الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في الاختلاف في القراض

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ -رحمه الله-: الاختلاف في القراض في تسعة مواضع: في ضياعه، وفي رده، وفي الجزء الذي يأخذه من ربحه، وفي القدر الذي ربحه، وفي قدر رأس المال، وهل هو بضاعة أو قراض (أو اختلفا هل هو قرض أو قراض) ؟ وفي الصحة والفساد.

                                                                                                                                                                                        فإن اختلفا في تلفه فقال العامل: ضاع أو سقط مني، أو نزل علي فسرق، أو لقيني اللصوص فانتزعوه مني، أو غرق أو ما أشبه ذلك، كان القول قول العامل في جميع ذلك; لأنه أمين، والأمين مصدق في أمانته مأمونا كان أو غير مأمون; لأن رب المال رضيه أمينا.

                                                                                                                                                                                        واختلف في يمينه، وأرى أن يحلف إن كان غير مأمون، فإن كان ثقة لم يحلف إلا أن يكون هناك دلائل التهم، فإن قام دليل على كذبه لم يصدق وأغرم وإن كان عدلا. وإن اختلفا في رده وكان أخذه بغير بينة كان القول قوله مع يمينه وإن كان ثقة; لأن رب المال يدعي عليه التحقيق أنه لم يرد بخلاف دعوى التلف; لأنه لا يقطع بكذبه في التلف وهي أقوى تهمة، وإن أخذه ببينة لم يقبل قوله في رده.

                                                                                                                                                                                        وهذا قول ابن القاسم في المدونة، وقال في كتاب [ ص: 5301 ] محمد فيمن اكترى ما يغاب عليه، ثم ادعى رده كان القول قوله بيمينه أخذه ببينة أو بغير بينة. قال محمد: وهو الصواب; لأنه لو كان يلزمه الضمان إذا كانت البينة على أخذه ما جاز الكراء; لأنه لا يحل الكراء بالضمان، وعلى هذا يكون القول قول العامل في رده وإن كان أخذه ببينة، وهو في القراض أولى؛ لأنه على الأمانة بغير خلاف.

                                                                                                                                                                                        ولو دخل على غير ذلك لكان فاسدا، ويجوز ذلك في الوديعة; لأنه معروف صنعه مع ربها في حفظها، ويكون ضامنا إن لم يشهد على الرد، والقراض مبايعة في المنافع ومعاوضة. والأول أحسن؛ لأنه قادر على أن يشهد على الرد، ولا ضرر عليه في ذلك بخلاف التلف، ولو شرط أنه غير مصدق فيه لكان فاسدا; لأنه أمر لا يقدر على الاحتياط فيه بالبينات.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم: إذا قال العامل: رددت رأس المال والذي معي ربح، وكذبه الآخر، لم يصدق. وينبغي أن يقبل قوله، وكذلك إذا قال: هذا ربحي، وكما لو قال: رددت بعض رأس المال، ولا فرق بين قوله: رددت بعض [ ص: 5302 ] رأس المال أو جميعه دون الربح، أو لم أربح شيئا، أو ربحت وسلمت إليك رأس المال ونصيبك من الربح.

                                                                                                                                                                                        وقد قال مالك في "كتاب محمد" في المساقي يقول بعد جذاذ الثمرة لصاحب الحائط: قد دفعت إليك نصيب الحائط، فالقول قول العامل وإن كان يقول: هذا الذي في يدي نصيبي، فكذلك القراض.

                                                                                                                                                                                        وإن اختلفا في الجزء، فقال العامل: أخذته على النصف. وقال الآخر: على الثلث، فإن كان لم يعمل، كان القول قول صاحب المال; لأن له أن ينتزعه منه، فإن أحب الآخر أن يعمل على الثلث أو يرده.

                                                                                                                                                                                        فإن اختلفا بعد العمل، كان القول قول العامل إذا أتى بما يشبه إذا كان المال في يديه، وإن سلمه لرب المال ليستوفي رأس المال ونصيبه من الربح كان القول قول صاحب المال، وإن سلمه ليبقى موقوفا حتى يسلم رأس المال ثم يقتسمان الربح، كان القول قول العامل.

                                                                                                                                                                                        وإن اختلفا في الصفة التي دفع عليها، فقال رب المال: بضاعة، وقال العامل: قراضا على النصف، فإن قال رب المال: بضاعة بأجرة كذا وكان نصف الربح والأجرة التي قال الآخر سواء، لم تكن هناك يمين؛ لأن اختلافهما غير مفيد. وإن كانت الأجرة أقل من نصف الربح حلف العامل وحده وكان له النصف إذا كان يشبه أن يقارض النصف، فإن نكل حلف الآخر ودفع الإجارة.

                                                                                                                                                                                        وإن قال صاحب المال: بضاعة بغير أجرة، كان القول قول صاحب المال إذا كان (مثل) المبضع معه لا يستعمل نفسه في القراض، أو كان مثل تلك [ ص: 5303 ] البضاعة لا تدفع قراضا ليسارتها.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا أشبه أن يستعمل في القراض وكانت الإجارة أقل من نصف الربح، فقال ابن القاسم: القول قول صاحب المال مع يمينه.

                                                                                                                                                                                        وقال محمد: يحلفان جميعا ويعطى العامل إجارة المثل. وإن قال العامل: بضاعة بأجرة، وقال صاحب المال: قراضا، كان القول قول العامل مع يمينه.

                                                                                                                                                                                        قاله ابن حبيب; لأن العامل يقول: عملت على الإجارة في الذمة، والآخر يقول: على الجعالة. وإن قال صاحب المال: وديعة، وقال الآخر: قراضا وقد ضاع المال، فإن ادعى ضياعه قبل أن يحركه لتجارة كانت مصيبته من صاحبه؛ لأنهما متفقان أنه كان أمانة فلا يفيد خلافهما حينئذ. وإن تجر فيه، كان القول قول صاحبه أنه لم يأذن له في التجر به ويضمنه.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا قال صاحب المال: قرضا، وقال الآخر: قراضا، فقال مالك مرة: القول قول صاحب المال، وقال مرة: القول قول العامل وبالأول قال ابن القاسم. وقال أشهب: القول قول القابض إذا ضاع قبل أن يحركه والقول قول صاحبه إن ضاع بعد أن تجر فيه. فجعل مالك مرة القول قول العامل.

                                                                                                                                                                                        وإن حركه لاتفاقهما على أنه مأذون له في حركته، فرب المال يقول: حركته لنفسك، والآخر يقول حركته على أنه باق على ملكك ولم ينتقل; [ ص: 5304 ] بخلاف إذا قال صاحب المال: وديعة وقال الآخر: قراضا; لأنه لم يقر له بحركته على حال فأشبه من قال: أودعتك هذه السلعة (وقال الآخر: أذنت لي في بيعها.

                                                                                                                                                                                        وإن قال صاحب المال: قراضا) وقال الآخر: وديعة أو قرضا وفي المال ربح كان القول قول العامل; لأن الآخر يقول: بعتني منافعك، فكان القول قول العامل أنه لم يبعها.

                                                                                                                                                                                        وتقدم في أول الكتاب إذا ادعى أحدهما الصحة والآخر الفساد، وفي "كتاب الوديعة" إذا قال صاحب المال: قراضا، وقال الآخر: وديعة.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية