت قدرة العبد ، فلم يكلف به ، فإنه إنما يكلف بفعله ، لا بما يفعل فيه ، ففعل الناسي كفعل النائم والمجنون والصغير . 
وكذلك لو احتلم الصائم في منامه أو ذرعه القيء في اليقظة  لم يفطر ، ولو استدعى ذلك أفطر به ; فلو كان ما يوجد بغير قصده كما يوجد بقصده لأفطر بهذا وهذا . [ هل هناك فرق بين الناسي والمخطئ ؟    ] . 
فإن قيل : فأنتم تفطرون المخطئ كمن أكل يظنه ليلا فبان نهارا أفطر . 
قيل : هذا فيه نزاع معروف بين السلف والخلف ، والذين فرقوا بينهما قالوا : فعل المخطئ يمكن الاحتراز منه ، بخلاف الناسي .  [ ص: 26 ] ونقل عن بعض السلف أنه يفطر في مسألة الغروب دون مسألة الطلوع كما لو استمر الشك . 
قال شيخنا    : وحجة من قال : لا يفطر في الجميع أقوى ، ودلالة الكتاب والسنة على قولهم أظهر ; فإن الله سبحانه سوى بين الخطإ والنسيان في عدم المؤاخذة ; ولأن فعل محظورات الحج يستوي فيه المخطئ والناسي ; ولأن كل واحد منهما غير قاصد للمخالفة ، وقد ثبت في الصحيح أنهم أفطروا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس ، ولم يثبت في الحديث أنهم أمروا بالقضاء ، ولكن  هشام بن عروة  سئل عن ذلك فقال : لا بد من قضاء ، وأبوه  عروة  أعلم منه ، وكان يقول : لا قضاء عليهم . 
وثبت في الصحيحين أن بعض الصحابة أكلوا حتى ظهر لهم الخيط الأسود من [ الخيط ] الأبيض ولم يأمر أحدا منهم بقضاء وكانوا مخطئين ، وثبت عن  عمر بن الخطاب  أنه أفطر ثم تبين النهار فقال : لا نقضي ; لأنا لم نتجانف لإثم ، وروي عنه أنه قال : نقضي ، وإسناده الأول أثبت ، وصح عنه أنه قال : الخطب يسير ; فتأول ذلك من تأوله على أنه أراد خفة أمر القضاء ، واللفظ لا يدل على ذلك . 
قال شيخنا    : وبالجملة فهذا القول أقوى أثرا ونظرا ، وأشبه بدلالة الكتاب والسنة والقياس . 
قلت له : فالنبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل يحتجم فقال : { أفطر الحاجم والمحجوم   } ولم يكونا عالمين بأن الحجامة تفطر ، ولم يبلغهما قبل ذلك قوله : { أفطر الحاجم والمحجوم   } ولعل الحكم إنما شرع ذلك اليوم . 
فأجابني بما مضمونه أن الحديث اقتضى أن ذلك الفعل مفطر ، وهذا كما لو رأى إنسانا يأكل أو يشرب فقال : أفطر الآكل والشارب ; فهذا فيه بيان السبب المقتضي للفطر ، ولا تعرض فيه للمانع . 
وقد علم أن النسيان مانع من الفطر بدليل خارج ، فكذلك الخطأ والجهل ، والله أعلم 
				
						
						
