وتمسكوا بما رواه سلمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في شهر رمضان { من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ، ومن أدى فريضة فيه ، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه } فقابل النفل فيه بالفرض في غيره ، وقابل الفرض فيه بسبعين فرضا في غيره ، فأشعر هذا بطريق الفحوى أن الفرض يزيد على النفل سبعين درجة ا هـ .
قال ابن السبكي : وهذا أصل مطرد لا سبيل إلى نقضه بشيء من الصور ، وقد استثني فروع :
أحدها : إبراء المعسر فإنه أفضل من إنظاره ، وإنظاره واجب ، وإبراؤه مستحب .
وقد انفصل عنه التقي السبكي بأن الإبراء يشتمل على الإنظار اشتمال الأخص على الأعم ، لكونه تأخيرا للمطالبة ، فلم يفضل ندب واجبا ; وإنما فضل واجب . وهو الإنظار الذي تضمنه الإبراء ، وزيادة " وهو خصوص الإبراء " واجبا آخر . وهو مجرد الإنظار .
قال ابنه : أو يقال : إن الإبراء محصل لمقصود الإنظار وزيادة من غير اشتماله عليه .
قال : وهذا على تقدير تسليم أن الإبراء أفضل ، وغاية ما استدلوا عليه بقوله تعالى { وأن تصدقوا خير لكم } وهذا يحتمل أن يكون افتتاح كلام ، فلا يكون دليلا على أن الإبراء أفضل ، ويتطرق من هذا إلى أن الإنظار أفضل : لشدة ما ينال المنظر من ألم الصبر ، مع تشويف القلب . وهذا فضل ليس في الإبراء الذي انقطع فيه اليأس .
الثاني : ابتداء السلام ، فإنه سنة : والرد واجب ، والابتداء أفضل ، لقوله صلى الله عليه وسلم { وخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام } .
[ ص: 146 ] وحكى القاضي حسين في تعليقه وجهين : في أن الابتداء أفضل أو الجواب .
ونوزع في ذلك بأنه ليس في الحديث : أن الابتداء أفضل من الجواب ، بل إن المبتدئ خير من المجيب . وذلك لأن المبتدئ فعل حسنة وتسبب إلى فعل حسنة . وهي الجواب مع ما دل عليه الابتداء من حسن الطوية ، وترك الهجر والجفاء ، الذي كرهه الشارع .
الثالث : قال ابن عبد السلام : صلاة نافلة واحدة أفضل من إحدى الخمس الواجب فعلها على من ترك واحدة منها ، ونسي عينها .
قلت : لم أر من تعقبه ، وهو أولى بالتعقب من الأولين . وما ذكره من أن صلاة نافلة واحدة أفضل من إحدى الخمس المذكورة ، فيه نظر . والذي يظهر : أنها إن لم تزد عليها في الثواب لا تنقص عنها .
الرابع : الأذان سنة وهو على ما رجحه الإمام النووي : أفضل من الإمامة ، وهي فرض كفاية ، أو عين .
وقد سئل عن ذلك السبكي في الحلبيات ، فأجاب بوجوه : منها : أنه لا يلزم من كون الجماعة فرضا كون الإمامة فرضا . لأن الجماعة : تتحقق بنية المأموم الائتمام ، دون نية الإمام .
ولو نوى الإمام فنيته محصلة لجزء الجماعة . والجزء هنا : ليس مما يتوقف عليه الكل لما بيناه ، فلم يلزم وجوبه ، وإذا لم يلزم ذلك لم يلزم القول بأن الإمامة فرض كفاية ، فلم يحصل تفضيل نفل على فرض ، وإنما نية الإمام شرط في حصول الثواب له .
ومنها : أن الجماعة صفة للصلاة المفروضة ، والأذان عبادة مستقلة ، والقاعدة المستقرة في أن الفرض أفضل من النفل في العبادتين المستقلتين أو في الصفتين .
أما في عبادة ، وصفة ، فقد تختلف .
ومنها : أن الأذان والجماعة جنسان ، والقاعدة المستقرة في أن الفرض أفضل من النفل في الجنس الواحد أما في الجنسين : فقد تختلف ، فإن الصنائع والحرف فروض كفايات ، ويبعد أن يقال : إن واحدة من رذائلها أفضل من تطوع الصلاة ، وإن سلم أنه أفضل من جهة أن فيه خروجا من الإثم ، ففي تطوع الصلاة من الفضائل ما قد يجبر ذلك ، أو يزيد عليه ، وجنس الفرض أفضل من جنس النفل .
وقد يكون في بعض الجنس المفضول ما يربو على بعض أفراد الجنس الفاضل ، كتفضيل بعض النساء على بعض الرجال .
[ ص: 147 ] وإذا تؤمل ما جمعه الأذان من الكلمات العظيمة ومعانيها ودعوتها ظهر تفضيله وأنى يدانيه صناعة ؟ قيل : إنها فرض كفاية .
الخامس : الوضوء قبل الوقت سنة وهو أفضل منه في الوقت صرح به القمولي في الجواهر وإنما يجب بعد الوقت ، وقلت قديما :
الفرض أفضل من تطوع عابد حتى ولو قد جاء منه بأكثر
إلا التطهر قبل وقت وابتدا للسلام كذاك إبرا معسر


