الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل: في صوم يوم الشك

                                                                                                                                                                                        اختلف في صوم يوم الشك على وجه التطوع، وعلى وجه الاحتياط خوفا أن يكون من رمضان، وفي الإجزاء به إن ثبت بعد ذلك أنه من رمضان، فأجاز مالك صومه على وجه التطوع، ومنعه على وجه الاحتياط أن يكون من رمضان.

                                                                                                                                                                                        وقال محمد بن مسلمة: من شاء صامه ومن شاء أفطره. يريد: يصومه متطوعا. قال: ويكره أن يؤمر الناس بفطره؛ لئلا يظن أنه يجب عليه فطر قبل الصوم كما وجب بعده، وقيل: يكره صومه تطوعا; لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقدموا الشهر بيوم أو يومين..." وحمل الحديث على عمومه.

                                                                                                                                                                                        وأجازت عائشة -رضي الله عنها- وأسماء صومه على وجه الاحتياط، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان" وأجاز ذلك عبد الله بن عمر، وأحمد بن حنبل في الغيم دون الصحو. [ ص: 776 ]

                                                                                                                                                                                        وأرى أن يجوز صومه على وجه التطوع; لقوله -صلى الله عليه وسلم- لأحد أصحابه: "هل صمت شيئا من هذا الشهر - يعني: شعبان؟ قال: لا، قال: فإذا أفطرت فصم يومين". ولا يجوز على معنى الاحتياط أن يكون من رمضان مع الصحو; للحديث في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقدموا الشهر بيوم ولا بيومين..." ولأن ذلك من الغلو والتعمق في الدين والاحتياط في غير موضع شبهة، ويجوز مع الغيم بل يؤمر به على طريق الوجوب أو الاستحسان، قياسا على الشك في الفجر مع الغيم، فلم يختلف المذهب أنه لا يكره بل يؤمر به على وجه الوجوب أو الاستحسان، ولا فرق بين السؤالين; لأن هذا في الليل بيقين وهو في زمن يجوز فيه الفطر، شاك هل دخل عليه زمن الصوم؟ وهل حرم عليه الأكل؟ وهذا في شعبان بيقين، وهو زمن يجوز فيه الفطر، شاك هل دخل عليه زمن الصوم، وأن يكون السحاب ستر الهلال كما ستر الفجر، والمذهب كله مبني على أنه لا يكره الأخذ بالاحتياط في محرم ومباح، مع وجود الشبهة.

                                                                                                                                                                                        وقد أمر مالك الحائض يتمادى بها الدم أن تستظهر بثلاث ثم تصلي وتصوم، قال: ورأيت أن أحتاط لها فتصلي وليست عليها، أحب إلي من أن تترك الصلاة وهي عليها، فرأى أن تمادي ذلك الدم مشكل هل هو حيض أو استحاضة؟

                                                                                                                                                                                        وقد كان [ ص: 777 ] الأصل الحيض، ومنع الصلاة والصوم، فأمرها أن تأخذ بالأحوط مع إمكان أن يكون حيضا، والحيض لا تصح معه صلاة ولا صوم تطوعا ولا غيره، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه..." وهذا يدخل فيه الصوم وغيره؛ ولهذا ذهب بعض أهل العلم أنه يصام بشهادة واحد ولا يفطر به; لأن شهادته لطخ أوجبت شكا.

                                                                                                                                                                                        ويختلف إذا شك في هلال ذي الحجة مع الغيم، فعلى قول مالك يكمل عدة الماضي ثلاثين، ولا يحتاط للوقوف، وعلى قول ابن عمر يحتاط للوقوف، فيقف يومين على النقص لذي القعدة، وعلى إكمال العدة.

                                                                                                                                                                                        وإذا صامه على وجه الاحتياط ثم تبين أنه من رمضان لم يجزئه عند مالك، قال أشهب في مدونته: وهو بمنزلة من صلى الظهر على شك من الوقت لغيم ستره ثم كشف الغيم فعلم أنه صلى في الوقت فلا تجزئه صلاته.

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ -رضي الله عنه-: وليس السؤالان سواء; لأن من شك في وقت الظهر مأمور أن يؤخر حتى لا يشك، ولا يقال له: احتط بتعجيل الصلاة في وقت [ ص: 778 ] يشك فيه، ومن شك في الفجر أو في الهلال مأمور أن يعجل الإمساك، وهو بمنزلة من شك في صلاة هل هي عليه أم لا؟ أو هل أجنب أو لا؟ فصلى أو اغتسل ثم تذكر أن ذلك عليه فإنه يجزئه، وكذلك المرأة يتمادى بها الدم فتحتاط بالصلاة والصوم بعد الاستظهار بالثلاث على أحد قولي مالك، لما كانت على شك هل هي حائض أم مستحاضة أنها تجزئها الصلاة والصوم إن تبين بعد ذلك أنه استحاضة.

                                                                                                                                                                                        وروي عن عطاء بن أبي رباح، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، والثوري، والأوزاعي، وأصحاب الرأي، فيمن أصبح صائما يوم الشك غير عالم بالهلال ثم علم في أوله أو آخره أنه يجزئه، وقد قيل فيمن صام رمضان قضاء عن غيره: إنه يجزئه عن الذي هو فيه; لأنه مستحق العين.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية