الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب فيمن اشترى جارية فزوجها فولدت ثم وجد بها عيبا

                                                                                                                                                                                        وقال مالك -فيمن اشترى جارية فزوجها ثم وجد بها عيبا: أن له أن يردها وما نقص النكاح، أو يمسك ويرجع بقيمة العيب. فلم يجعل النكاح فوتا، وهذا على القول في العبد إذا عمي أو ذهبت يده أو أقعد أو هرم؛ أنه ليس بفوت. وعلى قول محمد بن مسلمة يكون النكاح فوتا، ويرجع بقيمة العيب ولا يرد؛ لأن النكاح يبطل الغرض منها إن كانت من جواري الوطء، وإن كانت من الوخش فالزوج يأتي إلى البائع من أجل ما تزوجها له أو تتردد هي إليه، وإن شرط الزوج أن تبوأ كما تبوأ الحرة، كان ذلك أبين؛ لأنها تصير منقطعة، وكل هذا يبطل الغرض منها ولا يكسبها إلا القليل من الناس.

                                                                                                                                                                                        وقد قال مالك -فيمن اشترى عبدا فباع نصفه ثم وجد به عيبا: أن بيع النصف فوت يمنع المشتري الأول من رد النصف الباقي، والمشتري الأول بالخيار بين أن يقبض منه النصف أو يعطيه قيمة عيبه، فهو في التزويج أبين.

                                                                                                                                                                                        واختلف بعد القول إن له أن يردها وإن صارت ذات زوج، إن ولدت أو زادت في جسمها، هل يجبر بذلك عيب التزويج والولادة؟ فقال ابن القاسم: يجبر بالولد، فإن كان كفافا لما حدث عنده من العيب، رد ولا شيء عليه، أو أمسك ولا شيء له، وإن لم يكن فيه كفاف للعيب أتم الباقي، وإن كان فيه [ ص: 4379 ] فضل كان للبائع. وقال غيره: عليه ما نقص النكاح ولا يجبر بالولد. قال: وإنما زيادة ولدها كزيادة بدنها.

                                                                                                                                                                                        وقال مالك في مختصر ما ليس في المختصر، في زيادة البدن: إذا زادت قيمتها بقدر ما نقص التزويج، ردها ولا شيء عليه، والنكاح ثابت، يجبر العيب بزيادة الجسم. وقال غيره: لا يجبر

                                                                                                                                                                                        والأول أحسن؛ لأن كل ذلك إنما هو حادث في ملك المشتري وفي ضمانه، ولم يتقدم للبائع فيه ملك، وهو ملك للمشتري فوجب أن يجبر به. وقد حمل بعض أهل العلم قول مالك في جبره بالولد، أنه يرى أن الولد غلة، وليس كذلك؛ لأنه لا خلاف أن ولد الحرة من العبد حر، وولد الأمة من الحر عبد، وولد المعتق بعضها بمنزلة معتق بعضه، وولد المدبرة مدبر، والمعتق إلى أجل والمعتقة إلى أجل معتق إلى أجل وولد المكاتبة مكاتب، ولو كان الولد غلة والأم طرفا لبطل جميع ما تقدم ذكره.

                                                                                                                                                                                        وإنما رأى مالك ذلك من باب "لا ضرر ولا ضرار"؛ لأن الأم إذا عادت بالولد على مثل القيمة الأولى، لم يكن عليه ضرر؛ ولذلك راعى في المشتري إذا اطلع على عيب من بعد ما باع بمثل الثمن، لا مقال له على البائع؛ لأنه لو كان بيده فرده كان له الثمن، فقد عاد إليه فلم ينظر من جهة العيب. وكذلك إذا باع بأقل، لم يكن ذلك من سبب العيب.

                                                                                                                                                                                        والأمة بعد الولادة على أوجه: إما أن يكونا قائمين، أو ماتا، أو بيعا، أو قتلا، أو نزل ذلك بأحدهما. وقد تقدم القول إذا كانا قائمين، وهل يجبر [ ص: 4380 ] بالولد؟ وإن ماتا رجع بالعيب، وإن مات الولد لم يضمنه المشتري، وكأنه لم يكن، والمشتري بالخيار بين أن يمسك ويرجع بقيمة العيب، أو يرد وما نقص النكاح، وإن ماتت الأم دون الولد، كان فيها قولان بقول ابن القاسم، يرجع بقيمة العيب بمنزلة ما لو ماتا.

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب: البائع بالخيار بين أن يدفع قيمة العيب، أو يخير المشتري بين أن يمسك الولد ولا شيء له، أو يرد ويأخذ الثمن؛ لأن الولد كبعضها، بمنزلة لو كانت قائمة وقد حدث بها عيب.

                                                                                                                                                                                        وإن بيعا لم يرجع بشيء على رواية ابن القاسم، وكذلك على قول أشهب إن بيعا بمثل الثمن، وإن بيعا بأقل رجع بالأقل من تمام الثمن أو قيمة العيب، وعلى قول ابن عبد الحكم يرجع بقيمة العيب، وإن باع بمثل الثمن.

                                                                                                                                                                                        وإن بيعت الأم دون الولد لم يرجع على قول ابن القاسم بشيء، وكذلك على قول أشهب إن بيعت بمثل الثمن، وإن بيعت بأقل كان البائع بالخيار بين أن يعطي قيمة العيب أو يخيره بين أن يمسك الولد أو يرده ويتم له الثمن.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم: إن بيع الولد أو قتل، رد الأم وما أخذ من ثمن الولد أو قيمته. قال: بخلاف المفلس: يبيع الولد ثم يجد البائع الأم، فلا شيء له فيما بيع من ولده.

                                                                                                                                                                                        وقال أصبغ -في العيب: يرد من ثمنه قدر قيمته كأنه اشتراه مع أمه مولودا.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم -في العتبية، فيمن اشترى شاة حاملا فولدت وأكل [ ص: 4381 ] ولدها ثم أصاب بها عيبا: إن أحب ردها وتقاصص بقيمة الولد، وإن أحب أمسك ورجع بقيمة العيب، وإنما جعلت له أن يمسك؛ لأن الولد ربما جاء من ثمنه ما هو أكثر من ثمنها، فإن قاصصه لم يرجع بشيء.

                                                                                                                                                                                        وإن قتلا أو قتلت دون الولد، رجع على قول ابن القاسم بقيمة العيب، وعلى قول أشهب لا شيء له إن أخذ مثل الثمن، وإن أخذ أقل رجع بالأقل من قيمة العيب، أو تمام الثمن إن قتلا. وإن قتلت وكانت القيمة أقل كان له أن يعطيه قيمة العيب، أو يخيره بين أن يسلم له الولد ويتم له الثمن، أو يمسكه ولا شيء له.

                                                                                                                                                                                        وإن قتل الولد دون الأم، وكان في قيمته ما يجبر عيب النكاح، خير بين أن يمسك ولا شيء له، أو يرد ويحاسب بالولد، فإن لم يجبر كان له أن يمسك ويأخذ قيمة العيب، أو يرد ويغرم له ما نقص العيب بعد الولادة. واستحسن إذا فات الولد ببيع أو قتل أن يمسك ويرجع بالعيب على كل حال بمنزلة الصغير يكبر.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا كان صغيرا فكبر؛ فقال ابن القاسم في المدونة: ذلك فوت ويرجع بقيمة العيب ولا وجه لواحد منهما. وقال مالك -في كتاب محمد: له أن يرده ويرجع بالثمن. وهو أحسن؛ لأن النماء من حقه لا عليه. وقال مالك في المدونة: الهرم فوت. وقال محمد: هو عيب وليس بفوت. وقال [ ص: 4382 ] أصبغ: إن هرم وفني فهو فوت. وأرى إن هرم على الحال التي كان عليها يسيرا كان عيبا، وإن كان كثيرا فهو فوت.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية