الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب فيمن شك هل طلق واحدة أو ثلاثا؟ أو هل طلق أو لا؟ أو هل حلف بالطلاق، أو تيقن الحلف وشك في الحنث، أو تيقن الحلف وشك بماذا حلف ؟

                                                                                                                                                                                        ومن المدونة قال مالك فيمن طلق زوجته ولم يدر هل طلقها واحدة أو اثنتين أو ثلاثا: فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.

                                                                                                                                                                                        وقال في كتاب ابن حبيب: يؤمر بالفراق من غير قضاء، فإن تزوجها بعد زوج ثم طلقها أمر ألا يرتجعها الآن، وألا يتزوجها إلا بعد زوج، لإمكان أن يكون الأول ثنتين، وقد أوقع بعد الطلاق الأول ثلاثا. ويختلف في أمره في جميع ذلك هل هو على الوجوب أو يندب إلى ذلك من غير قضاء، ولا يختلف أنه يؤمر في أول مرة بالإمساك عن رجعتها ويتركها حتى تنقضي عدتها، ثم يتزوجها بعد زوج إن أحب، فإن هو ارتجع أمر ألا يصيب; لأنه لا يدري حلالا أو حراما، ويؤمر أن يوقع عليها طلقة أخرى، لإمكان أن يكون طلقة واحدة فتكون الرجعة صحيحة، فلا تحل لغيره من غير طلاق; لأن الأول إنما منع لإمكان أن يكون ثلاثا، ليس على وجه القطع أنها ثلاثا، وإذا [ ص: 2622 ] امتنع الأول مع الشك مع كونها حلالا في الأول- كان الثاني أولى بالمنع; لأنه في شك من زوال عصمة الأول، فكان بقاؤها مع الأول بالشك أولى من إباحتها للآخر بالشك، إلا أن يوقع الأول عليها طلاقا، فإن لم يفعل جبر على ذلك على قوله في المدونة، ولم يجبر على قوله في كتاب ابن حبيب، فإن لم يجبر وقف عنها، فرفعت أمرها إلى السلطان لأجل وقوفه عنها، وقالت: علي في ذلك ضرر- طلق عليه الحاكم. فحرمها مالك في القول الأول; لأنه شاك في نفس المتناول هل هو حلال أو حرام؟ فأشبه من شك في الذكاة. ولم يحرمها في القول الآخر; لأنها في الأصل حلال بالزوجية، ففارق ما يفتقر إلى الذكاة; لأن الأصل فيها التحريم وعدم الذكاة حتى يثبت أنه ذكي.

                                                                                                                                                                                        واختلف عنه في المتوضئ يشك في انتقاض طهارته، فقال مرة: يجب عليه الوضوء ولا يستفتح الصلاة إلا بطهارة متيقنة، وقال مرة: يستحب ذلك; لأنه على طهارة فلا يسقط حكمها بشك.

                                                                                                                                                                                        واختلفت ألفاظ حديث النعمان في المشتبهات، فجعله مرة كالراعي حول الحمى وقال: "يوشك أن يقع فيه"، فلم يجعله كالراعي في الحمى فيكون محرما، ومنع الرعي حوله حماه خوف أن يقع في الحرام، وهو الحمى، فيكون [ ص: 2623 ] الترك على وجه الاستحسان، ويختلف على هذا إذا شك هل طلق أم لم يطلق; لأنه كالذي أيقن بالوضوء وشك في الحدث، فمن أوجب الوضوء هناك حرمها ها هنا، ومن أبقاه هناك على الطهارة وجعل الوضوء استحسانا أمر هذا بالفراق على وجه الاستحباب، ولم يجبر، وكذلك إذا حلف بالطلاق وشك هل حنث أم لا؟ فقال ابن القاسم: يؤمر بالفراق. ويختلف هل يجبر على ذلك أو يستحب، والمعروف من المذهب في هذين القسمين أنه على وجه الاستحباب.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم في كتاب ابن حبيب في الشك في الطلاق: يختلف، فمنه ما يقضى عليه به، ومنه ما لا يؤمر به ولا يقضى عليه، ومنه ما يؤمر به ولا يجبر عليه، فأما من شك في طلاق امرأته ابتداء يقول: لا أدري حلفت فحنثت أو لم أحلف، فإنه لا يؤمر بطلاقها بفتوى ولا بقضاء، ومثل أن يحلف على امرأته بطلاقها ألا تخرج، ثم يشك هل خرجت أو لا؟ أو لا أكلم فلانا، ثم شك هل كلمه؟ فهذا لا يؤمر بالفراق بقضاء ولا بفتوى، فإن تسبب له في ذلك سبب أو تريب منها أن تكون فعلت لخبر قد بلغه لم يتحققه- أمر بالحوطة من غير قضاء، وأما إن حلف على أمر إن كان وهو مما قد مضى مثل أن يقول: امرأته طالق إن كنت تبغضيني، أو كتمت عني خبر كذا، فتقول: إني أحبك، أو قد صدقتك، أو حلف بذلك على رجل بطلاق امرأته إن كتمه [ ص: 2624 ] أمرا سأله عنه، فهذا كله وأشباهه مما الشك فيه قائم، وهو غيب من علمه وعمى من يقينه، فهذا الشك الذي يفرق بينه وبين امرأته في الفتوى والقضاء. وقال أصبغ: ومثله الذي شك هل حلف بواحدة أو ثلاثة، فإنه يفرق بينهما بالقضاء.

                                                                                                                                                                                        ومنه أن يحلف فيحنث فلا يدري بأي يمين حلف، بطلاق أو عتاق أو بالله أو بمشي أو بظهار، فإنه يلزمه هذه الأيمان كلها في الفتوى والقضاء، إلا ما كان منها ليس من أيمانه، ولا يجري على لسانه.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم في المدونة: لا يجبر على طلاق ولا عتق ولا صدقة ولا شيء من ذلك، وإنما يؤمر بذلك في الفتوى، قال الشيخ - رضي الله عنه -: أما قول أصبغ أنه يجبر على الصدقة والمشي، فخلاف المعروف من المذهب; لأنه في الصدقة على غير معين في يمين، وهو في المشي أبين ألا يجبر; لأنه حق لله تعالى لا يتعلق به حق لآدمي، وهو بمنزلة لو قال: إن كلمت فلانا فعلي صلاة أو صوم، فإنه لا يجبر، وإن شك هل طلق واحدة أو ثلاثا؟ أمر ألا يرتجع الآن، ولا يقربها حتى تنكح رجلا غيره، فإن تزوجها بعد زوج ثم طلقها- كان له أن يرتجع قولا واحدا، فإن كان طلاقه الأول ثلاثا فقد أحلها الزوج الآخر، وبقيت عنده الآن على تطليقتين، وإن كان الأول واحدة كانت هذه الطلقة ثانية، وبقيت عنده على واحدة، وإن طلقها طلقة أخرى- لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، لإمكان أن [ ص: 2625 ] يكون طلاقه الأول واحدة، فتكون هذه الثالثة، وإن شك هل طلق واحدة أو اثنتين- كان له أن يرتجع الآن، فإن ارتجع ثم طلق- لم يرتجعها، ولا يقربها حتى تنكح زوجا غيره، لإمكان أن يكون الأول طلاقا اثنتين، وإن شك هل طلق اثنتين أو ثلاثا، ولم يشك في واحدة أنه أوقعها- لم يقربها إلا بعد زوج، لإمكان أن يكون ثلاثا، وإن تزوجها بعد زوج ثم طلقها أمسك عنها أيضا حتى تنكح زوجا غيره، لإمكان أن يكون الأول اثنتين، فإن تزوجها أيضا بعد زوج ثم طلقها- كان له أن يرتجع، فإن كان الأول ثلاثا فقد بقي له فيها طلقة، وإن كان الأول اثنتين فقد بقي له فيها اثنتين.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية