الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        واختلف إذا كانت تركة الميت ديارا، وكانت القسمة وهم عالمون بالدين فقال مالك في كتاب محمد: القسمة فاسدة منتقضة وسواء رضي الورثة بقضاء الدين أم لا . واحتج بقول الله -عز وجل-: من بعد وصية يوصي بها أو دين [النساء: 11].

                                                                                                                                                                                        وأرى أن القسمة لم يتعلق بها حق لله سبحانه، وإنما يتعلق بها حق لآدمي فإن رضوا بقضاء الدين لم تنقض، وإن يرضوا واختلفوا فرضي أحدهم ببقاء [ ص: 5934 ] القسم، وأن يقضي ما ينوبه ولم يرض الآخرون نقضت، وقضي الدين، واستؤنف القسم في الباقي، وإن كان لا يبقى بعد قضاء الدين شيء كان القول قول من دعا إلى قضاء ما ينوبه ولا ينتزع ما في يده.

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب وسحنون: القسمة جائزة إذا كان جميع المقتسم موجودا ويفض الدين على ما في أيديهم بالحصص، فإن كان الدين يغترق نصف التركة وفي أيديهم ثلث التركة، وفي أيدي الآخرين الثلثان، بيع نصف ما في يد كل واحد إلا أن يكون على الغريم في ذلك ضرر فيما يباع له من حصة كل واحد لافتراقه، وقلة الرغبة في شراء البعض أو يكون ما صار لأحدهم أدنى ثمنا فينقض القسم .

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ -رحمه الله-: وعلى قوله لو بنى أحدهما في نصيبه وقيمته مائة، فصارت قيمته مائتين لبيع منه للغريم ربعه؛ لأنه هو نصفه قبل البناء إلا أن يشاء أن يدفع قيمة نصف ذلك يوم قاسم قيل يوم بنى؛ لأن البناء فوت.

                                                                                                                                                                                        وإذا انهدم ما في يد أحدهما ولم يبن الآخر نقض القسم وليس الانهدام فوتا.

                                                                                                                                                                                        وإن قال أحد الورثة لا تردوا القسم وأنا أقضي جميع الدين من مالي كان القول قوله ولم ينقض القسم، وهو في ذلك بمنزلة أجنبي قال للغريم: أنا أقضيك دينك، فإن القسم يمضي على كل حال وإن كان الدين يغترق جميع التركة، وقد هلك في يد أحدهما لم يضمنه، وسواء كانت القسمة بالقرعة أو بالتراضي؛ لأن مقال الغريم معه من باب نقض القسم وهو كالاستحقاق فلا يضمن له شيئا ولا يضمن الأخ لأخيه شيئا؛ لأنه لا يستحق ميراثا إلا بعد قضاء الدين. [ ص: 5935 ]

                                                                                                                                                                                        فلو رجع الأخ على أخيه بقيمة نصف ما قبضه إذا كانت القسمة بالتراضي رجع عليه الغريم فأخذه منه; لأن الدين مبدأ على الميراث، وكذلك إذا كان الدين يغترق جميع الحاضر وبعض الهالك، لم يضمن من هلك بيده شيئا.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا كان يغترق بعض الحاضر والقسمة بالقرعة، فقيل لا يرجع من استحق ذلك من يده ولا يرجع عليه، وأرى أن القسمة تمييز حق ويكون بمنزلة ما لو قضى ذلك الدين أجنبي وهو أحسن، وقيل يرجع عليه ولا يرجع، وقيل هي بيع فيرجع ولا يرجع عليه، وإن كانت القسمة بالتراضي رجع ولم يرجع عليه. وبيان ذلك يأتي فيما بعد إن شاء الله.

                                                                                                                                                                                        فإن كانت التركة عينا وديارا، وكان في العين وفاء بدين الطارئ قضي الدين من العين ومضى القسم في الديار، ولا قول لمن أراد نقض قسمة الديار.

                                                                                                                                                                                        وإن كانت التركة عينا وعروضا وديارا، وقد قسم جميع ذلك قضي الدين من العين، وإن كانت التركة دورا وعروضا قضي من العروض; لأنها أقرب بيعا ومن حق الغريم أن يبدأ بما هو أسرع بيعا، ويمضي القسم في الديار وإن اقتسما ديارا وعبيدا فانهدم أحدهما أو حدث بالعبد عيب فبيع جميع السالم; لأنه أقرب بيعا رجع على أخيه فقاسمه تلك الديار وذلك العبد على ما هما عليه من الانهدام والعيب قولا واحدا، وإن بيع نصف السالم فكان رد النصف الباقي وانتقاض القسم أفضل له، أو أراد رد ذلك لغرض له في الرد، وإن كان أبخس عليه كان ذلك له بغير خلاف أيضا.

                                                                                                                                                                                        وإن اختار التمسك; لأن ذلك أفضل له كان ذلك له على أحد القولين، وقيل لأخيه أن يرجع عليه فمتى كان له رجوع من بيع ذلك من يده لم يراع [ ص: 5936 ] فضل ولا خسارة; لأن رجوعه نقض للقسم، فإن انتقض القسم ارتفع مراعاة ذلك، ومتى لم يرجع من بيع ذلك من يديه لم ينتقض القسم، وبقي كل واحد منهما على ما في يده من ربح أو خسارة، ومعلوم أنه متى علم أن الرد أضر به لم يرجع، ولا يختار أبدا إلا ما هو أفضل له ولا فرق بين أن يقول أجنبي: "أنا أقضي هذا الغريم دينه ليمضي القسم"، أو يقول ذلك صاحب الدين "أنا أرضى أن أسقط ديني ليمضي القسم"، أو يقول ذلك أحد الورثة "أنا أقضي جميع الدين أو أبيع بعض ما صار في الميراث وأقضي جميع الدين" فالأمر في جميع ذلك سواء في أن القسم الأول باق على هيئته وهذا أحسن لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" فإذا لم يرجع من رجع عليه الغريم، لم يكن لمن نقض ذلك من يديه مقال.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية