الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [فيمن وكل رجلا يجهز إليه المتاع ويبيع ويشتري، فمات بعد أن باع واشترى]

                                                                                                                                                                                        وقال مالك فيمن وكل رجلا يجهز إليه المتاع ويبيع ويشتري، فباع واشترى بعد موت الآمر ولم يعلم بموته: فذلك جائز على الورثة، وإن كان قد علم بموته لم يجز.

                                                                                                                                                                                        وقد اختلف في الوكيل يموت من وكله على ثلاثة أقوال:

                                                                                                                                                                                        فقيل: هو معزول بنفس موت موكله وإن لم يعلم بموته، فإن اشترى أو باع وهو لا يعلم لم يلزم الورثة، وهذا هو الظاهر من المذهب، وقد ذكر ابن المنذر أنه إجماع من أهل العلم.

                                                                                                                                                                                        وقيل: هو على الوكالة حتى يعلم بموته، وهو ظاهر قول مالك في الكتاب.

                                                                                                                                                                                        وقال مطرف في كتاب ابن حبيب: يجوز قبضه ودفعه وخصومته، وإن [ ص: 4627 ] علم حتى يعزله الورثة. وليس بحسن.

                                                                                                                                                                                        واختلف أيضا في عزله عن البيع والشراء، فقال أشهب في من وكل رجلا على بيع عبد، ثم عزله قبل البيع، فباع الوكيل وهو لا يعلم قال: البيع جائز ولا سبيل للآمر إلى العبد وإن لم يفت.

                                                                                                                                                                                        وذكر سحنون عن ابن القاسم مثل ذلك. وأنكر قوله في مسألة الاقتضاء، وقال: هو يجيز بيعه إذا لم يعلم بفسخ وكالته فكيف لا يجوز اقتضاؤه؟

                                                                                                                                                                                        وفرق مالك بين موت الموكل وعزله، فجعل الوكالة ساقطة بنفس الموت، ولا تقطع إن عزله حتى يعلم الوكيل، وقال في الزوج يموت عن زوجته أو يطلق فتنفق من ماله بعد موته أو طلاقه وهي لا تعلم- فجعل للورثة الرجوع عليها بعد الموت، ولم يجعل للزوج عليها رجوعا في الطلاق.

                                                                                                                                                                                        والذي أختاره أن يكون معزولا بنفس الموت وإن لم يعلم، بخلاف عزله في الحياة; لأن المال في الوفاة لغير من وكل وهم الورثة، ولم يكن منهم إذن ولا وكالة، وفي الحياة المال للموكل، فإذا أذن ثم حجر على الوكيل في وقت يعلم أنه لا يبلغه التحجير إلا بعد امتثال الوكيل- كان التحجير مستحيلا، وهو من تكليف ما لا يطاق.

                                                                                                                                                                                        وكذلك إن حجر عليه وهو معه في البلد، وحجر وأشهد بعزلته ولم يعلمه- فهو ضرب من التعدي على أموال الناس، يأمره بالبيع وأخذ الثمن [ ص: 4628 ] منهم فيه ثم يعزله في وقت يعلم أنه لا تبلغه العزلة إلا بعد البيع وأخذ الثمن.

                                                                                                                                                                                        وذكر أبو محمد عبد الوهاب عن ابن القاسم أن تصرف الوكيل بعد الموت مردود. ولم يفرق بين بيع وشراء واقتضاء. فإن كان وكيلا على البيع، وثبت أن البيع للميت كان حكم المبيع حكم المستحق، فإن كان قائما كان الورثة بالخيار بين الإجازة والرد. وإن تغير من غير سبب المشتري أو هلك أو ضاع لم يكن لهم سوى الثمن، وإن كان هلاكه من سببه -لبس فأبلى أو ما أشبهه- كان لهم الأكثر من الثمن أو القيمة. وإن باعه المشتري كانوا بالخيار بين إجازة البيع الأول أو الثاني، أو النقض.

                                                                                                                                                                                        وإن كان وكيلا على الشراء فاشترى وكان البائع حاضرا، وقد بين المشتري أنه وكيل لفلان، أو ثبت ذلك- كان للورثة رد البيع وانتزاع الثمن منه. وإن غاب البائع وعاد مقالهم مع الوكيل لم يكن لهم عليه مقال سوى أخذ ما اشترى أو الثمن إن باع; لأنه تصرف بوجه شبهة، وعلى هذا يحمل قول ابن القاسم في المدونة.

                                                                                                                                                                                        وإن كان وكيلا على قبض دين فقبضه وضاع منه كانت مصيبته من الطالب أو من الورثة على القول: إنه معزول بنفس الموت أو بنفس العزلة.

                                                                                                                                                                                        وإن كان وكيلا على خصومة فخاصم بعد موت الموكل، حتى أثبت الحق أو انحصر وسقط حكم الدعوى- كان على الخلاف المتقدم، فعلى القول: إنه ليس بمعزول- جرى فعله مجرى ما فعل في الحياة، وعلى القول: إنه معزول- يصح ثبوت الحق قبل المدعى عليه، ولا يصح سقوطه؛ لانحصار الوكيل، [ ص: 4629 ] ولهم أن يستأنفوا الخصومة في ذلك.

                                                                                                                                                                                        وقال أصبغ: تنفسخ الوكالة بموت الآمر، ولا تجوز خصومته إلا أن يموت الآمر عندما أشرف من تمام الخصومة له أو عليه، وبحيث لو أراد الموكل فسخ خصومته لم يكن ذلك له، وما كان من يمين كان يحلفها الآمر يحلفها الورثة.

                                                                                                                                                                                        وهذا قول محمد أن للموكل أن يعزل الوكيل عن الخصومة ما لم يشرف على الحكم، والقول إنه إذا أنشب الخصومة لم يكن له أن يعزله أحسن، وكذلك وكيله.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية