الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في اختلاف المتكاريين وكيف إذا اكترى رجلان دابة ثم اختلفا في الموضع الذي اكتريا إليه؟

                                                                                                                                                                                        لا يخلو اختلاف المتكاريين من أربعة أوجه:

                                                                                                                                                                                        إما أن يكون في المسافة، أو في الثمن، أو في المسافة والثمن، أو في دفع الثمن.

                                                                                                                                                                                        فإن اختلفا في المسافة فقال المكري إلى برقة، وقال المكتري إلى إفريقية، واتفقا أن الثمن مائة وأتيا بما يشبه، كان فيها قولان:

                                                                                                                                                                                        فقال ابن القاسم: يتحالفان ويتفاسخان إذا كان قبل الركوب، أو كان ركوبا قريبا لا ضرر عليهما في رجوعهما.

                                                                                                                                                                                        وقال غيره: القبض فوت، والقول قول المكري، قال: ألا ترى أنه لو قال: بعتك بهذه المائة التي قبضت منك مائة إردب إلى سنة، وقال المبتاع [ ص: 5179 ] بل اشتريت بها منك مائتي إردب إلى سنة - أن القول قوله؟ فجعل القول قول المكري بنفس القبض، وإن لم يبن بها، وهذا الذي يقتضيه قوله: بهذه المائة.

                                                                                                                                                                                        وعلى أحد قولي مالك لا يقبل قوله فيها حتى يبين بها، كما قال: إذا اختلفا في ثمن السلعة فالقول قول المشتري في العوض إذا بان بها، وكذلك هذا، أن القول قول المكري في العوض عما قبضه من الثمن; لأنهما متفقان أنه استحق جميع الثمن واختلفا في العوض عنهما.

                                                                                                                                                                                        وإن اختلفا بعد أن بلغا إلى برقة وأتيا بما يشبه ولم ينقد، تحالفا وتفاسخا ويسقط عن المكري الدعوى في بقية المسافة، ويغرم المكتري ما ينوب [ ص: 5180 ] برقة على أن الكراء إلى إفريقية، وعلى المكري أن يحلف أن الكراء لم يكن إلا إلى برقة، ويحلف الآخر أنه اكترى إلى إفريقية، وليس عليهما أن يذكرا الثمن لاتفاقهما عليه.

                                                                                                                                                                                        وإن كان نقد المائة كان القول قول المكري مع يمينه أنه لم يكر إلا إلى برقة، ويستحق المائة، ويسقط عنه بقية المسافة. فإن نكل المكري وحلف المكتري، كان له أن يتمادى إلى إفريقية. وإن حلف المكري ونكل المكتري كان له أن يقبض المائة، ويسقط عنه بقية المسافة.

                                                                                                                                                                                        ويستوي الجواب إذا حلف أحدهما ونكل الآخر، إذا اختلفا قبل الركوب أو بعد الوصول إلى برقة نقد أو لم ينقد، وإنما يفترق الجواب إذا أتى أحدهما بما يشبه والآخر بما لا يشبه.

                                                                                                                                                                                        فإن كان المكري أتى بما يشبه دون الآخر، حلف واستحق المائة وتسقط عنه بقية المسافة كالنكول، وإن كان المكتري هو الذي أتى بما يشبه دون [ ص: 5181 ] الآخر تحالفا وتفاسخا وفضت المائة، على أن الكراء كان إلى إفريقية، بخلاف النكول; لأن كثرة الثمن دليل على أن هناك مبيعا آخر غير الوصول إلى برقة، وليس فيه دليل على أن الزائد بقية طريق إفريقية، وهو بمنزلة قوله: بعتك هذا العبد بمائة وأتى بما لا يشبه. وقال الآخر: اشتريت هذا العبد وهذا الآخر بمائة، وإن أتى بما يشبه أن تكون المائة ثمن العبدين، وقد فات الذي تقاررا على بيعه- فإنهما يتحالفان ويتفاسخان وتفض المائة على قدر العبدين.

                                                                                                                                                                                        وفرق بين هذه وبين المختلفين في السلم إذا قال المسلم إليه: في خمسة أرادب وأتى بما لا يشبه. وقال الآخر: في عشرة وأتى بما يشبه، أنه يحلف ويأخذ العشرة؛ لأن الطعام صفة واحدة في الذمة، فأشبه من قال: بعت بمائة دينار وأتى بما يشبه. وقال الآخر بخمسين، وأتى بما لا يشبه، والطريق كالسلع المعينات، فالقول قول صاحب الدابة أنه لم يبع منافعها إلى تلك الطريق.

                                                                                                                                                                                        وكذلك السلم لو قال: أسلمت إلي في خمسة أرادب قمحا وخمسة [ ص: 5182 ] تمرا، وأتى بما لا يشبه. وقال الآخر: في خمسة قمحا وخمسة تمرا وأتى بما يشبه أن يكون رأس المال ثمنا لتلك العشرة وقد حل الأجل- فإنهما يتحالفان ويتفاسخان، ويكون للمسلم القمح بما ينوبه من الثمن، ويرتجع بقية رأس المال. وهذا وجه تفرقة ابن القاسم بين السؤالين.

                                                                                                                                                                                        ولو قيل: إن القول قول المكتري أن الكراء إلى إفريقية ويبلغ بها إلى إفريقية. وقول المسلم: إنه أسلم في القمح والتمر ويأخذهما لكان وجها; لأن كثرة الثمن دليل على أن الكراء والبيع انعقدا على شيء آخر غير ما تقاررا عليه، وقد كتمه الكري والبائع، فكان القول قول المكتري والمشتري في تعيينه.

                                                                                                                                                                                        قال محمد: وقال مالك: إلا أن يكون ذلك في زمن الحج، فإن الحاج إنما يكري إلى مكة فعليه أن يبلغه إلى مكة. قال محمد: بما انتقد وإن لم ينتقد فبالكراء الذي يقر به المكتري. وهذا أحسن، بخلاف المسألة الأولى; لأن العادة أن الكراء حينئذ إلى مكة، وليس العادة أن يكتري إلى المدينة، ثم يستأنف [ ص: 5183 ] كراء آخر إلى مكة، فكان في ذلك دليل للمكتري على عين المبيع، وهو كشاهد على غير المبيع، والأول كشاهد أن هناك مبيعا لا يدرى ما هو.

                                                                                                                                                                                        وإن نقد خمسين، ثم اختلفا بعد أن بلغا برقة، كان القول قول المكري أنه استحقها على نصف الحمل إلى برقة، والقول قول المكتري في الخمسين التي لم ينقد; أن المائة كانت عن جميع الطريق إلى إفريقية، ويغرم خمسة وعشرين إذا كانت برقة نصف طريق إفريقية.

                                                                                                                                                                                        وإن اختلفا في نصف طريق برقة، وكان الكراء على الأحمال- تحالفا، وكان للمكري من الخمسين خمسة وعشرون عن نصف الماضي، ويحمل له نصف الأحمال في المستقبل.

                                                                                                                                                                                        ولو كان الكراء على ركوبه لفسخ الباقي; لأنه لا يتبعض ويغرم المكتري عن نصف الماضي اثني عشر ونصفا; لأن القول [ ص: 5184 ] قوله فيما لم ينقد أنه من حساب مائة إلى إفريقية.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية