الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في حكم الوصية إذا كانت بأشياء متعددة ليس بعضها أولى من بعض]

                                                                                                                                                                                        وإن لم يكن في الوصايا شيء مما تضمنه القرآن أو جاءت به السنة وكانت كلها وصية ولم يوجب شيئا ، تحاصوا إلا العتق ، فإنه يبدى . قال مالك : السنة المعمول بها أن العتق مبدى على الوصايا إذا كان بعينه . وقال أشهب : بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأبا بكر ، وعمر قضوا بذلك وإن كانت وصايا وبتل بدي البتل على الوصايا إلا أن تكون الوصية بشيء مما تضمنه القرآن ويعلم أنه أراد به براءة ذمته كالزكاة والعتق عن القتل والظهار فيبدى إذا أوصى بذلك [ ص: 3609 ] قبل البتل وإن أوصى به بعده بدي ما بتله قبل . قال في المدونة : الزكاة تبدى على المدبر في المرض والمبتل ، فإن بتل عتق عبدين في كلمة ، تحاصا . وقيل : يقترعان ، وإن أعتق واحدا بعد واحد بدي الأول; لأنه ليس له أن يحدث ما ينقص عتق الأول ، وإن اختلفت صفة التبتيل بدي الآكد ومن يرى أن الميت آثره على الآخر .

                                                                                                                                                                                        والتبتيل على خمسة أوجه : وهو أن يقول للعبد : هو حر الآن .

                                                                                                                                                                                        والثاني : هو حر بعد موتي مت أو عشت وأوجبت ألا أغير ذلك .

                                                                                                                                                                                        والثالث : هو حر بعد موتي وأوجبت له ألا أغير وصيتي ، وإن عشت فهو رقيق .

                                                                                                                                                                                        والرابع : هو حر ما لم أغير وصيتي ، وإن عشت فهو حر ، فبتل له العتق وإن عاش .

                                                                                                                                                                                        والخامس : هو حر بعد موتي ولا أغير وصيتي ، وإن عشت فهو حر متى مت ، وهذا في المدبر في المرض .

                                                                                                                                                                                        وهذا كله تبتيل; لأن البتل : القطع ، والإنجاز ، ورفع الخيار ، إما جملة أو في إحدى الحالات إلا أن أحكامه مختلفة . [ ص: 3610 ]

                                                                                                                                                                                        وقال مالك في المدونة : في المبتل والمدبر في المرض يتحاصان . وقال في المجموعة : إلا أن تكون لهم أموال مأمونة فيبدى المبتل ، وكذا على أصله مبتلان : أحدهما : عجل له العتق في المرض ، وأخر الآخر لبعد الموت يتحاصان ، ورأى أن الأمر الذي بينهما يسير فكان بمنزلة موصى بعتقه إذا مات ، والآخر إلى أجل قريب أنهما يتحاصان .

                                                                                                                                                                                        وقال مطرف عن مالك في كتاب ابن حبيب : إن المبتل يبدى . وهو أحسن ، وهو أن يبدى من عجل له العتق في المرض على المدبر وعلى المبتل بعد الموت; لأن الميت وكل أولئك للفاضل بعد الموت ، ثم المدبر في المرض والمبتل لبعد الموت عاش أو مات لا يبدى أحدهما على الآخر على ظاهر المذهب ، وقال ابن أبي أويس في المبسوط : يبدى المبتل وهو أحسن ; لأنه آثره إن عاش كان حرا وأخر الآخر لبعد الموت ، ثم من جعل لنفسه فيه الخيار إن عاش ، ثم من جعل فيه الخيار ما لم يمت ، وكل هؤلاء مبدون على من وصى بعتقه ولم يوجب له العتق في حالة من الأحوال .

                                                                                                                                                                                        وقال محمد : اختلف قول مالك في عتق المبتل في المرض مع عتق الوصية . يريد : إذا أوصى بعتقه وأوجب ألا تغير وصيته ولم يرد أنه أوصى به وجعل [ ص: 3611 ] لنفسه الخيار . وقال أشهب : يتحاصان ، وكأنه قال : أنتما حران إن مت وإن عشت فأنت يا فلان حر . أي أوصى بعتقهما ، وله أن يغير وصيته فيهما ما لم يمت فإن مات كانا حرين ، وإن عاش كان هذا حرا والآخر رقيقا فسوى بينهما في المرض ما لم يمت أنه يرجع عنهما إن شاء ، وإنما فرق بينهما إذا عاش فالبتل وقع ها هنا لبعد الموت ولم يرد أنه عجل عتقه فيحاص به الموصى بعتقه ، وكل هذا إذا كان العتق في كلام واحد بكتاب أو بغير كتاب ، وإن كانا مفترقين بدي الأول فالأول إذا كان إيجابا لا خيار فيه ، وإن جعل لنفسه الخيار في واحد ما لم يمت ، وإن عاش فهو حر ثم بتل عتق آخر فإن مات بدي المبتل ، وإن عاش أعتقا جميعا ، وإن كان عليه دين بدي الأول الذي أوجب عتقه; لأنه لم يكن له أن يحدث ما يمنع ما أوجب للأول إن عاش ، قال محمد فيمن بتل عتق عبده في مرضه ثم استدان دينا يحيط بماله فإن صح نفذ عتقه ، وإن مات من مرضه بيع للغرماء ، فإن قال في عبد هو حر بعد موتي وفي آخر هو حر بعد سنة بدئ بالمعجل .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا قال في الآخر : هو حر بعد شهر ، فقال مالك وابن القاسم : يتحاصان والشهر قريب . وقال أشهب في كتاب محمد : يبدى المعجل إلا أن يكون الأجل اليوم واليومين والثلاثة . وقال محمد : وإن كانا مؤجلين بعيدين وأحدهما أبعد تحاصا . وقال ابن القاسم : إن كان أحدهما إلى سنة والآخر إلى عشر سنين أو عشرين سنة تحاصا . والقياس أن يبدى الأقرب; لأن المفهوم [ ص: 3612 ] من الميت أنه آثره على صاحبه بتعجيل العتق ، ولا فرق بين أن يكون أحدهما عتيقا من غير أجل والآخر إلى سنة والآخر إلى عشر; لأن الميت سوى بينهم في أن جعل في كل واحد عتقا وخالف في التعجيل ، وإن عجل عتق أحدهما بغير مال والآخر على مال أو أوصى بأن يكاتب بجعل بدئ بالذي لم يجعل عليه مالا ولا كتابة .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا عجل المال ، فقال ابن القاسم : يتحاصان . وقال غيره : التبدية على حالها ، وهو أحسن; لأن المراعى قصد الميت فيما جعل لهما ليس ما تطوع به الآخر بعد الموت ، وإن عجل الميت العتق لأحدهما وأخر الآخر إلى سنة فأسقطت الورثة عنه الخدمة ، أو جعل الخدمة لرجل سماه وأسقطها عنه لم يتحاصا ، فكذلك تعجيل المال ، وإن قال : أعتقوا هذا وضعوا عن هذا كتابته ، يتحاصا ، وإن قال : ضعوا عن هذا كتابته وكاتبوا هذا ، بدي من وضعت كتابته على من يكاتب .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا قال : كاتبوا هذا وأعتقوا الآخر إلى سنة ، فقيل : يتحاصان ثم يعتق من كل واحد منهما في الحصاص بتلا ، وقيل : يبدى المعتق إلى أجل لأن المكاتب يرقب فيه العجز فإن لم يحمله الثلث خير الورثة بين أن يعتقوه إلى الأجل ، أو تكون لهم الخدمة ، أو يعتقوا ما حمل الثلث منه بتلا . [ ص: 3613 ]

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا حمله الثلث ، فقيل : يعتق إلى الأجل; لأن الميت لم يجعل له من المعتق أكثر من ذلك فلا يزاد على ما جعل له الميت بخلاف إذا لم يحمله الثلث ، وقيل : يعتق بتلا; لأن الوصايا إذا عالت على الثلث ولم يجز الورثة خرجوا من ثلث الميت ، فإن أعتق هذا إلى الأجل بقيت لهم الخدمة وهي بقية الثلث فيكونون لم ينفذوا وصية الميت ولا خرجوا من جميع الثلث ، وهذا الجواب فيما كان في ملكه ، وإن كانا في غير ملكه فقال : اشتروا عبد فلان وعبد فلان ثم أعتقوهما ، والثلث قدر أحدهما ورضي السيدان بالبيع تحاصا ، وإن لم يرض أحدهما أعتق جميع الآخر لأن الميت كان يترقب ألا يرضي أحدهما ، وقيل في هذا الأصل : إن للورثة أن يتحاصوا بما ينوب الآخر ، قاله مالك فيمن أوصى لرجلين لكل واحد منهما بعشرة فلم يرض أحدهما هل يحاص بنصيبه ويكون الذي ينوبه كمال لم يعلم به؟

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا كان أحدهما معينا والآخر غير معين ، فقال مالك : يبدأ بالمعين . وقال الليث وابن أبي حازم في كتاب محمد : يتحاصان . والأول أحسن ، وإنما الحصاص للمعينين; لأن كل واحد منهما يقوم بحقه ويقول : ليس هو أحق به مني ولا مقال لغير معين ، ولأن السلامة من عيب الشرك أولى; لأن عتق البعض ضرر عليه في الموارثة والخراج وكثير من أموره على أحكام العبدية .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا كان أحدهما في ملكه والآخر معين في غير ملكه ، فقال [ ص: 3614 ] مالك : يتحاصان ، وقال في كتاب محمد : يبدأ بالذي في ملكه ، وهو أبين لأن الميت مترقب في الذي في غير ملكه هل يباع أم لا؟ وليس يقصد أن يؤخر عتق من في ملكه ، حتى ينظر هل يباع الآخر؟ وإن كان الذي في غير ملكه غير معين بدئ بمن هو في يديه قولا واحدا .

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية