الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في بيع المصراة من الإبل والغنم والبقر

                                                                                                                                                                                        ولا يجوز تصرية الماشية لبيع؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم: "لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاع تمر".

                                                                                                                                                                                        واختلف في العمل بهذا الحديث، فقال ابن القاسم: فقلت لمالك: أيؤخذ بهذا الحديث، يريد هل يرد معها صاعا؟ قال: نعم. والأخذ بهذا الحديث رأي.

                                                                                                                                                                                        وقال مالك في مختصر ما ليس في المختصر: ليس هو بالموطإ ولا بالثابت.

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب في كتاب محمد: لا يؤخذ به، وقد جاء ما هو أثبت منه: "الخراج بالضمان". والأول أصوب، لوجهين أحدهما: ورود النص -وهو [ ص: 4335 ] حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم ومالك في الموطإ وغيرهم- أن ذلك اللبن مبيع؛ لأنه كان وقت البيع موجودا مجموعا ولم يبق إلا حلابه، وهو بمنزلة الثمرة إذا يبست ولم يبق إلا جذاذها، والصوف إذا تم ولم يبق إلا جزازه، وإنما الخراج بالضمان فيما يحدث عند المشتري، وإذا كان ذلك فإن كان اللبن قائما وكان حلابه بفور الشراء، رد عينه ولا يغرم بالعوض عنه مع قيامه، وإن كان حلابه بعد ذلك لم يكن عليه رده؛ لأن ما حدث في ضروعها بعد شرائها فهو للمشتري، فكان ذلك الموجود بعضه للبائع وبعضه للمشتري، ولا يدرى ما لكل واحد فيه، وعلى هذا محمل قول مالك في المدونة، أنه لا يرده إذا كان قائما، أن ذلك إذا لم يحلب بحضرة البيع، ولهذا قال: له اللبن بما علف؛ لأن ما حلب بالحضرة لم يكن على العلف.

                                                                                                                                                                                        وقد قيل: في حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اللبن بصاع، إن ذلك لرفع التنازع؛ لأن الأصل أبدا فيه مجهول، قال مالك: والصاع من عيش البلد. وإن كان عيشه قمحا أو شعيرا، كان عليه صاع من عيشهم، وذهب بعض أهل العلم إلى ألا يغرم الصاع، إذا كان السعر غالبا، فقد يكون قيمة الصاع نصف قيمة الشاة، فإن غرم المشتري قيمة أعلى ما يرى أنه كان فيها، لم يكن للبائع في ذلك مقال، وخصوا الحديث بالقياس؛ لأن الأصل في المتلفات أن يغرم قيمتها أو مثالها، ولا يحمل الحديث على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألزم المشتري فوق ما قبض. [ ص: 4336 ]

                                                                                                                                                                                        وقد قال ابن أبي ليلى وأبو يوسف: يرد قيمة اللبن. وحملوا الحديث أن الصاع كان ذلك الوقت قيمة اللبن. واختلف إذا كان المبيع جماعة غنم، هل يغرم صاعا واحدا، أو لكل شاة صاع؟ وهذا أصوب، فإن كانت الغنم عدة، أكان لكل واحدة حكمها؟ والشاة المصراة والبقرة والناقة في ذلك سواء، يريد عن اللبن الذي بيعت به، وهذا للحديث المتقدم، وقد قيل ذلك لأن لبن الغنم وإن كان أقل فهو أجود ولبن الإبل أدنى وأكثر، فإذا علم المشتري أن الشاة مصراة قبل أن يحلبها، وأن ذلك ليس بعادة لها، كان له أن يردها قبل الحلاب، وله أن يمسكها ويحلبها ثم يختبرها، وينظر كيف عادتها؟ وهل تنقص التصرية اليسير أم لا؟ وكذلك إن علم بعد أن حلبه ما صريت، فهو بالخيار بين أن يرد الآن، أو يمهل حتى يحلبها ويعلم عادتها.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا حلبها الثالثة هل ذلك رضى؟ فقال في المدونة: إن جاء من ذلك ما يعلم أنه اختبرها قبل ذلك فهو رضى، وقال محمد: ذلك رضى.

                                                                                                                                                                                        وقال مالك في كتاب محمد: له أن يرد وإن حلبها الثالثة. وهو أحسن لقول النبي - صلى الله عليه وسلم: "من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام". أخرجه البخاري ومسلم، فجعل له الخيار إلى ثلاثة أيام، وإن تحقق قبله العيب قبل ذلك؛ لأن المشتري يريد أن يؤامر نفسه في ذلك، وهل يرضى بذلك العيب أو [ ص: 4337 ] يرد؟ ولأنه خلاف إذا حلبها أول مرة اللبن الذي صريت به، أن له أن يرد الآن؛ لأنه اشترى على أن ذلك عادة لها، وله ألا يعجل بالرد حتى يختبر حلابها، هل هو قدر يرضاه؟ وإن كان يعلم أنه لا يأتي بمثل الأول، وإن اشتراها وهو عالم بأنها مصراة من الأصل، لم يكن له رد إلا أن يجدها قليلة الدر دون المعتاد من مثلها، وإن بيعت وهي غير مصراة والبائع يعلم بحلابها، كان له أن يرد كمن باع صبرة وهو يعلم كيلها، وقد تقدم ذكر الاختلاف في هذا الأصل، في كتاب البيوع الفاسدة.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا اشتراها في غير إبان حلابها، ثم وجدها في إبان الحلاب تحلب دون حلاب مثلها، فقال ابن القاسم: ليس له أن يرد. وقال أشهب: ذلك له.

                                                                                                                                                                                        وقال محمد: أرى أن ينظر في ثمنها، فإن هي في كثرة ثمنها أن شحمها ولحمها لا يساوي ذلك، ولا يبلغه إن هي حملت بعد ذلك، كان له أن يرد متى علم أن البائع كان عالما بحلابها أم يخيره.

                                                                                                                                                                                        وإن اشترط المشتري أنها تحلب كل يوم قسطا، فوجدها تحلب دون ذلك رد إن شاء، ويفترق الجواب فيما حلب. وإن اشترى على أنها إن كانت كذلك كانت له، كان الحلاب للبائع ردا وقيل لأنها على ملك البائع وإن اشتراها في ملكه على التصديق كان الحلاب للمشتري وله الردة لأنها كانت في ضمانه؛ لأن اللبن حدث في ملكه، فأشبه الحلاب الثاني من مصراة.

                                                                                                                                                                                        وقال محمد فيمن اشترى شاة مصراة، فوجد بها عيبا من غير التصرية: لم [ ص: 4338 ] يرد عن اللبن شيئا. وأرى أن ذلك شرعا إذا كان العيب التصرية خاصة، وأرى أن يرد عوض اللبن الذي صرته له كالعيب إذا كان من سبب اللبن. [ ص: 4339 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية