الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [فيمن قال لامرأته: إذا حملت فأنت طالق]

                                                                                                                                                                                        ومن قال: إن كنت حاملا فأنت طالق، أو إن لم تكوني حاملا فأنت طالق، فإن كانت في طهر لم يمس فيه، أو مس ولم ينزل كان محملها على البراءة من الحمل، فإن قال: إن كنت حاملا لم تطلق، وإن قال: إن لم تكوني حاملا طلقت، وكذلك أرى إذا كان يعزل; لأن الحمل على ذلك نادر.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا أنزل ولم يعزل على أربعة أقوال، فقال مالك في المدونة: هي طالق مكانها؛ لأنه في شك من حملها، وسواء قال: إن كنت حاملا أو إن لم تكوني حاملا.

                                                                                                                                                                                        وقال مطرف في كتاب ابن حبيب في هذا: الأصل لا يقع عليها طلاق، إلا أن يوقعه الحاكم، وقول أشهب: لا شيء عليه الآن، ويؤخر أمرها حتى ينظر هل هي حامل أم لا؟ وفرق أصبغ بين أن يكون على بر أو على حنث، فإن قال: إن كنت حاملا، لم يقع عليها طلاق; لأنه على بر حتى يعلم أنها حامل، فإن قال: إن لم تكوني حاملا. عجل الطلاق؛ لأنه على حنث، وأرى أن يوقف أمرها في الوجهين جميعا، ويوقف عنها حتى يستبين أمرها، وليس من كل الماء يكون الولد، وقد سأل بعض الصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن العزل [ ص: 2608 ] لرغبتهم في الفداء، فقال: "لا عليكم أن لا تفعلوا"، فلو كان محمل الإنزال على الحمل لم يقل ذلك، فإذا أشكل الأمر لم يعجل بالطلاق ولم ترتفع عصمته بالشك، ولأن في مقابلة طلاقها بالشك إباحتها لآخر بالشك، فكان بقاؤها أولى من إباحتها بالشك، واختلف في الموارثة هل يتوارثان; لأن الأصل الزوجية، فلا تسقط بالشك أو لا يتوارثان; لأنها وارثة بالشك، وفرق سحنون فقال: إن ماتت لم يرثها، وإن مات ورثته، يريد: إذا تبين أنه كان بارا، وإن تبين أنه حانث لم ترثه؛ لأنها الباقية بعده، فيعلم هل هي حامل أم لا؟ وهذا إذا كانت يمينه بالثلاث، وعليه يحمل قول مالك في المدونة، ولو كانت يمينه بطلقة توارثا قولا واحدا; لأنه وإن كان حانثا فهو طلاق رجعي، فإن مات الزوج قبل أن يظهر هل هي حامل أم لا؟ كان موته في العدة، وكذلك إن كانت هي الميتة، فإنها ماتت وهي في عدة منه; لأنها على أحد أمرين: إما أن تكون حاملا فالعدة وضع الحمل، وإما أن تكون غير حامل فالعدة بالحيض، فإن مات ثم حاضت انتقلت إلى عدة الوفاة، فالموارثة بينهما على كل حال.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا قال: إذا حملت فأنت طالق، وهي غير ظاهرة الحمل، فظهر لها بعد ذلك حمل، هل يحنث به أو لا يحنث، إلا بما يكون عن إصابة بعد قوله ذلك، فقال ابن القاسم: لا يمنع من وطئها، فإذا وطئها مرة وقع عليها [ ص: 2609 ] الطلاق، وقال أيضا فيمن قال: إذا حملت فوضعت فأنت طالق، قال: إن كان وطئها في ذلك الطهر فهي طالق مكانها، فحنثه بما تقدم من الوطء.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن الماجشون: له أن يصيبها في كل طهر مرة، ولم ير أن يطلق عليه إذا أصابها بعد قوله ذلك؛ لأنه على شك من حملها، إذا كانت في طهر قد مس فيه، إلا أن يعجل بالطلاق لإمكان أن لا تحمل، فإن ظهر حمل حنث به؛ لأن العادة أنه إذا ظهر حمل قالوا: حملت، ولا يعتبر ما كان قبل ذلك، وأما مع عدم العادة فإنه ينظر إلى الوقت الذي أصابها فيه، فإن كان دون الأربعين يوما حنث بما يظهر بعد، وإن كان فوق ذلك لم يحنث لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك"، الحديث، وإن كانت حين قوله ظاهرة الحمل لم تطلق إلا بحمل مستأنف.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا قال لزوجته: إذا وضعت فأنت طالق، فقال مالك في المدونة: هي طالق حين تكلم بذلك. وقال في كتاب محمد: لا شيء عليه حتى تضعه. وهو أحسن؛ للاختلاف في الطلاق إلى أجل، ولإمكان أن يكون ريحا، أو يموت قبل الوضع. [ ص: 2610 ]

                                                                                                                                                                                        وقال مالك في كتاب محمد: إن وضعت ولدا وبقي في بطنها آخر لم يقع عليها طلاق حتى تضع آخر ما في بطنها. والمعروف من قوله خلاف هذا، وأنه يحنث بالأول، وهذا موافق للقول فيمن حلف ألا يصيب امرأته أنه لا يحنث بأول الملاقاة، ولا يحنث إلا بالوطء التام.

                                                                                                                                                                                        واختلف فيمن قال: إن ولدت جارية فأنت طالق، أو إن لم تلدي غلاما فأنت طالق، نحو الاختلاف المتقدم في قوله: إن كنت حاملا وإن لم تكوني حاملا، وقول مالك أنها طالق مكانها في الوجهين جميعا، وأصل أشهب في هذا أنه لا يعجل الطلاق حتى تضع فينظر هل تلك جارية أو غلام؟ وقال مطرف في كتاب ابن حبيب: لا يكون طلاقا إلا أن يطلق عليه الحاكم؛ لأنه مما اختلف فيه، وقال أصبغ: إن قال: إن ولدت جارية فأنت طالق- لم تطلق عليه، وإن قال: إن لم تلدي غلاما طلقت الآن; لأن الأول عنده على بر، وهذا عنده على حنث، والوقف في جميع ذلك حتى تضع فينتظر أحسن، وإن قال: أنت طالق إن مطرت السماء كانت طالقا الساعة; لأن السماء لا بد أن تمطر، وإن قال: إن لم تمطر فأنت طالق فلا شيء عليه، سواء عم أو سمى بلدا؛ لأنه لا بد أن تمطر في زمن ما، وكذلك إذا ضرب أجلا "عشر سنين أو خمس سنين"، وإن قال: في هذا الشهر، أو الشهر الفلاني، أو شهر كذا. عاد الخلاف المتقدم هل تكون [ ص: 2611 ] طالقا الآن، أو حتى يحكم له، أو يوقف حتى ينظر هل تمطر فيه أم لا، وقال أصبغ: إن قال: إن أمطرت غدا فلا شيء عليه الآن حتى تمطر، قال: وهو بمنزلة قوله: إن قدم فلان غدا فأنت طالق. يريد: لأنه على بر، وعلى أصله إن قال: "إن لم تمطر غدا" تطلق الآن; لأنه على حنث.

                                                                                                                                                                                        وقال مالك: إذا قال: إن لم تمطر في هذا الشهر فأنت طالق، قال: هي طالق ساعة تكلم بذلك.

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب: يوقف، فإن أمطرت لم تطلق عليه.

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ - رضي الله عنه -: وإن قال: لتمطرن في هذا الشهر طلق عليه الآن؛ لأنه رجم بالغيب، وهذا هو المعروف في هذا الأصل، وقيل: لا يحنث حتى ينظر ما يكون، وقد يحمل قول مالك في قوله: إن لم تمطر في هذا الشهر. أنه أراد: لتمطرن، ولذا فرق بينه وبين الكتاب، ولو جعل ذلك شرطا لم يقع عليه الآن الطلاق.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم في كتاب ابن حبيب: كل من حلف بطلاق على شيء لا يدري أحق هو أم باطل مثل أن يقول: إن لم تكن مطرت الليلة الإسكندرية وهو بالفسطاط، أو إن لم تمطر غدا، أو إلى نصف الشهر أو إلى رأس الشهر قرب استخبار ذلك، أو بعد، فإنه إن رفع أمره إلى السلطان طلق عليه ولم يؤخره، وإن لم يطلق عليه حتى وجد ذلك الشيء حقا لم يكن عليه في يمينه شيء، وهو وجه قول مالك. [ ص: 2612 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية